موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
نشر في بيان اليوم يوم 04 - 08 - 2011


الحلقة 2
المسلمون لا يخشون أن يفقدوا استقلالهم، بقدر ما يخشون أن يقعوا تحت حكم الكفار
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
**-**
مرض الجراد
ولاشك أن الجزائريين يتذكرون ذلك النقاش الطويل الذي دار يومذاك في مدينة الجزائر حول إمكانية القضاء على الجراد بتعريضه لجوائح لازهرية اصطناعية. وهذه سؤال قديم، يعود فضل السبق في طرحه إلى السيدين كورنو وبرونيار في مداخلاتهما التي قدماها في أكاديمية العلوم خلال سنوات 1878 و1879 و1881. ثم جاء السيد لومول، بتجاربه في القضاء الدود الأبيض باستعمال ال Botrylis tenella، فأعاد من جديد طرح ذلك السؤال، الذي بات سؤالاً حارقاً في مدينة الجزائر في سنة 1891. بل كان يحدث أن تبلغ النقاشات أقصى مبالغ الحدة؛ فقد كان يجري استعمال لازهري شكِّيل، وهو مستحضر شديد المفعول، كان يُتداول in ritro جهود العلماء. وفضلاً عن ذلك فإن تلك التجارب قد ظلت حبيسة، والناظر إلى فلول الجراد التي اجتاحت عين كديد يتذكر بكثير من الحزن والأسى ذلك الصراع العلم.
ظللنا نسير خلال الأجمات والأدغال، واجتزنا وادي أولاد جرار الذي لم يكن يجري فيه من الماء إلا كخيط رقيق. وأولاد جرار فخدة من قبيلة الكبرى مديونة التي تقوم على ترابها مدينة الدار البيضاء. وكانت الأرجاء مخضرة بما يكسوها من نبات الترمس ووريقاته البديعة وينشر عليها عناقيد أزهاره الزرقاء. ورأينا خلالها كذلك صليبية بيضاء عظيمة وزهرة متفردة جميلة كأنها من فصيلة نبات العنصل. وقد كانت القوافل كثيرة، والبادية معتملة بالنشاط، لكن الدواوير لم تكن تتلقى الكثير من الزوار. وفي الساعة الثالثة وأربعين دقيقة جئنا إلى دار بن عبيد. وفي الساعة الرابعة والنصف حططنا رحالنا في نزالة مولاي زيدان.
النزالات
تشكل هذه النزالات، كما هو معلوم، دواوير صغيرة، وقد لا تزيد عن مسوَّر تحدد السلطة الإدارية موقعه، ويجد فيه المسافر مأوى آمناً مقابل أجر زهيد. والرسم يؤدى عن البهائم وليس عن الأشخاص، ويبدو أن اليهود والمسيحيين كانوا من قبل يؤدون تلك الرسوم عن أشخاصهم، وأما على الصعيد العملي فما عاد أصحاب تلك النزالات يجرؤون اليوم على مطالبة المسيحيين بشيء من تلك الرسوم، وأما اليهود فلا يزالوا ملزمين بها إلى اليوم. وأصحاب النزالات مسؤولون عن أمن المسافرين الذين يتوقفون عندهم، وأما من جهة أخرى فإنه كثيراً ما يخلي نفسه من كل مسؤولية عن المسافرين الذين ينصبون خيامهم بمنأى عن النزالات فيأتون للاشتكاء مما يتعرضون له من أنواع المنغصات. وقد يحدث في أوقات الاضطرابات كذلك أن يمنع السلطان عن القوافل أن تتجاوز النزالات ولا تبيت فيها، ولو عن لإحدى القوافل أن تتجاوز عن النزالة ولا تبيت فيها، فينبغي أن يثبت القائمون على النزالة بمحضر أن القافلة لم تذعن إلى أوامرهم بالنزول فيها، فتكون هي المسؤولة على ما يحدث لها.
