بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    انتخاب عمدة طنجة، منير ليموري، رئيسا لمجلس مجموعة الجماعات الترابية "طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع"    "الكونفدرالية" تقرر تسطير برنامج احتجاجي تصعيدي ضد التراجعات التشريعية للحكومة وإخلافها لالتزاماتها    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    نظام الجزائر يرفع منسوب العداء ضد المغرب بعد الفشل في ملف الصحراء    نقابة تنبه إلى تفشي العنف الاقتصادي ضد النساء العاملات وتطالب بسياسات عمومية تضمن الحماية لهن    البنك الدولي: المغرب يتصدر مغاربيا في مؤشرات الحكامة مع استمرار تحديات الاستقرار السياسي    الاتحاد الإفريقي يعتمد الوساطة المغربية مرجعًا لحل الأزمة الليبية    وسط صمت رسمي.. أحزاب مغربية تواصل الترحيب بقرار المحكمة الجنائية وتجدد المطالبة بإسقاط التطبيع    برنامج الجولة الخامسة من دوري أبطال أوروبا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الشرطة توقف مسؤولة مزورة بوزارة العدل نصبت على ضحايا بالناظور            الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز 'بوينغ 787-9 دريملاينر'    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    جماعة أكادير تكرم موظفيها المحالين على التقاعد    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    تيزنيت: شبان يتحدون قساوة الطبيعة وسط جبال « تالوست» و الطريق غير المعبدة تخلق المعاناة للمشروع ( فيديو )        لماذا تحرموننا من متعة الديربي؟!    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    النفط يستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين بدعم من توترات جيوسياسية    ياسمين بيضي.. باحثة مغربية على طريق التميز في العلوم الطبية الحيوية    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    رياض مزور يترأس المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بالعرائش    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي        انطلاق حظر في المالديف يمنع دخول السجائر الإلكترونية مع السياح    بسبب ضوضاء الأطفال .. مسنة بيضاء تقتل جارتها السوداء في فلوريدا    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة 1/2

يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المغاربة لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل على أنها جماع من الأقوام الخاضعة
الشاوية
الرحلة من الدار البيضاء إلى أزمور... سهلة يسيرة، بقدر ما هي مملة رتيبة. فهي تسير بطول ساحل رملي خفيض. وطبيعة الأرض تجعل المسير فيها أمراً ممتعاً، لكن السائح يسير فيها لا يلاقي بصره نتوءاً في الأرض مهما كان هيناً ضئيلاً. والمسافة لا تزيد عن خمسة وسبعين كيلومتراً، لا تكلف المسافرين العجِلين وكذا الرقاصة غير يوم واحد. وأما القوافل فيكلفها قطع تلك المسافة في العادة يومين اثنين؛ بمعدل خمسة كيلومترات في الساعة؛ وذلك هو مسيرها العادي متى كانت الدواب ثقيلة الحمولة، فتستغرقها الرحلة بين ثلاث عشرة أو أربع عشرة ساعة تقطعها على مرحلتين؛ فتمر بقسم من تراب الشاوية وتراب دكالة، للتوجه من الدار البيضاء إلى مدينة مولاي بوشعيب.
