المحكمة الدستورية تُجرد محمد بودريقة من مقعده البرلماني بسبب غيابه دون عذر    وهبي يعرض مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد    المحكمة الابتدائية بالرباط تبرئ 27 من طلبة الطب والداخليين من تهم التجمهر والعصيان    عزيز غالي ينجو من محكمة الرباط بدعوى عدم الاختصاص    السفير هلال يقدم استراتيجية المغرب في مكافحة الإرهاب أمام مجلس الأمن    بنعلي: المغرب يرفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 45.3% من إجمالي إنتاج الكهرباء    ترامب يعتزم نشر جميع الوثائق السرية المتعلقة باغتيال كينيدي    مبارتان وديتان .. المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يواجه نظيره لغينيا بيساو يومي 23 و26 يناير الجاري ببيساو    توقيف متورط في شبكة للهجرة السرية بالحسيمة بحوزته 15 مليون    طلبة المعهد الوطني للإحصاء يفضحون ضعف إجراءات السلامة بالإقامة الداخلية    الغموض يلف العثور على جثة رضيعة بتاهلة    مسرح محمد الخامس بالرباط يحتضن قرعة كأس إفريقيا المغرب 2025    "لوموند": عودة دونالد ترامب تعزز آمال المغرب في حسم نزاع الصحراء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    إقليم جراد : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد    محكمة الحسيمة تدين متهماً بالتشهير بالسجن والغرامة    حضور جماهيري مميز وتكريم عدد من الرياضيين ببطولة الناظور للملاكمة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    الدوري السعودي لكرة القدم يقفز إلى المرتبة 21 عالميا والمغربي ثانيا في إفريقيا    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحقيق
الآلة التجارية التي تحيل تلفزيون المغاربة إلى كابوس رمضاني
نشر في المساء يوم 24 - 09 - 2008

تجسيد حي للمثل المغربي الذي يتحدث عن شخص يبيع القرد ويسخر ممن اشتراه، اتفقت القناتان العموميتان على التفنن فيه خلال شهر رمضان الحالي. تحذير مكتوب يسبق بث سلسلة «امبارك ومسعود» يخلي مسؤولية القناة من أي نحس يصيب مشاهدي السلسلة؛ وجلسات لجلد الذات في فطور الأولى، يكتم خلالها كل من عبد الله ديدان وفاطمة الإفريقي ضحكاتهما بصعوبة، وهما يسألان الضيوف عن آرائهم في الإنتاجات الرمضانية، فيلخصها البعض في «الرداءة» والبعض الآخر في «الفقسة».
نقاش تقليدي حد الابتذال، وجدل عقيم بات يقترن بالصوم والإفطار، كما لو كان طقسا دينيا أو موروثا اجتماعيا، كلما حل شهر رمضان وحلت معه نوبة تلفزيونية للإنتاجات الدرامية والفكاهية. ذات الأفكار تتكرر وذات الوجوه تعاود الإطلال على موائد إفطار المغاربة؛ ومعها نقاش محموم حول مستوى هذا البرنامج وتلك الفقرة. الجميع يتفرج والكل يلتقي بعد الفرجة لكيل النقد وترديد عبارات الشجب والاحتجاج؛ وذات آذان الطين والعجين تعود لتطبق على أسماع المسؤولين والواقفين وراء تلك الأعمال المثيرة للغضب أكثر من الضحك.
رحلة طويلة من «التحرير» والتجديد طالت هيكل وجسم الإعلام العمومي في شقه السمعي البصري؛ ومسحة من «العهد الجديد» إعلاميا اعتلت واجهة دار البريهي وقناة عين السبع، دون أن يفضي ذلك إلى إقناع المتتبع بجدوى التمسك بعبارات محمد الخياري وحركات عبد الخالق فهيد وزغاريد محمد الجم، ومعهم جحافل من «الكومبارس» المستعدين لترديد ما «كُتب» لهم وحتى ما لم يكتب.
فهل كان من الضروري أن تكون الفكاهة ملازمة لموائد إفطار المغاربة؟ وهل هي وصفة طبية أم تنزيل سماوي؟ ألم يكن من الأجدى إعلان وقفة تحتجب فيها مؤقتا فكاهة لا تضحك ولا تسلّي، وإفساح المجال للدراما مثلا من خلال بعض المسلسلات والمسرحيات والأفلام؟ تتساءل المخرجة بشرى إيجورك.
