الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة 1/2

يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المغاربة لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل على أنها جماع من الأقوام الخاضعة
الشاوية
الرحلة من الدار البيضاء إلى أزمور... سهلة يسيرة، بقدر ما هي مملة رتيبة. فهي تسير بطول ساحل رملي خفيض. وطبيعة الأرض تجعل المسير فيها أمراً ممتعاً، لكن السائح يسير فيها لا يلاقي بصره نتوءاً في الأرض مهما كان هيناً ضئيلاً. والمسافة لا تزيد عن خمسة وسبعين كيلومتراً، لا تكلف المسافرين العجِلين وكذا الرقاصة غير يوم واحد. وأما القوافل فيكلفها قطع تلك المسافة في العادة يومين اثنين؛ بمعدل خمسة كيلومترات في الساعة؛ وذلك هو مسيرها العادي متى كانت الدواب ثقيلة الحمولة، فتستغرقها الرحلة بين ثلاث عشرة أو أربع عشرة ساعة تقطعها على مرحلتين؛ فتمر بقسم من تراب الشاوية وتراب دكالة، للتوجه من الدار البيضاء إلى مدينة مولاي بوشعيب.
معنى كلمة الشاوية
يجدر بنا ههنا أن نشير إلى أن كلمة «الشاوية» تدل على مجموعة من الناس لا على مجال ترابي. فيكون الأوروبيون يخطئون هم الذين اعتادوا أن يقولوا «الشاوية» يريدون بها البلد الذي تشغله القبائل المعروفة بهذا الاسم. وقد وجدنا بعض المؤلفين، بله وجدنا بعض مشاهير المؤلفين، قد اعتمدوا هذه التسمية وعمَّموها؛ فمنهم الذين يكتبون « Châouia La» و»La Rehâmna»، ومنهم الذين يؤثرون استعمال صيغة الإفراد فيقولون، وإن كانوا يخطئون أيضاً، «le Châouia» و»Le Rehâmna»، إلخ. فهذه الكلمات تأتي جميعاً في اللغة العربية بصيغة الجمع : «الشاوية» و»الرحامنة»، وينبغي أن نجعل ترجمتها إلى الفرنسية «les Châouia» و»Les Rehâmna»، إلخ. وأما كلمة «الشاوية»، في حد ذاتها فهي صيغة الجمع من الاسم الموصول «الشاوي»، وأما صيغة الجمع منه في اللغة الفصيحة فهي «الشاويون»، المشتقة من «الشاتون»؛ والمراد بها «الشاهاتون»، النعاج، ومعناها «أصحاب قطعان الأغنام»؛ وقد أصبحوا يعرفون بعدئذ ب»الرعاة». ويسميهم الحسن الوزان «Soaua»، ويعرفهم بأنهم : «رعاة الشاء [وهم] شعب يعيش عيشة العرب». وقد كان ابن خلدون سبقه إلى التعريف نفسه. ثم صار هذا الاسم في ما بعدُ اسماً عرقياً بحق؛ فكذلك نجده عند مارمول، ولدى المؤرخين العرب اللاحقين. وما بدأنا نجد من المؤرخين من يقول «الشاوية»، بصيغة الجمع اسماً علماً للناس، إلا في مطلع القرن الخامس عشر، وبعيْد الفترة التي كتب فيها ابن خلدون. ونحن نجد هذا المؤلف البارز يستعمل هذه الكلمة تارة لا يزيد بها عن صفة؛ أي بمعنى الرعاة، ويستعملها تارة أخرى بمعنى حراس القطعان الملكية. كما نجده في بعض المواضع يستعملها بمزيد من التدقيق كصفة عرقية، فيقترب بها من معناها الحالي.