معنى كلمة الشاوية
يجدر بنا ههنا أن نشير إلى أن كلمة «الشاوية» تدل على مجموعة من الناس لا على مجال ترابي. فيكون الأوروبيون يخطئون هم الذين اعتادوا أن يقولوا «الشاوية» يريدون بها البلد الذي تشغله القبائل المعروفة بهذا الاسم. وقد وجدنا بعض المؤلفين، بله وجدنا بعض مشاهير المؤلفين، قد اعتمدوا هذه التسمية وعمَّموها؛ فمنهم الذين يكتبون « Châouia La» و»La Rehâmna»، ومنهم الذين يؤثرون استعمال صيغة الإفراد فيقولون، وإن كانوا يخطئون أيضاً، «le Châouia» و»Le Rehâmna»، إلخ. فهذه الكلمات تأتي جميعاً في اللغة العربية بصيغة الجمع : «الشاوية» و»الرحامنة»، وينبغي أن نجعل ترجمتها إلى الفرنسية «les Châouia» و»Les Rehâmna»، إلخ. وأما كلمة «الشاوية»، في حد ذاتها فهي صيغة الجمع من الاسم الموصول «الشاوي»، وأما صيغة الجمع منه في اللغة الفصيحة فهي «الشاويون»، المشتقة من «الشاتون»؛ والمراد بها «الشاهاتون»، النعاج، ومعناها «أصحاب قطعان الأغنام»؛ وقد أصبحوا يعرفون بعدئذ ب»الرعاة». ويسميهم الحسن الوزان «Soaua»، ويعرفهم بأنهم : «رعاة الشاء [وهم] شعب يعيش عيشة العرب». وقد كان ابن خلدون سبقه إلى التعريف نفسه. ثم صار هذا الاسم في ما بعدُ اسماً عرقياً بحق؛ فكذلك نجده عند مارمول، ولدى المؤرخين العرب اللاحقين. وما بدأنا نجد من المؤرخين من يقول «الشاوية»، بصيغة الجمع اسماً علماً للناس، إلا في مطلع القرن الخامس عشر، وبعيْد الفترة التي كتب فيها ابن خلدون. ونحن نجد هذا المؤلف البارز يستعمل هذه الكلمة تارة لا يزيد بها عن صفة؛ أي بمعنى الرعاة، ويستعملها تارة أخرى بمعنى حراس القطعان الملكية. كما نجده في بعض المواضع يستعملها بمزيد من التدقيق كصفة عرقية، فيقترب بها من معناها الحالي.
أصول الشاوية
وجدنا كاريت في حديث بليغ في كتابه عن «هجرات القبائل الجزائرية» يبين أن السكان الذين يقال لهم في شمال إفريقيا «الشاوية» هم خليط من زناتة وهوارة. ومن المعلوم أن هؤلاء قد انتشروا في سائر أنحاء شمال إفريقيا بعد أن ظلوا منحصرين لوقت طويل عند تخوم إفريقيا وبلاد طرابلس؛ وربما لا يوجد شعب أكثر تشتتاً منهم في هذه الناحية. وهم مثل زناتة قد كانوا شبه معربين، ويقتصرون في عيشهم على الرعي، إلى حد أن البعض يحملهم أحياناً على العرب. وقد وجدناهم في مواضع كثيرة مختلطين بزناتة، التي يبدو أنهم قد قاسموهم مصائرهم وارتبطوا وإياهم بروابط الإقطاع. واليوم صرنا نجد اسم الشاوية يشمل زناتة وهوارة في سوس، ولدى أولاد سيدي بوشعيب (وهي مجموعة مختلطة في رمشي بولاية تلمسان)، وفي الدواير فليتا (وهي مجموعة مختلطة في لهليل بولاية مستغانم)، وفي بني منا (وهي مجموعة مختلطة في تنيس بولاية أوليانفيل). لكن هذا الاسم يُطلق أكثر ما يُطلق على سكان الهدْفة الجبلية الكبيرة في الأوراس، جنوبي ولايد قسنطينة. ويبدو بالفعل أن هذا اللفظ الذي ألف العرب أن يطلقوه على الساكنة الأمازيغية قد اصطبغ ولا يزال بمسحة من الاحتقار؛ لذلك يرفضه سكان الأوراس ولا يرضون أن يتسموا به، بينما يقبل به السكان من بقية المجموعات التي أتينا على ذكرها وبه يُعرفون إلى اليوم، ومنهم الشاوية على الساحل الأطلسي من المغرب. ويجدر بالتذكير في الأخير أن اسم «شوا» Choa، حسبما يفيدنا كامبفماير وهارتمان، إنما هو مشتق من كلمة «شاوية».
