مقتل شخص في حادث إطلاق نار جديد ببروكسيل    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    كتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية تستهدف تكوين 30 ألف متدرج في مجال الصناعة التقليدية (لحسن السعدي)    المغرب يشارك بفريق قاري في عدد من السباقات الدولية بتركيا    أمن البرنوصي يعتقل 14 شخصاً لتورّطهم في تخريب ممتلكات خاصّة    إيمان غانمي ل "رسالة 24" : تمرير قانون الإضراب يعكس توجها استبداديا    لسعد جردة: لم أكن أتوقع العودة بهذه السرعة لتدريب الرجاء البيضاوي    طنجة تحتضن ندوة علمية حول مشروع قانون المسطرة المدنية: دعوات لتعزيز فعالية العدالة واستقلالية المهن القضائية    مجلس النواب يعقد جلسة عمومية تخصص لاختتام الدورة الأولى من السنة التشريعية 2024-2025    شكايات متزايدة ضد إدارة المياه والغابات بشفشاون بسبب تعرضات عقارية مشبوهة وحجز طيور زينة بموقع سياحي    كاني ويست يعلن إصابته بمرض التوحد    الدوزي يشوق جمهوره لجديده الفني "آش هذا"    وزارة الصحة تؤكد تعليق العمل بإلزامية لقاح الحمى الشوكية بالنسبة للمعتمرين    إطلاق حملة تلقيح ضد الحصبة بالمدارس وتوزيع استمارة الموافقة على آباء التلاميذ    "الفيفا" تُوقف منافس المغرب في كأس العالم    عاجل.. "الأول" يكشف تفاصيل اختطاف سيدة بسيدي بنور بأسلوب العصابات    كأس العالم 2030.. فرصة مهمة للشباب المغربي (لقاء)    بنك المغرب: 78 في المائة من المقاولات تعتبر مناخ الأعمال "عاديا"    الذهب يتجه نحو سادس مكسب أسبوعي على التوالي    شركة بريطانية تطلق خطين جويين نحو المغرب    سفير مصر بالمغرب يلتقي ممثلي الجالية لبحث قضاياهم وتعزيز التواصل    عقوبات أمريكية ضد المحكمة الجنائية    إسرائيل تشيد بمعاقبة المحكمة الجنائية    الصين تدعو إلى استبدال البلاستيك بالخيزران..    مجلس النواب ينهي دورته الخريفية الخميس المقبل بحضور رئيسة مجلس الحسابات    المغرب يوصي المعتمرين بأخذ اللقاح    رئيس رواندا يستقبل بوريطة والمنصوري وحديث عن وساطة مغربية لتلطيف الأجواء بين كيغالي وكينشاسا    مجسّد شخصية زاكربرغ: رئيس "ميتا" تحول إلى "مهووس بالسلطة"    طنجة.. اختتام منتدى "النكسوس" بالدعوة إلى تدبير مستدام للموارد    أنفوغرافيك | حسب الجهات ووسط الإقامة.. معدل البطالة لسنة 2024    قرار جديد من السعودية يسهل أداء مناسك العمرة    فيدرالية اليسار بأزيلال ترفع شكاية بشأن خروقات في تدبير الجماعة    رغم التوتر.. كندا تبدي استعدادها للانضمام إلى مشروع ترامب    تعليق العمل بإلزامية لقاح الحمى الشوكية بالنسبة للمعتمرين (وزارة)    عمدة ميونخ يرفض استضافة دوري الأمم الأوروبية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    تهجير الفلسطينيين: حملة تضليل مكشوفة.. كيف تُصنع الإشاعات لاستهداف المغرب؟    الولايات المتحدة تأمر بوقف عشرات المنح المقدمة لبرنامج الأغذية العالمي    كأس انجلترا: ليفربول يتأهل للمباراة النهائية بفوز عريض على توتنهام (4-0)    ‪ إلغاء لقاح الحمى الشوكية للمعتمرين    فيدرالية الاحياء السكنية بالجديدة تستعرض قضايا المدينة وحصيلة انشطتها الاخيرة    إنتخاب المستشارة الاستقلالية مينة مشبال نائبة سابعة لرئيس جماعة الجديدة    الزهراوي: خبر إمكانية استقبال المغرب للفلسطينيين المهجرين "شائعات مضللة"    لقجع: افتتاح مركب محمد الخامس بالدار البيضاء نهاية شهر مارس المقبل    مسيرة عظيمة.. رونالدو يودّع مارسيلو برسالة مليئة بالمشاعر    غوغل تطور تقنيات ذكاء اصطناعي مبتكرة لتحدي "DeepSeek"    "جامعيو الأحرار" يناقشون فرص وإكراهات جلب الاستثمارات إلى جهة الشرق    الشاب خالد، نجم الراي العالمي، يختار الاستقرار الدائم مع أسرته في طنجة    بايتاس يكشف الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة بشأن لقاح التهاب السحايا    نورا فتحي بخطى ثابتة نحو العالمية    إنتاجات جديدة تهتم بالموروث الثقافي المغربي.. القناة الأولى تقدم برمجة استثنائية في رمضان (صور)    6 أفلام مغربية تستفيد من دعم قطري    بعد عام من القضايا المتبادلة.. شيرين عبد الوهاب تنتصر على روتانا    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة


الحلقة 5
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها/ الجزء 2
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة.
أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
*-*-*
الكركور القبر
لقد لاحظنا في الحالات السابقة أن الكركور لا يزيد، حسب التفسير الذي يقدمه له المسلمون، عن أن يكون تمثيلاًً لمزارة ولي، وأن هذا الولي يكون في معظم الأحيان مدفوناً في موضع يبعد كثيراً عن ذلك الكركور. كذلك هو الشأن في كركور سيدي احماد أو موسى الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقوم على بعد بعد مائتي كيلومتر من قبر هذا الولي. لكن كثيراً ما يُحمل الكركور على القبر نفسه، ولو لم يوجد فيه نصب يدل على أن الولي دفين فيه. فهذه الكراكر قد أقيمت لأموات ليس للناس بهم معرفة كبيرة، وقد لا يكونون يعرفون بغير اسمائهم. ولدينا مثال ناطق بهذا الأمر في الكركور المقام للالة عيشة والموجود على جانب مقبرة تينمل في [بلاد] الكنتافي. فهذه مقبرة عظيمة تضيق بما حوت من قبور. فبعضها قد أحيط بالكثير من التوقير وجُعل له حوش من الحجارة من غير طين. وأما قبر لالة عيشة فهو على هيأة يشذ به كثيراً عن سائر الأضرحة والمزارات. فهو عبارة عن كومة من الحجارة أقيمت على جانب الطريق، وكلما مر به واحد من التبركين وضع عليه حجراً. وفي قمته حجران أو ثلاثة أحجار غليظة على هيأة عمود. وتُرى بعض قطع الأخشاب متخللة تلك الحجارة أو متناثرة من حول ذلك الكركور. فإذا سألت الأهالي من تكون هذه الولية، وفي أي وقت عاشت، وهل إن رفاتها ترقد حقاً في هذا الفقر، لم يحروا جواباً.
الكركور المجهول
وفي الأخير فقد تسمع من يقول أحياناً إن الكركور قبر لولي لا يُعرف له اسم؛ فهو لا مجرد مزارة بسيطة؛ أي مكان يزوره المتبركون، ويزيدون حجراً إلى كومة الحجارة القائمة فيه. وقد جئنا ههنا بصورة لواحد من تلك المزارات البدائية (الصورة 15). وفيه نرى حيث كومة الحجارة، التي ليست مع ذلك بالكبيرة، تعلوها كومتان من الحجارة تجد لها أشباهاً ونظائر في معظم الكراكر. والمجموع قد أحيط بسياج من النباتات الشوكية والقصب. فمتى
حجارة على جدران الأضرحة
سألنا الأهالي عن اسم الولي الذي يرقد تحت هذا النصب الصغير لم يحروا جواباً شفي غليل الباحث، كمثل أولئك الجزائريين الذين استفسرناهم في شأن واحدة من مزاراتهم العديدة والمجهولة الأسماء.
والحالة التي يُمثل فيها لضريح الولي بكركور تقوم العرف الجاري على أن يزيد إليه المار به حجراً، تساعدنا على الانتقال إلى حالة الولي الذي يعرفه الناس ويوقرونه لما له من كرامات، والذي يكون له مزار تضع الزوار على حيطانه الحجارة كفعلهم بالكركور.