التخييم في النزالات
وتوجد النزالات على أطراف جميع الطرق التي يكثر سلوكها في المغرب. لكن النزول فيها غير مريح، فليس على أرضها من غطاء سوى فضلات البهائم، فهي لذلك تعج بالهوام والحشرات، وإذا خرج المرء منها لم يأمن على نفسه هجوم الكلاب الشرسة. ولم نصب في مقامنا هذا المساء بوجه راحة كثيرة، فقد لبثنا طوال الليل في انزعاج من المواشي التي كانت كانت تتجول من حول ذلك المكان فتعلق قوائمها بحبال الخيام فتهزها هزاً عنيفاً يبعث الروح في نفوسنا. ثم إننا لا نزال حديثي عهد بالترحال إلى المغرب، وقد صرنا في ما بعد ننتبه إلى الفوائد التي سنصيبها من تلافي الإقامة في النزالات، وأن ننصب خيامنا في العراء بجوار الدوار.
الخيمة العربية
لقد باتت الجزائر وتونس اليوم معروفتين على أوسع نطاق، وبات الزائرون إليهما كثرة كثيرة، ولقد أفاضوا في تصوير الدواوير والخيام فيهما، بما يجعلنا في حل من أن نشرح للقارئ معنى الدوار ونعرِّفه كيف تكون الخيمة العربية. وأنت تجد التطابق على هذا الصعيد، وعلى أصعدة أخرى، بين سائر أقطاع شمال إفريقيا. لكن يجدر بالملاحظة أن الدواوير في المغرب تكون أكبر وأوسع من تلك التي في الجزائر. وما أكثر ما ترى في الشاوية تلك الحلقات البديعة من ثمانين إلى مائة خيمة ويتوسطها «مراح» صغير يمتلئ في المساء بقطعان الماشية العائدة من المراعي، فيما الأهالي يزالون حياتهم في محيط تلك الخيام المسمى في العربية «الريف». وما أكثر ما ترى في تلك الدواوير من الخيام الجديدة المتخذة من شعر الماعز. وأما الخيام التي تقوم في معظم أنحاء الشاوية، كما تقوم في دكالة، فإن معظمها يتخذ من «الليف»، وهي الألياف التي تؤخذ من الأنسجة التي تكسو أصول النخل الصغير أو «الدوم». وكذلك ينتوعون من أصول نبات البروق أو «لبرواك» أليافاً يقومون بدقها وترطيبها ونسجها. ويسمونها «حيدلي»، ويستعملونها كذلك في صنع الخيام.
وفي مساء هذا اليوم الجميل، عادت قطعان الماشية إلى الدوار فأشاعت فيه حركة وحيوية عارمتين. وجاءتنا عجوز سوداء بماء في قربة عليها قطران، وهو، في ما يبدو، ماء مفضل لديهم على الماء الذي اعتاد الناس شربه في هذه الناحية. غير أنها حرصت قبل أن تدفع إلينا بتلك القربة على تنبيه رفاقي المسلمين والتأكد منهم إلى أنهم لن يشركوني في الشرب منها.
تعصب المسلم
الأهالي ههنا ليسوا متعصبين، بل إنهم لا يبخلون على الأوربيين بشيء من اللطف والمودة، وأما الذي له بعض معرفة بالمسلمين فلا ينطلي عليه ما يحملون لنا من احتقار مكين. ومهما يكن الاستقبال الذي يلقاه المسيحي في المغرب، فلابد أن يشعر، إذا كان من أصحاب النفوس الرقيقة، بذلك الجو من الاحتقار الذي يحيط به. ولئن أفلح كبار السن من المسلمين في إخفاء أسباب ذلك الاحتقار عنه، فإن الأطفال، وهم بطبعهم أكثر تلقائية وأمعن سخرية، لا يفتأون يردونه عن ذلك الوهم ويصرحوا له بالمشاعر التي ينقلها إليهم آباؤهم نحوه.
رحلة المسحي في المغرب
وفي المغرب مدن، كسلا، لا يكاد الأجنبي يتجول فيها دون أن يطارده الأطفال بالصياح أو يرموه بالحجارة. وقد وضعت اتفاقية دولية منذ ماءتين وخمسين سنة بين الأقاليم المتحدة ومدينة سلا تشترط أن مراعاة جانب التجار وألا يتعرض لهم «بسوء المعاملة بالقول أو بالضرب أو بالرمي بالحجارة أو بمختلف أنواع الشتائم». وها إن الوضعية لا تزال إلى سنتنا هذه 1902، لم تعرف التغير العميق. فالأجنبي لا يزال يشعر بنفسه في المغرب أنه «نصراني» (مسيحي)، بكل ما في هذه الكلمة من معنى يقترن لدى المسلمين بحشد من المدلولات الانتقاصية، أقرب إلى تلك المدلولات التي لا تزال تحفل بها عندنا إلى الوقت الحالي كلمة «يهودي». وقد نبه الرسول في كثير من أحاديثه، وكذلك نبه علماء الحديث كثيراً إلى تمييز اليهود والمسيحيين عن الوثنيين ورفع منزلتهم عليهم، وأما العامة فلا تعمل بكل هذه التفيرقات ولو كانت عارفة بها، ولذلك فكرهها للمسيحيون أو اليهود لا يقل عن كرهها للوثنيين.