تامسنا القديمة
كانت بلاد الشاوية التي في القسم من الساحل المغربي تسمى من قبل «تامسنا». ونحن نرى «بلاد» تامسنا في بداية تاريخ المغرب تحتلها مصمودة، إخوة مصمودة الذين في الأطلس، والذين سيقومون في ما بعد بتأسيس أكبر إمبراطورية عرفها شمال إفريقيا، وهم المسمون تحديداً ببرغواطة. وقد أفرد البكري وابن خلدون وصاحب «القرطاس» صفحات غاية في الطرافة لملحمة هذا الشعب وخرافة نبيه الذي جاء بدين على غرار دين محمد، إلى أن كان القضاء عليه بأيدي المرابطين في حملتهم الدينية.
تاريخا تامسنا
بقيت تامسنا متلفة خربة لزمن طويل، ومن المحتمل أن هؤلاء المتعصبين قد أسكنوا من بني جلدتهم صنهاجة في هذا المكان؛ ومن المحتمل أن يكونوا وجدوا بعضهم لدى البرغواطيين. ثم وجدنا بعد ذلك المنصور، السلطان الموحدي القوي، وهو أول من شجع على دخول الأعراب إلى المغرب، والذي اعترف وهو على فراش الموت بأنه ارتكب فيه خطأ سياسياً، وجدناه يُدخل في تامسنا قسماً من الأقوام المعروفين باسم عام هو «جشم»، وإن هو إلا اسم قسم منهم. وقد كان أهل جشم الذين في تامسنا من قبل لا يشتملون على جشم بمعناهم الحقيقي، بل كانوا جميعاً من الخلط من سفيان ومن عاصم من بني جابر. وقد كان هؤلاء الأعراب يمارسون هناك أعمال اللصوصية، وبها أصبحوا يُعرفون بصورة سيئة في المغرب، بيد أنهم لم يستطيعوا البقاء هناك، ومن المحتمل أن يكونوا تعرضوا للاكتساح من زناتة وهوارة الذين حملهم المرينيون وإياهم، وبلغوا شأواً بعيداً من التحضر. ومما لاشك فيه أن الاندماج كان سهلاً يسيراً بين هؤلاء القادمين الجدد الأمازيغ ذوي التقاليد الشبيهة بتقاليد الأعراب، وأسلافهم الذين لاشك أنهم قد اكتسحوهم ليصيروا الشاوية الذين نراهم اليوم يسودون هذا البلد بعد اضطرابات وتحولات كثيرة.
تامسنا الحالية
لقد اختفت اليوم جميع الأسماء القديمة، لكننا لا نزال نجد في الشاوية قبيلة من زناتة، وفخدة من الخلط، الذين باتوا يُعرفون اليوم بخلُط، أو بالأحرى الخلُط، بزيادة أداة التعريف. وأما اسم «تامسنا»، وهو اسم غير معروف للكثير من الأوروبيين، فلا يزال إلى اليوم كثير الاستعمال، بيد أن الأهالي يحملونه على معنى أضيق مما كان متداولاً لدى المؤلفين القدامى. فهم يعتقدون أن تامسنا لا يدخل فيها غير التراب الذي تشغله القبائل الأربع : «أولاد البوزيري» و»المزامزة» و»أولاد سيدي بن داود» و»أولاد سعيد». ثم إنهم يذهبون إلى اسم «تامسنا» ربما كان يدل على الأرض لا على الناس. وبطبيعة الحال فلا يُقال للرجل «تامسني»، بينما يُقال له «شاوي». لكننا نعلم أن الغالبية العظمى من الأسماء الجغرافية قد كانت في مبتدئها أسماء عرقية، وقد كان يمكن لكلمة «تامسنا» نفسها أن تؤكد هذه القاعدة إن صح أنها توافق القواعد التي وضعها بطليموس وتوافق «الماسينيين» الذين تحدث عنهم أنطونينوس؛ وهذا هو الرأي الذي يذهب إليه كاريت، لولا أن علماء الآثار يرجحون أن جمع هاتين الكلمتين في باسم قبيلة «مكناسة». وأما مطابقة «الباكوات» مع برغواطة يبدو أقرب إلى الصواب. لكن يبدو أن هذا الاسم قد زال واختفى نهائياً بزوال الأقوام الذين كانوا يحملونه. إلا أننا نجد هذا الاسم قد ظل معروفاً لدى أولاد صامد، من قبيلة أولاد سعيد؛ فقد أكد لي بعض الأهالي هناك أنهم ينحدرون من صالح بن طريف، ولكن نظن أن المسالة لا تعدو أن تكون ذكريات مبهمة.