التهريج و«السيبة» الإعلامية
هذا الارتباط بشهر رمضان و«هذه الموسمية في الإنتاج تعكس كسلا وانعداما للمهنية في الاشتغال، فيبقى شهر رمضان مناسبة لتوفير بعض الفرص التي تخلق نوعا من التسابق نحو عقود الإنتاج»، يقول عصام اليوسفي، مدير المعهد العالي للفن الدرامي. فيما يرى الناقد محمد باكريم أنه بالإمكان «الحديث عن نوع من «المُوسم» السنوي للتلفزيون والفكاهة التلفزيونية، كما لو كان المشاهد المغربي «حارك» طوال السنة، ليعود إلى شاطئ الواقع خلال رمضان، بعد أن ملأ مخيلته بمجموعة من الصور عبر القنوات الفضائية، ليكتشف في رمضان أن لديه تلفزيونا وقناتين، فيما يفترض أن يكون ما يعرض في رمضان مرآة لما تقدمه القنوات التلفزيونية طوال السنة».
والخلل، في نظر المسرحي عبد الحق الزروالي، يكمن في هذا الرهان الأعمى على بعض الأسماء التي لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة، وبعض الوجوه التي لا تتوفر على الدراية الفنية وقواعد الفكاهة والفرجة. فإذا ما «استثنينا الخياري وفهيد والجم، هل أصبح هذا الوطن عقيما إلى هذا الحد؟»، يتساءل الزروالي. فيما تجيب بشرى إيجورك أن الأمر يتعلق بظاهرة مرضية لدى بعض الفنانين، الذين أصبحوا يعتقدون أن حركة باليد أو الرجل أو الفم ستضحك المشاهدين. وعدم الاحترام هذا، للذوق والمشاهد، وانعدام المراقبة أديا، في رأي إيجورك، إلى نوع من «السيبة الإعلامية» والتراكم لنفس الوجوه والشركات والقنوات. وسقط مسؤولو التلفزيون، عن قصد أو عن خطأ، في فخ وهو أنهم لم يفرقوا بين الكوميديا والتهريج، واعتقدوا أن الكوميديا هي التهريج، في رأي الزروالي.
«شخصيا لا أجد أي متعة في مشاهدة هذه الإنتاجات، لأنها مرتجلة ومبنية على نفَس قصير. فتجد أقل من واحد في المائة من تلك الأعمال يتوفر على نوع من الإحساس والتفكير في عرض الأفكار» في رأي عصام اليوسفي الذي يقول بضرورة تجاوز الهواية والعلاقات الزبونية، لأن هناك تكوينا على مستوى التصوير والإخراج، وكفاءات في كل هذه المجالات بما فيها التمثيل، «بل إن لدينا كفاءات فنية كبيرة لها مكانتها على الصعيد العربي. فالمشكل يكمن في الكتابة والإخراج، ذلك أن هناك مخرجين ب»التقادم»، أي الذين يكتسبون هذه الصفة بمجرد قضائهم فترة طويلة في التصوير».
لكن، لماذا شهر رمضان دون باقي شهور السنة؟ ولماذا هذا الإنزال المفاجئ في الإنتاجات المحلية؟ الجواب يأتي من محترفي الإشهار والدعاية، باعتبار أن نسب الاستهلاك والإقبال على الشراء تعرف درجاتها القصوى في هذا الشهر، ومن ثم ترتفع طلبات المعلنين لشراء الحصص الزمنية، وذلك في أوقات معينة بناء على نسب المشاهدة. أما عن الإنتاج المحلي، ف«في جميع مجتمعات العالم يكون المنتوج المحلي أولا، والمفارقة العجيبة أن المغاربة يتفرجون ويسبّون، أي أنهم يتفرجون ويجعلون من تلك المواد مصدرا لإنتاج خطاب»، يقول باكريم.