نجاسة الكافر
ينبغي للمسيحي الذي يسافر لدى الأقوام الجاهلة أن يظل مستحضراً، مهما يكن في هذا الأمر من حط في كبريائهم، أننا معتبرون لديهم من الأنجاس، وأنهم يجدون من أنفسهم شيئاً من التقزز من مجرد رؤية هيئاتنا. وهذه ملاحظة ربما كانت تنطبق على كثير من المسلمين الآخرين، لكننا نخشى إن تمادينا في هذا الأمر أن نجرح حساسيات الآخرين ونخرج عن إطار هذه الدراسة. لكن كذلك تصور الإسلام القديم للأجانب في وقت من الأوقات؛ فهو يدخل جسم المسيحي في النجس، فإذا لمسه المسلم وجب أن يتوضأ. ثم جاء علماء [الإسلام] بتصحيح لهذا المعتقد البدائي المفرط، وقالوا إن نجاسة الكافر التي ينبه إليها القرآن إنما هي نجاسة معنوية، وإنه يحسن بالمسلم أن يتوقى الاختلاط به لأنه لا يتوضأ ويمكن أن ينقل إليه نجاسات أخرى. غير أن العامة لا تلقي بالاً هذه المناقشات المذهبية، وما أكثر ما يتعرض الأجانب من الحوادث الصغيرة، غير ذات الأهمية، لكن شديد الإيلام لذوي المشاعر الرقيقية منهم، ويزيد من إيلامها فرط تكرارها؛ فهي تذكر الرحالة في كل لحظة وحين بأنه لا يعدو عن كافر. فيلزم الرحالة الذي يسافر يزمع السفر إلى المغرب أن يتجرد من كل أنفة ويحصن مشاعره من التأثر لأي شيء، إلا أن يكون من الشخصيات الرسمية الهامة، أو يكون يدخل في حاشيته.
الخوف من الأجنبي
وينبغي أن نميز بحق في مشاعر الكراهية التي يحملها المغاربة للأوروبيين بين كرههم للكافر وخوفهم من المستعمر. فهم لا يستطيعون أن يفهموا أن حب العلم أو جرد الفضول يمكن أن يكونا هما الدافعان الوحيدان للرحالة الأوروبيين من غير التجار إلى زيارة بلدهم. ولا يرون في تلك الأبحاث وفي تلك الاستكشافات إلا أنها وسائل وممهدات لتيسر على الحكومات الأجنبية استعمار بلدهم. ولربما كان هذا الاعتقاد لديهم على شيء من الصواب. فقد نقل دو فوكو عنهم قولهم : «إننا نخاف المستعمر أكثر مما نكره المسيحي».