أصول الشاوية
وجدنا كاريت في حديث بليغ في كتابه عن «هجرات القبائل الجزائرية» يبين أن السكان الذين يقال لهم في شمال إفريقيا «الشاوية» هم خليط من زناتة وهوارة. ومن المعلوم أن هؤلاء قد انتشروا في سائر أنحاء شمال إفريقيا بعد أن ظلوا منحصرين لوقت طويل عند تخوم إفريقيا وبلاد طرابلس؛ وربما لا يوجد شعب أكثر تشتتاً منهم في هذه الناحية. وهم مثل زناتة قد كانوا شبه معربين، ويقتصرون في عيشهم على الرعي، إلى حد أن البعض يحملهم أحياناً على العرب. وقد وجدناهم في مواضع كثيرة مختلطين بزناتة، التي يبدو أنهم قد قاسموهم مصائرهم وارتبطوا وإياهم بروابط الإقطاع. واليوم صرنا نجد اسم الشاوية يشمل زناتة وهوارة في سوس، ولدى أولاد سيدي بوشعيب (وهي مجموعة مختلطة في رمشي بولاية تلمسان)، وفي الدواير فليتا (وهي مجموعة مختلطة في لهليل بولاية مستغانم)، وفي بني منا (وهي مجموعة مختلطة في تنيس بولاية أوليانفيل). لكن هذا الاسم يُطلق أكثر ما يُطلق على سكان الهدْفة الجبلية الكبيرة في الأوراس، جنوبي ولايد قسنطينة. ويبدو بالفعل أن هذا اللفظ الذي ألف العرب أن يطلقوه على الساكنة الأمازيغية قد اصطبغ ولا يزال بمسحة من الاحتقار؛ لذلك يرفضه سكان الأوراس ولا يرضون أن يتسموا به، بينما يقبل به السكان من بقية المجموعات التي أتينا على ذكرها وبه يُعرفون إلى اليوم، ومنهم الشاوية على الساحل الأطلسي من المغرب. ويجدر بالتذكير في الأخير أن اسم «شوا» Choa، حسبما يفيدنا كامبفماير وهارتمان، إنما هو مشتق من كلمة «شاوية».
تامسنا القديمة
كانت بلاد الشاوية التي في القسم من الساحل المغربي تسمى من قبل «تامسنا». ونحن نرى «بلاد» تامسنا في بداية تاريخ المغرب تحتلها مصمودة، إخوة مصمودة الذين في الأطلس، والذين سيقومون في ما بعد بتأسيس أكبر إمبراطورية عرفها شمال إفريقيا، وهم المسمون تحديداً ببرغواطة. وقد أفرد البكري وابن خلدون وصاحب «القرطاس» صفحات غاية في الطرافة لملحمة هذا الشعب وخرافة نبيه الذي جاء بدين على غرار دين محمد، إلى أن كان القضاء عليه بأيدي المرابطين في حملتهم الدينية.
تاريخا تامسنا
بقيت تامسنا متلفة خربة لزمن طويل، ومن المحتمل أن هؤلاء المتعصبين قد أسكنوا من بني جلدتهم صنهاجة في هذا المكان؛ ومن المحتمل أن يكونوا وجدوا بعضهم لدى البرغواطيين. ثم وجدنا بعد ذلك المنصور، السلطان الموحدي القوي، وهو أول من شجع على دخول الأعراب إلى المغرب، والذي اعترف وهو على فراش الموت بأنه ارتكب فيه خطأ سياسياً، وجدناه يُدخل في تامسنا قسماً من الأقوام المعروفين باسم عام هو «جشم»، وإن هو إلا اسم قسم منهم. وقد كان أهل جشم الذين في تامسنا من قبل لا يشتملون على جشم بمعناهم الحقيقي، بل كانوا جميعاً من الخلط من سفيان ومن عاصم من بني جابر. وقد كان هؤلاء الأعراب يمارسون هناك أعمال اللصوصية، وبها أصبحوا يُعرفون بصورة سيئة في المغرب، بيد أنهم لم يستطيعوا البقاء هناك، ومن المحتمل أن يكونوا تعرضوا للاكتساح من زناتة وهوارة الذين حملهم المرينيون وإياهم، وبلغوا شأواً بعيداً من التحضر. ومما لاشك فيه أن الاندماج كان سهلاً يسيراً بين هؤلاء القادمين الجدد الأمازيغ ذوي التقاليد الشبيهة بتقاليد الأعراب، وأسلافهم الذين لاشك أنهم قد اكتسحوهم ليصيروا الشاوية الذين نراهم اليوم يسودون هذا البلد بعد اضطرابات وتحولات كثيرة.