المنتجون الحقيقيون
شعار واحد يرفعه فريق المدير العام للقطب العمومي، فيصل العرايشي، في وجه سيل الانتقادات السنوية: نحن مستعدون لدعم أي إنتاج أفضل، وما نقدمه الآن هو كل ما لدينا في السوق. لكن «ما هو الدليل على أن «هذا ما عطا الله في السوق»؟ بل إن هناك عدد من المشاريع والملفات التي وضعتها أسماء مشهود لها في هذا المجال، لكنها تبقى مغيبة»، يقول عبد الحق الزروالي الذي يضيف أن هناك تبادلاً للمصالح بين بعض المسؤولين وبعض شركات الإنتاج، في إطار «عطيني نعطيك» وإغلاق الباب على البعض لفتحه مشرعا أمام آخرين.
خيوط هذا التبادل تعود إلى السنوات الأولى لعهد المدير العام الحالي، حين تم فتح المجال أمام ظهور شركات للإنتاج السمعي البصري. وجاءت التشريعات الجديدة المحدثة للقطب العمومي في هذا الاتجاه، لتنص على «تشجيع» قطاع الإنتاج السمعي البصري الوطني، عن طريق الاعتماد على الخدمات الفكرية والفنية والتقنية لمقاولات الإنتاج الخاصة، وذلك بنسبة لا تقل عن 20 في المائة سنة 2006، و25 في المائة عام 2007، و30 في المائة بداية من العام الحالي.
لتتناسل هذه الشركات بالمئات، ويبدأ مسلسل التهافت على ما يلقيه القطب العمومي من طلبات للإنتاج، ازدادت بتناسل قنوات القطب العمومي، ويصبح لتلك الشركات رقم معاملات يقدر ب250 مليون درهم سنويا. بالمقابل، تحول قسم الإنتاج، الذي أصبح مديرية للإنتاج، إلى ما يشبه الأطلال بقرار من الإدارة العامة. أزيد من عشرين إطارا قضوا سنوات من العمل التلفزيوني في مجال الإنتاج والمنوعات، أصبحوا عاطلين مقنعين رغم ما تكلفه أجورهم. وأصبح بعضهم يحترف صياغة الأفكار والمقترحات لإعداد برامج تنتهي في رفوف النسيان، وباتت مهمة هذه المديرية في أحسن الأحوال، ضمان سهرة أسبوعية. بينما يفترض في أي محاولة للتطوير، تحويل قسم الإنتاج إلى مختبر حقيقي لدراسة المشاريع ومراقبتها بكل صرامة، مع مواكبتها الدائمة. والغاية من ذلك، حسب مصادر من القسم، تفويض عملية الإنتاج بالكامل إلى شركات خارجية، في صفقات لا تخلو من استفهامات.
«لقد خلصنا العرايشي من هيمنة الأطر والموظفين الذين كانوا يحاولون الاحتفاظ بجزء كبير من الميزانية. لكن البديل لم يكن في الموعد وخرجنا من احتكار إلى احتكار آخر»، يقول المسرحي عبد الحق الزروالي، الذي يذهب إلى أن هناك مافيا تتستر خلف فيصل العرايشي، وتحمله المسؤولية عما يُقدم، وأن تجربة الإنتاج الخارجي كانت منطقية وناجحة، إلا أن تلك الشركات بدورها أصبحت تتهافت على الربح السريع.تهافت لم يكن ليستمر لولا رسالة بعثها الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي إلى مدير الإذاعة والتلفزة، يبيح فيها عقد صفقات الإنتاج الخارجي بالاتفاق المباشر بدل إعلان طلبات عروض وإفساح المجال للمنافسة؛ فكانت الرسالة ترخيصا استثنائيا مؤقتا تحول مع مرور السنين إلى قاعدة دائمة. بينما واصلت السياسات الجديدة إعدام مصالح الإنتاج الداخلية، بمبرر افتقارها إلى الكفاءة والنزاهة. فبادر المعنيون قبل أزيد من ثلاث سنوات، إلى تفجير الأوضاع بنشر تقرير مفصل يكشف طبيعة الصفقات القائمة بين الإدارة والشركات الخاصة، مما استدعى حينها استنفار كل من فيصل العرايشي ووزير الاتصال نبيل بنعبد الله، لتطويق الأمر، باعتباره تصفية حسابات من طرف بعض الأشخاص.ليصبح القرار غير المعلن إعدام قدرات الإنتاج الداخلي، والاتجاه إلى أي تفويض عملية الإنتاج للخواص. فاجتهد مسيرو القطب العمومي إلى درجة بات معها بعضهم يزاوج بين مهمته الرسمية في الشركة العمومية، وتدبيره لشركات خاصة، فيعقد أحدهم صفقات بين نفسه كمسؤول في القناة، وصفته الثانية كصاحب شركة للإنتاج. فيما توزع العاملون في قسم الإنتاج، المفترض فيهم مواكبة ما تقدمه القناة والتخطيط للرفع من جودته، إلى ثلاث مجموعات، الأولى مرتاحة لوضع العطالة المقنعة، والثانية تنتمي إلى جناح «نقابي» موال للإدارة، والثالثة استمرت في الإصرار على حقها في «الإنتاج».