ومما يُذكر في هذا الصدد، على سبيل حصر الأفكار، أن في الطريق من الصويرة إلى مراكش، تنتصب أمام نزالة المقدم مسعود حويطة سيدي ديان، الغريبة بمظهرها الوحشي العظيم والقديم، وأبراجها المتهدمة، وعلى حيطانها الكثير من الحجارة وضعها المبركون برسم القرابين.
والأمر نفسه نلاقيه في ضريح سيدي علي الشفاج الواقع بقرب باب اغمات في مراكش، فهو يشتمل على قبة وحويطة بها بئر يعرف ماؤها بطبيعة الحال ذا خصائص عجيبة. وتكتسي جدران هذه الحويطة، كما نرى في الصورة التي التقطناها لها، بأكوام صغيرة من الحجارة لا نعدمها في أغلب الكراكر. والزائر يجوز سور [حرم] الولي ويشرب من ذلك الماء ويضع حجراً فوق السور أو يضع ذلك الحجر فوق كومة من الحجارة، وقد يفعل ما هو أكثر من ذلك فيقيم بنفسه كومة أخرى من الحجارة، ثم يدخل للصلاة. والأضرحة التي في مراكش معظمها مسور بحوائط ذات علة نسبي، وكثيراً ما نرى عليها حجارة من وضعها المتبركون.
نظرية القربان
بيد أن هؤلاء الزوار لا يملكون بوجه عام تفسيراً لتلك الممارسات، وليس بمستطاعهم أن يأتوا بتفسير لها؛ وحدهم المتنورون والمتعلمون من المسلمين يأتوننا بتفسير لتلك الممارسات، متى وجدت منهم من يهتم لهذه الأمور، لأن المتعلمين منهم لا يهتمون لهذه العادات، فمن قائل إن ذلك الحجر يقوم تمثيلاً للقربان، وقائل إن ذلك الحجر يوضع في طلك المكان ليكون ضمانة للأمنية التي عقدها الزائر على الولي.
ويجدر بالإشارة أن ما يسمى ههنا بالقربان المقدم في صورة حجارة أمر شديد الشيوع ولاسيما في الأضرحة الأكثر شعبية. ولا تكاد ترى لهذا الطقس وجوداً، أو لا ترى له وجوداً على الإطلاق في أضرحة مشاهير الأولياء؛ من أمثال سيدي بلعباس السبتي ومولاي إدريس. بل يمكننا أن نذهب إلى حد القول إن الطقوس المتعلقة بالحجارة يكون أكثر انتشارها في أضرحة الأولياء من غير ذوي الانتساب القوي إلى العقيدة الإسلامية. ومن قبيل ما نقول أن مغارة لالة تاقندوت، في حاحا، وهي المغارة التي سنعود إليها بالحديث في ما يقبل، والتي نقف فيها على طقس وثني لم تبدل منها عملية الأسلمة غير اسمها، هذه المغارة تكثر فيها أكوام الحجارة فلا يخلو منها موضع من أولها إلى منتهاها، بحيث يتعين على الزائر أن يسير فيها بحذر حتى لا يسقط كومة من تلك الأكوام. وأكثر ما تنتشر هذه العادات مجتمعة في الحوز. والمؤكد أن الكراكر يقل وجودها كثيراً انتشار أيضا في الغرب، وكذلك لا تجد العادة المتمثلة في حمل الحجارة إلى الأضرحة في منطقة الغرب دون شيوعها في منطقة الجنوب من المغرب، وإن لم تكن بالمجهولة فيها. ويجدر بالإشارة في الأخير أننا نجد الناس اعتادو في كثير من البلدان أن يرموا على الكراكر أو على قبور الأولياء من أغصان الأشجار والعصي بموازاة لرميهم عليها بالحجارة، أو يغرسون تلك العصي في أكوام الحجارة المقدسة أو يغرسونها في القبور (الصورتان 14 و25).
وجهة نظر علماء الاجتماع
لقد عرضنا للوقائع وسقنا التفسيرات التي يقدمها لها الأهالي في عين المكان. ويسوغ لنا الآن أن نتساءل عن معاني كل هذه الطقوس وعن أصولها. ويجدر بنا أن نلاحظ أولاً أن مثيلة لهذه الطقوس توجد عند معظم شعوب العالم، وأنها قد لقيت الدراسة من علماء متخصصون.