مفهوم المملكة عند المغاربة
وعليه فإن أسماء الشاوية والرحامنة...، إلخ. تدل على مجموعات بشرية أكثر مما تدل على مجالات ترابية. ففي هذه الحالة، كما في حالات أخرى عديدة، تكون الغلبة في أذهان المغاربة للتصور العرقي على التصور الترابي للمملكة التي يعيشون فيها. ذلك بأن بيننا والمسلمين فارقاً مكيناً في تصورهم للمملكة وتصورنا للإمبراطورية. فعندنا أن العنصر المهين في هذه الفكرة هو المتمثل في الحدود. وقد شكل مفهوم الحدود عائقاً لنا لوقت طويل عن فهم مدلول المملكة في بلدان المغرب، وكان سبباً في الأخطاء التي اعتورت تمثلنا لهذا الأمر جملة وتفصيلاً، وكان مصدراً للأخطاء التي اعتورت تصورنا لتكون المغرب بمعناه الصحيح، لكنه تصور عاد في آخر الأمر بالفائدة عليه. إن المغاربة لا يتصورون، أو إنهم كانوا على الأقل إلى وقت قريب لا يزالون لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل يقوم تصورهم لها على أنها جماع من الأقوام الخاضعة. وإن جهلنا بهذه الحقيقة طوال نصف قرن من الزمان هو الذي كان وراء القرارات البليدة والمشينة ظلت تتخبط فيها سياستنا المتعلقة بالحدود الجزائرية المغربية لوقت طويل.
القبيلة المغربية
تنقسم الشاوية إلى اثنتي عشرة قبيلة، وهو الاسم الذي استعمله الأوروبيون والمؤلفون القدامى الذين كتبوا عن المغرب وكانوا يريدون به ما أصبح يعرف عند المعاصرين باسم القبيلة. و»القبيلة» هو الاسم المتداول في عموم المغرب، وهو متداول في سائر بلدان شمال أفريقيا، لكن أكثر شيوعاً في المغرب. وأما في الجزائر فلا يزالون يقولون «العرش» أو «النجع». قال بيل : «إنهم يستعملون هذه الأسماء الثلاثة من غير تفريق، لكن توجد بينها فروقات دقيقة. ف»النجع» هو القبيلة المتوسطة، و»العرش» هو القبيلة الصغيرة و»القبيلة» أكبر منهما معاً». غير أن الاسم الغلب على الاستعمال في الجزائر هو «العرش»، وقد ساهمت الإدراة في التوسيع من نطاق استعماله إذا كانت تكاد تقتصر عليه في محرراتها العربية. وأما سكان جرجرة فيُسمون في مجموعهم «قبايل»، ومهن اشتق الجزائريون اسم قبايل وقبايلي، وهما كلمتان شديدتا اختلاف عن اللفظ شائع الاستعمال في المغرب. وأعتقد أن هذا التشابه قد كان مصدراً لما لاعد له من أوجه الخلط والالتباس التي اعتورت المراسلات بين الجزائر والمغرب، خاصة ما كانت تتناقل منها قصاصات وكالات الأخبار. وأما شاوية الأوراس الذي يستهجنون هذا الاسم، كما أسلفنا القول، فإنهم يسمون أنفسهم «هاقبايل»، شأنهم شأن أهل القبايل. ونجد مؤلفين آخرين قد جاءوا بأوجه من العبارة نفسها لتسمية تجمعات أخرى من البربر.