تامسنا الحالية
لقد اختفت اليوم جميع الأسماء القديمة، لكننا لا نزال نجد في الشاوية قبيلة من زناتة، وفخدة من الخلط، الذين باتوا يُعرفون اليوم بخلُط، أو بالأحرى الخلُط، بزيادة أداة التعريف. وأما اسم «تامسنا»، وهو اسم غير معروف للكثير من الأوروبيين، فلا يزال إلى اليوم كثير الاستعمال، بيد أن الأهالي يحملونه على معنى أضيق مما كان متداولاً لدى المؤلفين القدامى. فهم يعتقدون أن تامسنا لا يدخل فيها غير التراب الذي تشغله القبائل الأربع : «أولاد البوزيري» و»المزامزة» و»أولاد سيدي بن داود» و»أولاد سعيد». ثم إنهم يذهبون إلى اسم «تامسنا» ربما كان يدل على الأرض لا على الناس. وبطبيعة الحال فلا يُقال للرجل «تامسني»، بينما يُقال له «شاوي». لكننا نعلم أن الغالبية العظمى من الأسماء الجغرافية قد كانت في مبتدئها أسماء عرقية، وقد كان يمكن لكلمة «تامسنا» نفسها أن تؤكد هذه القاعدة إن صح أنها توافق القواعد التي وضعها بطليموس وتوافق «الماسينيين» الذين تحدث عنهم أنطونينوس؛ وهذا هو الرأي الذي يذهب إليه كاريت، لولا أن علماء الآثار يرجحون أن جمع هاتين الكلمتين في باسم قبيلة «مكناسة». وأما مطابقة «الباكوات» مع برغواطة يبدو أقرب إلى الصواب. لكن يبدو أن هذا الاسم قد زال واختفى نهائياً بزوال الأقوام الذين كانوا يحملونه. إلا أننا نجد هذا الاسم قد ظل معروفاً لدى أولاد صامد، من قبيلة أولاد سعيد؛ فقد أكد لي بعض الأهالي هناك أنهم ينحدرون من صالح بن طريف، ولكن نظن أن المسالة لا تعدو أن تكون ذكريات مبهمة.
مفهوم المملكة عند المغاربة
وعليه فإن أسماء الشاوية والرحامنة...، إلخ. تدل على مجموعات بشرية أكثر مما تدل على مجالات ترابية. ففي هذه الحالة، كما في حالات أخرى عديدة، تكون الغلبة في أذهان المغاربة للتصور العرقي على التصور الترابي للمملكة التي يعيشون فيها. ذلك بأن بيننا والمسلمين فارقاً مكيناً في تصورهم للمملكة وتصورنا للإمبراطورية. فعندنا أن العنصر المهين في هذه الفكرة هو المتمثل في الحدود. وقد شكل مفهوم الحدود عائقاً لنا لوقت طويل عن فهم مدلول المملكة في بلدان المغرب، وكان سبباً في الأخطاء التي اعتورت تمثلنا لهذا الأمر جملة وتفصيلاً، وكان مصدراً للأخطاء التي اعتورت تصورنا لتكون المغرب بمعناه الصحيح، لكنه تصور عاد في آخر الأمر بالفائدة عليه. إن المغاربة لا يتصورون، أو إنهم كانوا على الأقل إلى وقت قريب لا يزالون لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل يقوم تصورهم لها على أنها جماع من الأقوام الخاضعة. وإن جهلنا بهذه الحقيقة طوال نصف قرن من الزمان هو الذي كان وراء القرارات البليدة والمشينة ظلت تتخبط فيها سياستنا المتعلقة بالحدود الجزائرية المغربية لوقت طويل.
القبيلة المغربية
تنقسم الشاوية إلى اثنتي عشرة قبيلة، وهو الاسم الذي استعمله الأوروبيون والمؤلفون القدامى الذين كتبوا عن المغرب وكانوا يريدون به ما أصبح يعرف عند المعاصرين باسم القبيلة. و»القبيلة» هو الاسم المتداول في عموم المغرب، وهو متداول في سائر بلدان شمال أفريقيا، لكن أكثر شيوعاً في المغرب. وأما في الجزائر فلا يزالون يقولون «العرش» أو «النجع». قال بيل : «إنهم يستعملون هذه الأسماء الثلاثة من غير تفريق، لكن توجد بينها فروقات دقيقة. ف»النجع» هو القبيلة المتوسطة، و»العرش» هو القبيلة الصغيرة و»القبيلة» أكبر منهما معاً». غير أن الاسم الغلب على الاستعمال في الجزائر هو «العرش»، وقد ساهمت الإدراة في التوسيع من نطاق استعماله إذا كانت تكاد تقتصر عليه في محرراتها العربية. وأما سكان جرجرة فيُسمون في مجموعهم «قبايل»، ومهن اشتق الجزائريون اسم قبايل وقبايلي، وهما كلمتان شديدتا اختلاف عن اللفظ شائع الاستعمال في المغرب. وأعتقد أن هذا التشابه قد كان مصدراً لما لاعد له من أوجه الخلط والالتباس التي اعتورت المراسلات بين الجزائر والمغرب، خاصة ما كانت تتناقل منها قصاصات وكالات الأخبار. وأما شاوية الأوراس الذي يستهجنون هذا الاسم، كما أسلفنا القول، فإنهم يسمون أنفسهم «هاقبايل»، شأنهم شأن أهل القبايل. ونجد مؤلفين آخرين قد جاءوا بأوجه من العبارة نفسها لتسمية تجمعات أخرى من البربر.