«شركات الفكاهة الرمضانية»
ذات القصة تتكرر سنويا، الجميع ينتظر هلال جمادى الثانية أو رجب وشعبان، لتتقدم شركات الإنتاج بمقترحاتها إلى كل من القناتين الأولى والثانية. مشاريع أنيقة مصففة فوق ورق صقيل بكل عناية، ورفقتها حلقة «نموذجية»، تكفي لإقناع قناتينا العموميتين ب»شراء» المنتوج المعروض عليها، وبثه في وقت الذروة الرمضانية. «بينما تكون القنوات العربية قد بدأت في بث إعلانات مثيرة لآخر إنتاجاتها الفنية والدرامية الجاهزة، مقابل انهماك استديوهاتنا في عمل دؤوب يستمر حتى في أيام رمضان»، تقول بشرى إيجورك.
الغريب في أمر تلك الإنتاجات أنها باتت مرتبطة بجنس كوميديا الموقف «سيتكوم»، مع ما يتطلبه هذا الجنس من إمكانيات كبيرة وتقنيات خاصة للكتابة. «فهل كان من الضروري ربط الفكاهة بالسيتكوم، ويحدث هذا التهافت على جنس تلفزيوني يعتبر باكورة تراكم التجارب التلفزيونية العالمية؟»، يتساءل محمد باكريم. وبينما «كان يتم في مرحلة أولى الترويج لفكرة مفادها أن المنتوج الوطني هو دون المستوى، وذلك من خلال خطة تكليف بعض المخرجين والموظفين في جهاز التلفزيون بإفشال بعض مشاريعنا وتقديمها مشوهة إلى المتلقي، ليصلوا إلى ما أرادوه، وهو استيراد المنتوج العربي والأجنبي الذي يدر على «مسامير الميدا» أرباحا طائلة، في إطار التحايل على المبالغ التي كانوا يحصلون عليها في هذه الصفقات. فإن المرحلة الحالية، تكاد تعرف تكرار ذات الاستراتيجية بأسلوب آخر: ظاهريا يفسح المجال للإنتاج الوطني شريطة أن يكون رديئا، حتى نصل إلى القول بأن مصلحتنا في استيراد المسلسلات التركية والمصرية والمكسيكية، بحجة أن المواطن لم يعد يقبل الإنتاجات المغربية التي هي كل «ما كاين في السوق»»، يعلّق الزروالي.
لكن الأهم من محاكمة النوايا هو معرفة: بأي ثمن تنجز تلك الأعمال، ومن يستفيد من تلك الأرقام المليونية التي تتبجح القناتان بإعلانها كما لو حققت إنجازا. فبرامج رمضان الحالي كلفت ما يفوق الثلاثة ملايير في القناة الأولى، بينما ناهزت ميزانية مسلسل مثل «تريكة البطاش» 600 مليون، بعد أن كان هذا العمل موضوع صراع قوي بين صاحبه وإدارة القناة الثانية، لتنتهي القصة بتفكيك الحلقات الأربع للمسلسل وإعادة «خلطها» بمشاهد جديدة، ولا أحد يعرف الثمن الذي طويت به صفحة الصراع، رغم ما أبداه بعض المتتبعين من استحسان للمسلسل. أما «الأظرفة» التي تنتهي في جيوب الممثلين فهي عذرهم الأقبح من الزلة، إذ لا يترددون في تبرير مشاركتهم في الأعمال المعروضة، بحاجتهم المادية. ليغنم فنان مثل عبد الوهاب الدكالي ثلاثين مليون سنتيم مقابل ظهوره في إحدى سلسلات العام الماضي، أي مليون سنتيم مقابل كل حلقة. فيما تلقت آمال الأطرش نصف هذا المبلغ، أي أن الأمر لا يتعلق بفن «معيشي» يحصل منه الممثل على حد أدنى من العيش، بقدر ما تغريه كعكة لا يعدّها فيصل العرايشي إلا مرة واحدة في السنة.