لقد جيء بتفسيرات كثيرة لهذا الأمر. فإذا رجعنا إلى معظم دارسي العراقة ودارسي الفولكلور، ورجعنا لايبرشت وإلى أندري، اللذين أفردا مسألة رمي الحجارة ببحثين خاصين، وجدناهم يحلون هذا الطقس محل التضحية أو القربان يقدم إلى الآلهة أو إلى الجن أو إلى أرواح الأموات. وأما في بعض الحالات الخاصة، وأبرز نموذج لها هو رمي الحجارة [الجمرات] الذي يؤمر به لمن يحج إلى مكة، فإن هذا الطقس يكون يرمز إلى اللعنة التي تطوق بعض الآلهة المهجورة، أو الاحتقار الذي يتملك شخصاً بما ارتكب من ذنوب. ويذهب هارتلاند إلى القول إن الحجر الذي يُزاد إلى كومة الحجارة المقدسة يرمز إلى اتحاد المؤمن مع الروح أو الإله الذي في كومة الحجارة المقدسة؛ من قبيل حبات الشعير التي كان اليونانيون يرمون بها في ما يقدمون من قرابين على الضحية، كانت تُستبدل في بعض الأحيان بالحجارة.
وأما الأطروحة التي جاء بها فريزر، وكانت أول أطروحة شاملة فيهذا الباب، فهي تختلف عما ذكرنا. فهو يذهب في عمله الرائد الموسوم «الغصن الذهبي»، إلى أن نقل الشر إلى في حجر أو إلى إنسان أو حيوان بواسطة الحجر هي ممارسة سحري كانت شائعة عند سائر البدائيين في العالم، وانطلاقاً من هذا التصور يعمد إلى تفسير الوقائع التي تهمنا في هذا الصدد. فأكوام الحجارة أو أغصان الأشجار التي تلاقينا في الطرق ونراها خاصة في قمم الجبال، والتي يرمي المار عليها بحجر أو يضع فوقها من أوراق الأشجار بعد أن يحك جسمه بها، أو يرمي عليها بحجر بعد أن يبصق فيه، هي ممارسة جارية عند مختلف الشعوب؛ يجتمع فيها شعوب إفريقيا وأمريكا وقيوانوسيا. ولا يتردد فريزر في التأكيد على أن هذا الطقس يكون بغرض دفع التعب عن النفس. «فالبدائي يرمي بتعبه بما يرمي ذلك الحجر، (أو Projecit بتعبير الرومان)... فهو يرمي بالحجر كأنما يبصق». فالبدائي يرمي بتعبه مع الحجارة كما قال احد الرومان..: «إنه يرمي بحجارة كما يبصق».
إلقاء الحجارة في المضايق
إنه التفسير الوحيد الذي جيء به لهذا الطقس عند الشعوب البدائية. فقد كان البدائي إذا ارتقى بعض آلاف الأمتار، وبلغ أحد المضايق الشاهقة، وهو يتميز من التعب والإجهاد، فإذا انتهى من ذلك الصعود ذهب عنه الإعياء وشعر بذلك الارتياح التلقائي الذي يجده جميع الناس؛ فتراه يعزو ذلك الارتياح إلى الطقس المتمثل في رمي الحجارة. وفي هذا تفسير لتلك الأكوام من الحجارة لا يخلو منها مكان من العالم وتكثر خاصة في المضايق العالية التي يرد عليها الزائرون، كما نلاقيها بطول الطرق وفي ملتقياتها. تلك هي «المراجم» التي ورد ذكرها في «سفر الأمثال» تحدث عنها وتشبه كتابة الأمثال على الحجارة عند اليونان والتي ترجمها مارسيري والتي ذكرت في جميع بلدان العالم. وليسو كلهم ناتجين عنا لرغبة في إزالة التعبن بل إن البدائي يدفع عنه بهذا التصرف كل شيء سلبي. ويرى فرايزر – من اجل الدفع بنظريته إلى الأمام – أن البدائي يصاب بهلع شديد في مكان جريمة ما أو مكان قاحل ويصبح ضحية لأحاسيس وذكريات تحاصره، حيث يتخيل أشباحا مخيفة فيبدأ في البحث عن نقل هذه التمثلات إلى أشياء الأرواح فيها مثل الحجارة أو فروع الأشجار التي يمكن أن تلبس الشر بدله وبعد ذلك يفر. ومن هنا يأتي أصل وجود أكوام الحجر في المكان الذي اغتيل فيه إنسان ما.