قدم اسم «القبيلة»
وكلمة «القبيلة» من الأسماء القديمة جداً، فأنت تجدها في شعر ما قبل الإسلام، وإن تكن فيه قليلة ورود؛ فلا نعرف لها فيه غير أمثلة قليلة يأتي فيها على صيغة الجمع. ويكثر ورود هذه الكلمة في نصوص النثر [العربية] القديمة والمعاصرة. ولا تغيب هذه الكلمة، بعكس ما يذهب إليه كدينفلت، في اللغة المعاصرة المتداولة في المشرق. فهذا لاندبيرغ يفيدنا أن اسم القبيلة يُجعل في جنوب شبه الجزيرة العربية للقبيلة المنتسبة إلى أحد الأجداد من البدو، وتكون هذه القبيلة على انسجام ووحدة، لكن تسير إلى اتساع بما يداخلها من الأعداد الكبيرة من الوافدين. وتكون القبائل على قدر متفاوت من الاتساع ومن الترابط في ما بينها، بحيث يصعب الجزم في معظم الأحيان بأن هذه الواحدة من هذه المجموعات البشرية تستحق بالفعل لقب «القبيلة». ولا تجد لدى الأهالي خاصة في المغرب عرفاً أو استعمالاً ثابتاً يلتزمونه ولا يخرجون عنه. علاوة على أن تنظيم القبائل والمدن في شمال إفريقيا وتوزيعها وأسماءها ووظائفها تعتبر من الأمور التي لا يزال يلفها الغموض والالتباس. وقد سعى ماسكراي إلى معالجة هذه الأمور في دراسته للقبايل والأوراس وامزاب، ثم على نراه ضمن كتابه كذلك، على الرغم من ذلك العنوان فيه - [تشكل الحواضر لدى الساكنة المقيمة في الجزائر] – الكثير من الأخيار والمعلومات عن القبائل الرحل. ونحن نقف في هذا الكتاب كذلك على الاختلاف الكبير الذي يوجد بين كلمتي «العرش» و»القبيلة» لدى امزاب والقبايل.
التنظيم الاجتماعي عند العرب
لم يترك لنا الكتاب العرب معلومات ضافية عن المسالة، حيث ظلوا مشدودين – كما في أمكان أخرى – إلى الجانب النظري دونما تساؤل عن طبيعة أنظمتهم الاجتماعية هل كانت مسايرة للأحداث والتحولات أم لا؟ وسنورد هنا بعض المقتطفات من كتابتهم :
«يشير ابن الكلبي نقلاً عن أبيه أن الشعب أكبر من القبيلة التي تأتي الإمارة ثم البطن ثم الفخذ». وذكر آخر في ترتيبها من الأكبر إلى الأصغر ما يلي : «الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة».
ثم جاء نوفل أفندي نعمة الله بعكس ذلك وقال : «تقسم العرب في اصطلاح علماء النسب، إلى طوائف أعمها الشعب وأخص منه القبيلة ثم العمارة ثم البطن والبطون هم أوساط الأنسباء في القرب من الجد الأعلى والبعد عنه ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة وهم أدنى الأقارب فالشعوب في القبائل مثل بني مضر والقبائل مثل بني قيس بن غيلان بن مضر والعمائر مثل سعد بن قيس بن غيلان والبطون مثل بني ذبيان بن مغيض بن ريث بن غطفان والفصائل مثل بني فزازة والعشائر مثل بي بدر الفزاري».
والذي يبدو أن كل ما ذكرنا لا يأتي بتجلية لهذه المسألة. وخاصة أن اسم «قبيلة» في المغرب يشتمل في ما يبدو على معاني متغايرة. والأقوام الناطقون بالأمازيغية لهم فيها تسميات مختلفة كلياً، ستسنح لنا فرص للحدث عنها في ما يقبل من هذا الكتاب. إنه فصل في علم اجتماع شمال إفريقيا لا يزال ينتظر من يكتبه.