«الفن دائم الارتباط بالمادة، وأكبر الإنتاجات التي تعرض في السنوات الأخيرة تكلف ميزانيات كبيرة. ولكي ينتج الفنان عليه أن يكون مرتاحا ماديا، أي أن الكلفة المرتفعة ليست عيبا في حد ذاتها»، تقول بشرى إيجورك.
بالمقابل، «كان الذين يشتغلون في المنتوجات الدرامية سابقا، يعملون في ظروف تقنية متخلفة وبتعويضات لا تصل إلى 10 في المائة من المستحقات الحالية. وكانوا رغم ذلك يقدمون منتوجات تحظى برضى نسبي، ودليل ذلك فقرة «ضحك اللوالا» التي تقدمها القناة الأولى» يوضح عبد الحق الزروالي.
آلة القصف الإشهاري
إذا كانت غالبية الصائمين تنتظر أذان المغرب بفارغ الصبر من أجل الإفطار، فإن القناتين العموميتين تضبطان مواعيدهما التجارية على عبارة «الله أكبر»، لتنطلق آلة القصف الإشهاري في إمطار المتلقين بوصلات إشهارية طيلة مدة الإفطار؛ إلى درجة أن القناة الثانية اختزلت أذان المغرب في اليوم الثاني من رمضان الحالي، في جملة «الله أكبر»، ليتوقف وتنطلق الوصلات الإشهارية فورا.
«كل هذه الأعمال الرمضانية ما هي إلا ذريعة لتمرير الوصلات الإشهارية، وهنا نتساءل ما إن كان لدينا تلفزيون عمومي. فهناك نوع من الماركتينغ الهادف إلى رفع جاذبية فترة الإفطار، يرافقه عنف رمزي يمارس على المشاهد المغربي»، يقول الناقد محمد باكريم. وعن سؤاله حول وجود تلفزيون عمومي، يفترض المسرحي عبد الحق الزروالي أنه موجود، «وإذا كان العكس فلمصلحة من؟ هل لإفساد ذوق المتلقي أكثر مما هو عليه الآن؟»، يتساءل الزروالي بدوره.
لكن خلف أسئلة السياسات التلفزيونية والخدمة العمومية تقبع أهداف مادية باتت القناتان تتسابقان حولها. مصادر من داخل القطب العمومي أكدت أن الهدف الوحيد للإنتاجات الرمضانية يبقى تلبية طلبات المعلنين، وتمرير الوجوه الملائمة لتسويق بضائعها في المواد «الفنية»، والحسم في ذلك للأقسام التجارية ومصالح الماركوتينغ بعيدا عن أعين المقاييس الإبداعية.
قاعدة توسيع قاعدة المشاهدة والرفع من عدد المتفرجين و«بيعهم» للمعلنين تكاد تلقى تسامحا في أدبيات الاتصال الجماهيري الحديث. لكن الأمر يتوقف عندما يتعلق الأمر بقنوات عمومية، إلى درجة ينعدم فيها الإشهار في محطات ال«بي بي سي» البريطانية مثلا. فيما تراجع القناتان العموميتان المغربيتان تعريفة الوصلات الإشهارية خلال شهر رمضان نحو الارتفاع، محددة سعرا خاصا بكل فترة، لتسجل مستوى قياسيا في فترة «الذروة» التي هي فترة تناول المغاربة للحريرة. ليبلغ ثمن الدقيقة الإشهارية في ساعة الإفطار 15 مليون سنتيم. فيما تبدأ لائحة الأسعار من ثلاث ثوان التي «تباع» بأزيد من 16000 درهم، حسب الوكالة التي تسوق المساحات الإشهارية للقناة الثانية. وإلى جانب الملايير التي تتلقاها القناتان سنويا من ميزانية الدولة، تحصد صناديقها ملايير إضافية من عائدات الإشهار، كما لو كانت محطات خاصة هدفها مراكمة الأرباح.