إلقاء الحجارة على القبور
وربما كان هذا المكان هو نفسه قبر الضحية، لكنه أمر لا يكون إلا في القليل الناذر. ومع ذلك فالعرف المتمثل في رمي الحجارة على القبر، من غير أن يكون صاحبه مات قتيلاً، نراه شديد الشيوع. يقول فريزر في تفسيره إن الإنسان البدائي ييريد به أن يدفع عن عدوى الموت التي تملك عليه نفسه ويتصورها شيئاً ملموساً. وقد حكى لي أحد المسلمين أن له صديقاً «طالبْ» كلما ذهب لزيارة قبر أبيه والدعاء له يضع فوقه رجماً صغيراً.
ويعتبر التطير من الإصابة بعدوى الموت من الأمور الثابت وجودها عن سائر الناس في هذا العالم؛ وهو السبب نفسه الذي يدفع بالناس إلى النأي بأنفسهم عن القاتل. وبذلك يرد فريزر إلى أطروحته الأسطورةَ التي تتحدث عن رجم الآلهة لهرمس قاتل أركوس. ولا توقف الأمر عند هذا الحد. فقد أشار الباحث الأنجليزي إلى أن هذا الطقس المتمثل في رمي الحجارة قد اكتسى بعدئذ صبغة دينية؛ فقد تطورت عبادة أرواح الأموات لتحل محل تلك العادة البدائية، والمؤلف يسوق أمثلة كثيرة لرمي الحجارة يصحبه تقديم قرابين وتلاوة أدعية...إلخ، وهو أمر يحدث حتى بإزاء أكوام الحجارة الموضوعة عند مضايق الجبال. وفي الأخير عادت الغلبة إلى تقديم القرابين وتلاوة الأدعية. وهذا مثال على تحول الطقوس السحري إلى طقوس دينية.
ولا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن هذه النظريات المختلفة متناقضة بالضرورة، فلا نرى سبباً لأن يكون حمل الحجارة إلى كومة أحجار أو وضعها فوق قبر لا يصدران عن أصل مختلف حسب المناطق، وسنرى أن في الإمكان الجمع بين نظرية القربان ونظرية دفع الشر. فالأطروحة الأولى بين هاتين الأطروحتين ليست سوى التفسير الشائع الذي يأتي به المتبركون للطقس المتمثل في حمل الحجارة إلى ضريح الولي من الأولياء، وهي تكفي تكفي لتفسير هذه الطقوس في الوقت الحالي، لكنها تبقى عاجزة عن تقديم تفسير السبب لرمي الحجارة في المضايق العالية، وهو طقس نلاقيه عند الشعوب أشدها اختلافاً، ولا تجد له في معظم الأحيان صلة بالدين. عدا أنه يبدو من المستبعد أن يكون رمي الحجارة يعتبر وسيلة لاستمالة روح من الأرواح؛ وأما أن يكون ذلك الحجر تمثيلاً لقربان فتلك عملية فكرية لاقدرة للإنسان البدائي عليها. فالإنسان لم يلجأ يوماً إلى اصطناع الرمزية إلا لترجمة الطقوس التي لم يعد يستطيع فهماً للغرض منها أو لم يعد يريد التصريح بها. وقد عبر فريزر عن هذا المعنى ت عن الأذواق التي يمكن أن تكون لهذه الكائنات الروحية، تعبيراً فيه الكثير من الذكاء قال فيه : «يصعب علينا أن نتحدث حديث المستيقن عن الأذواق التي يمكن أن تكون للكائنات الروحية، لكن هذه الأذواق لها بوجه عام شبه كبير بأذواق سائر الناس، ويمكننا أن تجزم، دونما خشية من اعتراض المعترضين، على أنك لن تجد كثيراً من هؤلاء يقبلون أن يتعرضوا للرجم من كل عابر يمر بهم تحت ستار تلقي قربان».