آراء غريبة عن الأجنبي
وتأتي – بدون شك – مخافة المستعمر أيضا لتعمق من إحساس كره المؤمن حيال الكافر، لكن مظاهر المعارضة والكره هذه لها أسباب عميقة، وأعني مسالة الخوف من الأجنبي كيفما كان. فكل بدائي يخاف كثيرا كمن تباين الأجناس، ونعلم كم يخاف «البدائيون» من كل مظاهر التجديد. وقد امتد هذا التخوف (في أوساط المسلمين تحت اسم «البدعة». فالأجنبي لا يخلق دائما للبدائي مصدر إزعاج وعدم ثقة حيث يخاف أذاه، ويعتبره ساحرا، ويشك في أدنى تصرفاته. فالأهالي في المناطق النائية في المغرب يراقبون الأجنبي بدقة وبطريقة مضحكة أحيانا بما في ذلك كيفية جمعه لأوراقه وكتبه وأدواته، حيث يسبب لهم منظر عدم معرفتهم بأشياء جديدة عليهم ألما واضحا. فنجنب النسبة لهم سحرة يخافون سحرهم، وهذا اعتقاد عام عند كل البدائيين اتجاه الأجانب، كما أنهم ينسجون عن الغرباء في هذه البلدان حكايات مطبوعة بمختلف أنواع الخرافات والغرائب. وهكذا نلاحظ أن عند السكان المغاربة في المناطق النائية انطباعات خاصة عنا، فقد سألوا هاريس هل عند المسيحيين رجال ونساء ؟. وسألوا فوكو هل الكافرون لا يسكنون الجزر. ولا يركبون البحر..إلخ؟. فعندما كنت أمر بأعالي سهول الكندافي كنت أثير – في هذه المداشر – فضولا مشوبا بكثير من الحذر إلى درجة الإضحاك. وكنت أرتدي حينها بذلة وسروالا « إلى الركبتين» من قطيفة مخملية وكان هذا يزيد من دهشة الأهالي وكان مرافقي المسلمين يتلقون كثيرا من الأسئلة عن منظري لكن دون جدوى ودون أن يصلوا إلى درجة تقوية الشك والارتياب كانوا يجيبونهم : «راجل بحالكم». وهذا لا يجب أن نعتبره شيئا غريبا، خاصة إذا علمنا أن هذا التصرف نفسه هو الذي كان عند المسيحيين اتجاه المسلمين في القرون الوسطى أو إلى حدود أزمنة قريبة.
الأجنبي والضيافة
إن الإنسان المتخلف الذي يخاف الإذاية من الأجنبي تراه يسعى في تجنبه، خاصة إذا كان مظهره منفراً، أو كان قبيح المنظر أو يشكو من عاهة. وذكر البكري أن أهل الريف لا يحتملون بينهم من الأجانب من كان ذا عاهة. وسيكون من باب الجهل بعادات البدائيين أن يذهب إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الريفيين إنما يخشون فساد أعراقهم؛ وإنما هم يريدون أن يبعدوا عنهم التأثيرات السيئة، وأسباب الانحطاط التي يعتقدون أن الأجنبي لابد ملحقها بهم. وإذا كان البدائي لا يبعد عنه الأجنبي فإنه يسعى إلى حماية نفسه منه، وقد يلزمه أحياناً بالتطهر. وكثيراً ما تراه يسعى في استمالته إلى جانبه. فقد يدعوه خاصة إلى مشاركته الأكل، لأن هنالك اعتقاداً كونياً بأن الأكل الذي يشترك عليه أشخاص كثر من شأنه أن يوطد الروابط بينهم، وهذا هو مصدر ذلك الحرص على نراه في القبايل على استضافة [الأجنبي]، وهو السبب في ذلك المزيج من اللطف ومن الريبة الذي كثيراً ما يُتلقى به الأجنبي في المغرب على سبيل التمثيل : hospes, hostes. نستقبل بهما أحيانا. فهم يعطونك «المونة» الوافرة، ولا يسهون عليك بالمراقبة. ثم إن الواحد منهم متى استضافك عنده لا تراه يألو جهداً في الاستفادة من مقامك لديه؛ فهو يريد أن يفيد مما يحسبه لديك مواهب سحرية أو طبية (فهما صفتان يجمعانهما في الشخص الواحد)، ويأتون في طلب الاستشارة منك، فإذا أنت قد صرت طبيباً برغم أنفك. وأما إذا كان الأجنبي مسلماً فإنهم يرفعون إليه نزاعاتهم، ويجبرونه على أن يفصل في منازعاتهم القديمة والمتشابكة؛ فلامناص له من أن يكون بينهم الحكم والقاضي.