قدم اسم «القبيلة»
وكلمة «القبيلة» من الأسماء القديمة جداً، فأنت تجدها في شعر ما قبل الإسلام، وإن تكن فيه قليلة ورود؛ فلا نعرف لها فيه غير أمثلة قليلة يأتي فيها على صيغة الجمع. ويكثر ورود هذه الكلمة في نصوص النثر [العربية] القديمة والمعاصرة. ولا تغيب هذه الكلمة، بعكس ما يذهب إليه كدينفلت، في اللغة المعاصرة المتداولة في المشرق. فهذا لاندبيرغ يفيدنا أن اسم القبيلة يُجعل في جنوب شبه الجزيرة العربية للقبيلة المنتسبة إلى أحد الأجداد من البدو، وتكون هذه القبيلة على انسجام ووحدة، لكن تسير إلى اتساع بما يداخلها من الأعداد الكبيرة من الوافدين. وتكون القبائل على قدر متفاوت من الاتساع ومن الترابط في ما بينها، بحيث يصعب الجزم في معظم الأحيان بأن هذه الواحدة من هذه المجموعات البشرية تستحق بالفعل لقب «القبيلة». ولا تجد لدى الأهالي خاصة في المغرب عرفاً أو استعمالاً ثابتاً يلتزمونه ولا يخرجون عنه. علاوة على أن تنظيم القبائل والمدن في شمال إفريقيا وتوزيعها وأسماءها ووظائفها تعتبر من الأمور التي لا يزال يلفها الغموض والالتباس. وقد سعى ماسكراي إلى معالجة هذه الأمور في دراسته للقبايل والأوراس وامزاب، ثم على نراه ضمن كتابه كذلك، على الرغم من ذلك العنوان فيه - [تشكل الحواضر لدى الساكنة المقيمة في الجزائر] – الكثير من الأخيار والمعلومات عن القبائل الرحل. ونحن نقف في هذا الكتاب كذلك على الاختلاف الكبير الذي يوجد بين كلمتي «العرش» و»القبيلة» لدى امزاب والقبايل.
التنظيم الاجتماعي عند العرب
لم يترك لنا الكتاب العرب معلومات ضافية عن المسالة، حيث ظلوا مشدودين – كما في أمكان أخرى – إلى الجانب النظري دونما تساؤل عن طبيعة أنظمتهم الاجتماعية هل كانت مسايرة للأحداث والتحولات أم لا؟ وسنورد هنا بعض المقتطفات من كتابتهم :
«يشير ابن الكلبي نقلاً عن أبيه أن الشعب أكبر من القبيلة التي تأتي الإمارة ثم البطن ثم الفخذ». وذكر آخر في ترتيبها من الأكبر إلى الأصغر ما يلي : «الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة».
ثم جاء نوفل أفندي نعمة الله بعكس ذلك وقال : «تقسم العرب في اصطلاح علماء النسب، إلى طوائف أعمها الشعب وأخص منه القبيلة ثم العمارة ثم البطن والبطون هم أوساط الأنسباء في القرب من الجد الأعلى والبعد عنه ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة وهم أدنى الأقارب فالشعوب في القبائل مثل بني مضر والقبائل مثل بني قيس بن غيلان بن مضر والعمائر مثل سعد بن قيس بن غيلان والبطون مثل بني ذبيان بن مغيض بن ريث بن غطفان والفصائل مثل بني فزازة والعشائر مثل بي بدر الفزاري».