وفي المقابل فإن أطروحة فريزر تفسر لنا أصول هذا الطقس أوفى تفسير وأكثره انسجاماً وما أفادنا العلم بشأن فكر البدائيين. ثم إننا نجد في هذه الأطروحة تسعفنا عند اللزوم بتفسير للفعل التمثل في وضع الحجارة فوق القبور. غير أنها تغدو أقل إقناعاً عندما نطلب فيها تفسيراً للحجر يقدم إلى الولي برسم القربان، وإن تكن لها في هذه الحالة قواسم اشتراك مع أطروحة القربان. ويمكن أن نأخذ كذلك بأطروحة طرد الشر، ولو على سبيل التفسير الدزئي، حتى في الحالة التي تبدو فيها عملية رمي الحجارة على القبر تمثيلاً للاحتقار. عدا التعبير عن الاحتقار يبدو في هذه الحالة شيئاً لاحقاً على التفكير البدائي وغريباً عنه.
سنحاول أن نُعمل نظرية فريزر على مجموع الوقائع التي سنتناولها بالدراسة، وسنرى أن فريزر يأتي فيها بنظرية عامة، لكن في الإمكان تتميم هذا التفسير بآخر، وأن في الإمكان الدفع بتفسيرات أخرى في ما يتعلق ببعض الجوانب والتفاصيل في تلك الوقائع. ولقد أبانت الدراسة الاجتماعية التي تناولت البدائيين، كما هو معلوم، عن وجود خليط كبير من المعتقدات والتناقضات المتعددة في ذهن الإنسان البدائي وفي تفكير الإنسان الهمجي. وأبانت الدراسة المقارنة للخرافات أن الإنسان البدائي والإنسان الهمجي تتعايش لديه مجموعة من المعتقدات الخرافية في معزل عن بعضها، ولا يبدو أنهما قد اهتما للتوفيق بينها. والحقيقة أننا لن يتأتى لنا قط أن نتمثل على وجه الدقة الحالة الذهنية للإنسان البدائي، وسيظل يعسر علينا أن نبحث في معتقداته. والذي يبدو للوهلة الأولى أن الدراسة المعمقة للطقوس [البدائية] سيكون فيها نفع كبير في هذا الباب، بالنظر إلى أن تمثل، بوجه عام، التعبير الموضوعي عن حالات النفس البشرية. بيد أن الأمر لا يخلو من التباس.
أولاً لأن الطقس الواحد يمكن أن يكون بطبيعة الحال تعبيراً عن معتقدات مختلفة. فقد كان الاعتقاد سابقاً أن رمي الحجارة يكون بغرض طرد الشر، وقد أصبح الاعتقاد اليوم أنه يُقدم برسم القربان إلى الولي، ولا يبعد أن يأتي بعدئذ اعتقاد آخر ينسخ الاعتقاد الحالي؛ وما دام الاعتقاد الأول قد طاله التغير فما الذي يضمن لنا أنه قد كان هو الاعتقاد الأول بالفعل؟ ولذلك فإن في الإمكان أن يكون الطقس الواحد يؤدي وظائف عدة في وقت واحد؛ فالوشم على سبيل التمثيل يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الزينة، أو وسيلة للاختبار، أو علامة دالة على القبيلة، ويمكن اعتباره كذلك رقية سحرية أو مجرد وسيلة للوقاية من الأمراض؛ على نحو ما يكون العضو الواحد في الجسم الحي، وليكن الكبد على سبيل التمثيل، يقوم بوظائف على اختلاف كبير. كما أن الوظيفة الواحد قد تضطلع بها في الأجسام الحية عدة أعضاء؛ من قبيل الاهتداء إلى الاتجاه، وإنتاج الكريات البيضاء. وكذلك هو المعتقد الواحد يمكن التعبير عنه بطقوس شديد الاختلاف بينها، وإن في الظاهر. وسنبين بعد قليل أن العُقد التي تُجعَل في أغضان الأشجار، والخرق تُعلَّق فيها والحجر يُرمى على الكراكر هي طقوس مختلفة لكنها تجتمع على طرد الشر.
وقد كان من شأن هذا الالتباس أن يثبط همتنا، ويصور لنا أننا لن نخلص إلا إلى نظريات ناقصة؛ لو لم نكن نعرف أن العلم بحاجة إلى فرضيات مؤقتة، بشرط أن نعود عليها بالتوسيع من نطاقها ونعمل بالتدريج على استكمالها؛ وأن نأخذ بالقاعدة التي قال بها باكون، وما كنا لنسود هذه الصفحات لو لم نكن متشبعين بهذا المبدإ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.