وللخوف من الأجنبي [عند المسلمين] وجه آخر يتجلى في الخوف من السفر. فإذا كان البلد يخافون الرحالة الذي يقدم عليهم، فإن خوفهم يكون أشد وأعظم أن يذهبوا هم أنفسهم إلى البلاد الأجنبية يعشوا بين أولئك الأجانب. فلذلك كان السفر عند الإنسان القليل تحضر حافلاً بأسوإ التوقعات. ولذلك جاء الدين الإسلامي بوجه خاص مشتملاً على الكثير من القواعد المتعلقة بالسفر. وجاءت كتب الحديث وكتب الأدب مشتملة جميعاً على فصول خاصة بالسفر. وقد كان المسافر عند الأقوام البدائية يقوم لحظة الاستعداد للسفر وأثناء ذلك السفر وبعده، بشتى الطقوس التي يتطهر بها، وليخلص بها نفسه من كل الشرور السابق واللاحق. وهذا هو حسب اعتقادي مدلول ذلك الماء الذي يرشونه في إفريقيا الشمالية عند قدمي الشخص المزمع السفر. وقد اتفق لنا وقت أن خرجنا من الصويرة في سنة 1902 لنقوم بجولة في المناطق الداخلية أن رأينا قريباً لأحد مرافقينا المسلمين يخرج من داره ويهرق «سطلا» من الماء عند حوافر جواده.
أصول احتقار الكافر
لذلك نعتقد أن الكراهية التي يحملها المسلم للكافر ليست سوى صورة لأسلمة للتخوف البدائي الذي كان لديه من الأجنبي. فكلما كان سفرنا في الأصقاع التي هي أقل نصيباً من المعرفة، إلا ولاحظنا أن هذه الأسلمة يسمها شيء من النقصان. ثم تضعف في جهات أخرى، كما في جبال الأطلس؛ فالناس في هذه المناطق لا يزالون يتخوفون من الأجنبي أكثر مما يكرهون المسيحي. وترى هذه الأسلمة قوية في حواضر مثل فاس؛ حيث التجار الذين سافروا [إلى البلاد الأجنبية]، ولهم معرفة واسعة بأوروبا؛ ويعرفون جيداً أننا لسنا أسوأ من بني البشر الآخرين، لكنهم يكونوا أشد تعصباً. وليس ببعيد أن يكون أن يكون الخوف من الغازي عند هؤلاء الأخيرين ينضاف إلى الكره الديني له ويعززه، وإن كنا لا نرى هذا العنصر هو الغالب في مشاعر العداء المناوئة التي لا يزال المغاربة يحملونها إلى الأوروبيين؛ فالدين يتفوق لديهم على ما عداه من شاعر الوطنية، حتى ليكون هو الدافع الأول إلى كراهيتهم [للأجانب]. فهم لا يخشون أن يفقدوا استقلالهم، بقدر خشيتهم أن يقعوا تحت حكم الكفار. فأكثر ما يخشون أن يتعرض دينهم للتدنيس، وهذه صورة مؤسلمة للدنس الذي كانوا يلصقونه من قبل بالأجنبي. وإنهم ليعرفون جيداً، خاصة أولئك منهم الذين سافروا [إلى البلاد الأجنبية] بم في حضارتنا من محاسن، بل ويعلفرون كيف يسخرونها لأنفسهم، لكننا نظل في أعينهم أناساً خارجين عن الشريعة الدينية، وأناس لا يُرجى لهم خلاص، وأناس دسون، فإذا كل تلك الخرافات البدائية التي سبق لنا أن تناولناها، قد انتقلت إليهم، وصارت اليوم تزيد في خوفهم من الكفار.
الخوف من التجديد
وهذا هو السبب الذي يجعلهم مرتابين متشككين في كل ما نعمل لأجلهم ونروم منه صالحهم. فلا تجد إصلاحاً واحداً من الإصلاحات التي قمنا بها في الجزائر قد لقي في البداية الاستقبال الحسن من الأهالي؛ سواء ما دخل من تلك الإصلاحات في إقرار الملكية الفردية وما تعلق منها بقانون الحالة المدنية وما اتصل منها بإحصاءات السكان، وما هم منها الشركات التعاونية...، إلخ. فقد قوبلت هذه التدابير في البداية بالحذر والارتياب. وقد كان بعض ذلك الحذر والارتياب يشف لنا عن الفزع الساذج الذي كان يأخذ بنفوس البدائيين؛ فقد ظل الجزائريون يمتنعون من التلقيح لقناعة لديهم أنه إنما جُعل لإضعافهم!. وكذلك ظل عمل أطبائنا، ذلك العمل الحي، يقابل من المسلمين بالارتياب لوقت طويل. وهذا أحد تلامذتنا السابقين في مدرسة تلمسان، وهو اليوم قد بات مؤمناً بقضية التحضير، قد اعترف لي منذ وقت قريب جداً أنه قد كان من قبل يعتقد، وأخوته في الدين أن التعليم الذي كنا نقدمه لهم لم يكن له هدف غير العمل الممنهج لتحويلهم عن الطريق القويم، الذي هو سبيلهم الوحيدة إلى الخلاص.