الخروج من الدار البيضاء
(25 مارس 1901). تركت قافلتنا الصغيرة في الساعة التاسعة صباحاً قنصلية فرنسا وخرجت من المدينة من باب الكبير. اليوم الاثنين، وهو اليوم الذي ينعقد فيه السوق أمام هذا الباب، فيتزايد نشاطه فوق ما يكون في بقية الأسبوع. فصرنا نشق لنا بصعوبة طريقاً وسط الحشد الكثيف من أصحاب البرانس البيضاء والصهباء، وبينها المتسخ والمرقع. الطقس بالغ الجمال وساطع النور بحيث تدس سطوعها كله في نتوءات ثناياها الاقمشة الباذخة. ثم تجاوزنا آخر البيوت في ضاحية الدار البيضاء، ولم تلبث أن حجبها عنا مرتفع من الأرض صغير. إنه «كركور»؛ أي كومة مقدسة من الحجارة، يقوم علامة على الموضع الذي منه يرى المسافر الذي يأتي إلى أزمور، لأول مرة، مدينة مولاي بوشعيب. وهو اسم الولي المسلم لهذه المدينة، الذي لا يفوت المؤمنين الأتقياء أن يأتوا للتبرك به في الموضع ووضع حجر على ذلك الكركور.
وللمدن والقبائل والقرى في المغرب، كما في باقي بلدان شمال إفريقيا، أولياؤها الدينيون. فأنت تعرف على الفور البلد الذي منه المسلم التقي بالانتباه إلى اسم الولي الذي يكثر من ترديده في حديثه. فأهل فاس يحلفون بمولاي إدريس، وأهل مراكش يحتجون بسيدي بلعباس السبتي، وأهل سوس يعتدُّون بسيدي احماد أوموسى...، إلخ. وإذا ذُكر أمامك اسم أحد كبار الأولياء هذه وجب أن تقول تأدباً : «شاي الله».
سيدي بليوط
إن ولي الدار البيضاء الذي يحيطه الناس بالكثير من التوقير قد كان إلى منتصف القرن الماضي [التاسع عشر] يكاد يكون مجهولاً. فلم يكن ضريحه يزيد عن بيت بائس يقوم على حراسته رجل يدعى بلمكناسي، الذي جعل من نفسه مقدماً عليه. وما تسنى جمع مبلغ من الماء غير يسير إلا في سنة 1851م سخر في بناء «قبة» ضريح الحالية. ويقال إن سيدي بيلوط كان شريفاً «ركراكياً»، والخرافة تنسب إليه بركة الحضور في كل مكان. والحجاج يأتون إليه للتبرك منه قبل التوجه إلى مكة. وما أعظم دهشتهم إذا جاءوا إلى تلك المدينة المقدسة فيجدون هناك سيدي بليوط بعد أن كانوا يعتقدون أنهم تركوه في ذلك المكان البعيد! ويقال إن الماء الذي ينزل في الدار البيضاء، وينزل خاصة على «قبة» سيدي بيلوط له خصائص عجيبة، فكل من شرب منه لابد أن يعود إلى الدارالبيضاء، ولو شط به البعاد إلى أقاصي المعمور. ويقال كذلك إن لسيدي بليوط بركة التحكم في الحيوان؛ فقد كان يتجول تحيط به الأسود، ومنها جاء اسمه سيدي بليوط، الذي لا يعدو أن يكون تحريفاً للاسم الفصيح «أبو الليوث».
ضاحية الدار البيضاء
الدار البيضاء مترامية لا يحيط بها البصر، والسهل المنبسط إلا من بعض تموجات هينة تتوزعه الأراضي المزروعة والمساحات التي تركت يبعمرها نبات البروق، فيشيع في الأرجاء رائحة تمازجها حرافة، وزرابي من الأدريون تكسو بعض تلك النواحي تخالطها أزهار الأدريون التزيينية الجميلة الشائعة لدى الجزائريين (الشيح)، ولسيناتها الطويلة ينعكس عليها البريق المخملي الزهيرات الأرجواني، فتكون مع رؤيسات اللؤلؤيات وتويجات اللُّبينات، فتكون حاشية وافرة على المعطف المتحرك للشعير الأخضر. فتشكل لوحة تتميز خصوبة وغنى. فكيف يقدر لها أن تختلط بصور الخراب والأسى؟ فقد بدأت تلك الحشرة القاتلة ترسل فلولها على هذه الأنحاء؛ إنه «الجراد الجوال»، المرعب للفلاحين في إفريقيا، الذي بدأت نذره تظهر في سائر أنحاء هذه المنطقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.