أكثر من ذلك، تتجاوز القناتان، خلال شهر رمضان بالخصوص، المدة الإعلانية التي تسمح بها القوانين خلال ساعة واحدة حيث ينص دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، مثلا، على أنه «لا يمكن أن تتجاوز المدة الإجمالية للوصلات الإشهارية 8 دقائق في الساعة كمعدل سنوي. بالنسبة إلى ساعة معينة، لا يمكن أن تتجاوز المدة الإجمالية للوصلات الإشهارية 16 دقيقة في سنة 2006، 15 دقيقة في سنة 2007، و14 دقيقة ابتداء من سنة 2008. إلا أنه يمكن تجاوز هذا السقف خلال شهر رمضان لبلوغ حدود 20 دقيقة و18 دقيقة و16 دقيقة على التوالي... يتوجب أن تفصل فترة لا تقل عن عشرين دقيقة ما بين وصلتين إشهاريتين متواليتين داخل نفس البرنامج، يمكن تقليصها إلى خمس عشرة دقيقة خلال شهر رمضان، وينبغي تمديد هذه الفترة الفاصلة إلى خمسة وأربعين دقيقة عندما يتعلق الأمر بالأعمال السينمائية... لا ينبغي لمستوى ارتفاع صوت الوصلات الإشهارية أن يتجاوز معدل ارتفاع صوت باقي البرامج».
«هذه القوانين مستوحاة من التوجيه الأوربي «التلفزة بدون حدود» في ما يخص الفترة المخصصة للإشهار في كل ساعة أو في اليوم أو الوقفات الإشهارية... وهناك حدود قانونية بين الإشهار والاحتضان، كما أن الإشهار يستعمل الصوت والصورة وتقنيات متطورة، ولا يكتفي بالوصلات الإشهارية»، يقول عبد المجيد فاضل، أستاذ اقتصاد وسائل الإعلام.
مقتضيات تكفي العين المجردة للمشاهد للوقوف على خرقها، حيث لا وجود لبرنامج تفصل فيه مدة ربع ساعة بين وصلتين إشهاريتين. فيما احترام المدة المسموح بها خلال ساعة واحدة كان موضوع تقارير من الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. «فسجل المجلس الأعلى حالات تجاوز في الحصص الزمنية المخصصة للوصلات الإشهارية... كما سجل المجلس تجاوزات تخص شروط الرعاية وتعيين الراعي، ومستوى الحجم الصوتي للوصلات الإشهارية، وكذا التمييز بين الوصلات وباقي البرامج»، يقول بيان صادر عن الهيأة عام 2005. لتعود الهيئة في السنة الموالية إلى إبداء «ملاحظات» مماثلة؛ فلماذا ينتظر مجلس الحكماء انصرام شهر رمضان ليبدي ملاحظاته في أحسن الأحوال؟. «للهيئة الوسائل الكافية للمراقبة، لكن هناك إشكال يهم شهر رمضان، حيث يرتفع طلب المعلنين، وبالتالي فعلى القنوات أن تبحث عن وسائل لا تمس المشاهدين، وتوفق بين مصالحها ومصالح المشاهدين»، يقول عبد المجيد فاضل.
«القطب الخصوصي»
غياب الكتابات الإبداعية الحقيقية والارتجال في إعداد المواد الفنية والفكاهية وغياب لجان قراءة النصوص، كل ذلك يعيق عملية إبداع برامج فكاهية ودرامية تحترم ذكاء المغاربة وما ينفقونه من أموال في دعم تلفزيونهم العمومي. وإسناد عملية الإنتاج إلى «قطب خصوصي» أعفى القطب العمومي من مهمة الحرص على جودة ما تقدمه قنواته، بالإضافة إلى سياق نشأة هذا «القطب الخصوصي» وحيثيات صفقاته مع نظيره العمومي. ثم تحول التلفزيون العمومي إلى شركات تلهث وراء المنطق التجاري وعائدات الإشهار، مما حولها إلى كتلة من الاستفهامات حول جدوى انتسابها العمومي. كل ذلك «يفرض تنظيم مناظرة وطنية بعد عيد الفطر مباشرة، تتفرع عنها لجان وتوصيات ومجلس متابعة ووصاية، يعمل على وضع مشروع استراتيجية تلفزيونية للموسم بكامله وليس رمضان وحده»، يقترح المسرحي عبد الحق الزروالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.