لذلك تجد بعض من خبروا تجربة الجزائر يقابلون بشيء من الارتياب ما يقرأون في الروايات التي وضعها الرحالة عن المغرب، وأن المغاربة يرحبون بمقدم الأوروبيين، ويرحبون خاصة بمقدم الفرنسيين إليهم. وليس من شك، فقد كنا كثيراً ما نسمع نحن أيضاً، أن المغاربة إذا تقلوا الفرنسيين أعربوا لهم عن متمنياتهم أن تمد فرنسا يديها إلى المغرب. لكن لا تعدو هذه التصريحات أن تكون من ذلك الكلام الذي يطلقه المستاءون على سبيل النكاية، وإلا فهي تكون من ذلك الإطراء المغرض، أو من قبيل تلك المجاملة المفرطة التي هي مألوف المسلمين. ولئن صرح هؤلاء بأنهم يفضلون الفرنسيين، فلأنهم يكونون يتوجهون بكلامهم إلى الفرنسيين، ولو تكلموا إلى الأنجليز لأعلنوا لهم عن حبهم لأنجلترا، ولو كان كلامهم إلى الألمان، لأمدوا لهم أن الحضارة الألمانية هي وحدها التي تحتل السويداء في قلوبهم، وإن هم إلا يشملون بكراهيتهم سائر الأجانب. وإن أولئك منهم الذين زاروا الجزائر أو زاروا أوروبا والذين كثيراً ما يحلو لنا أن نتبجح بأنهم يميلون إلى أن يرونا نبسط سيطرتنا على بلدهم، وكثيرو الأسفار منهم الذين جابوا العالم، والمياومين الذين يعملون لدى أبماء جلدتنا من المعمرين متفقون على الاعتراف بأن الناس في بلداننا ينعم من الأمن ورغد العيش بأكثر مما يحدون مهما في المغرب، بيد أنك لا تراهم يتمنون تدخلنا، وربما كانوا أكثر عداء لنا من إخوتهم الذين لا يخرجون إلى البلاد الأجنبية، وإن بدوا ميالين إلى التسامح.
اتصال المسلم بالكافر
وربما وقعت هذه الأسطر بيد أحد أولئك المسلمين المتنورين والمستقلين الذين هم مفخرة مستعمرتنا، فأرجوا ألا يحملوها على التشاؤم الثابت المكين، بل هي مجرد معاينة لحالة، وما هي بالشيء الذي يتأبي دون سواه من أمور هذا العالم عن التبدل والتغير. وإنني لعلى اقتناع مكين بأن تقارباً صامتاً، لكن محققاً، قد بدأ يحصل منذ وقت غير يسير بيننا والمسلمين، وأن التدابير الإدارية الحكيمة ستزيد من تعزيزه، وأن مقاوماتنا لن تفلح في عرقلته، مثلما أن تلهفنا واستعجالنا لن يكون لهما أن يزيدا من تسريعه. وحسبي أن أنوه ههنا إلى وجوب أن نتوقع في علاقتنا مع المسلمين أن يكون أول اتصالنا بنا على غير ما نحب ونؤمل. فعند أول اتصال لك بالإسلام تراه كيف ينكمش على نفسه وينتفش، وكيف تبلغ سورة التعصب مداها. وهذه ظاهرة عرفناها كثيراً في الجزائر، وهي من الأمور الجارية في المغرب. فأما في الجزائر فقد أمكن لنا أن نسرع من وتيرة الأمور بمجرد وجودنا [الطويل] في هذا البلد وبفعل نوع من المدافعة لدى كثير من الأقوام البربرية فيه لعملية الأسلمة. وأما المغرب فمن المعروف أن سكانه المدينيين الذين لهم معرفة بالأوروبيين يكونون أكثر تعصباً من سكان المناطق الداخلية. فكأننا بالمسلم لا يعي شخصيته الدينية إلا متى وقع له الاتصال بشخصية أخرى. ومن المحتمل لهذه الظاهرة أن تكون شيئاً مؤقتاً، وأغلب الظن أن يطول بها الوقت، لكن مآلها إلى تلاش بطول الاتصال بين الشعبين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.