والذي يبدو أن كل ما ذكرنا لا يأتي بتجلية لهذه المسألة. وخاصة أن اسم «قبيلة» في المغرب يشتمل في ما يبدو على معاني متغايرة. والأقوام الناطقون بالأمازيغية لهم فيها تسميات مختلفة كلياً، ستسنح لنا فرص للحدث عنها في ما يقبل من هذا الكتاب. إنه فصل في علم اجتماع شمال إفريقيا لا يزال ينتظر من يكتبه.
الخروج من الدار البيضاء
(25 مارس 1901). تركت قافلتنا الصغيرة في الساعة التاسعة صباحاً قنصلية فرنسا وخرجت من المدينة من باب الكبير. اليوم الاثنين، وهو اليوم الذي ينعقد فيه السوق أمام هذا الباب، فيتزايد نشاطه فوق ما يكون في بقية الأسبوع. فصرنا نشق لنا بصعوبة طريقاً وسط الحشد الكثيف من أصحاب البرانس البيضاء والصهباء، وبينها المتسخ والمرقع. الطقس بالغ الجمال وساطع النور بحيث تدس سطوعها كله في نتوءات ثناياها الاقمشة الباذخة. ثم تجاوزنا آخر البيوت في ضاحية الدار البيضاء، ولم تلبث أن حجبها عنا مرتفع من الأرض صغير. إنه «كركور»؛ أي كومة مقدسة من الحجارة، يقوم علامة على الموضع الذي منه يرى المسافر الذي يأتي إلى أزمور، لأول مرة، مدينة مولاي بوشعيب. وهو اسم الولي المسلم لهذه المدينة، الذي لا يفوت المؤمنين الأتقياء أن يأتوا للتبرك به في الموضع ووضع حجر على ذلك الكركور.
وللمدن والقبائل والقرى في المغرب، كما في باقي بلدان شمال إفريقيا، أولياؤها الدينيون. فأنت تعرف على الفور البلد الذي منه المسلم التقي بالانتباه إلى اسم الولي الذي يكثر من ترديده في حديثه. فأهل فاس يحلفون بمولاي إدريس، وأهل مراكش يحتجون بسيدي بلعباس السبتي، وأهل سوس يعتدُّون بسيدي احماد أوموسى...، إلخ. وإذا ذُكر أمامك اسم أحد كبار الأولياء هذه وجب أن تقول تأدباً : «شاي الله».
سيدي بليوط
إن ولي الدار البيضاء الذي يحيطه الناس بالكثير من التوقير قد كان إلى منتصف القرن الماضي [التاسع عشر] يكاد يكون مجهولاً. فلم يكن ضريحه يزيد عن بيت بائس يقوم على حراسته رجل يدعى بلمكناسي، الذي جعل من نفسه مقدماً عليه. وما تسنى جمع مبلغ من الماء غير يسير إلا في سنة 1851م سخر في بناء «قبة» ضريح الحالية. ويقال إن سيدي بيلوط كان شريفاً «ركراكياً»، والخرافة تنسب إليه بركة الحضور في كل مكان. والحجاج يأتون إليه للتبرك منه قبل التوجه إلى مكة. وما أعظم دهشتهم إذا جاءوا إلى تلك المدينة المقدسة فيجدون هناك سيدي بليوط بعد أن كانوا يعتقدون أنهم تركوه في ذلك المكان البعيد! ويقال إن الماء الذي ينزل في الدار البيضاء، وينزل خاصة على «قبة» سيدي بيلوط له خصائص عجيبة، فكل من شرب منه لابد أن يعود إلى الدارالبيضاء، ولو شط به البعاد إلى أقاصي المعمور. ويقال كذلك إن لسيدي بليوط بركة التحكم في الحيوان؛ فقد كان يتجول تحيط به الأسود، ومنها جاء اسمه سيدي بليوط، الذي لا يعدو أن يكون تحريفاً للاسم الفصيح «أبو الليوث».
ضاحية الدار البيضاء
الدار البيضاء مترامية لا يحيط بها البصر، والسهل المنبسط إلا من بعض تموجات هينة تتوزعه الأراضي المزروعة والمساحات التي تركت يبعمرها نبات البروق، فيشيع في الأرجاء رائحة تمازجها حرافة، وزرابي من الأدريون تكسو بعض تلك النواحي تخالطها أزهار الأدريون التزيينية الجميلة الشائعة لدى الجزائريين (الشيح)، ولسيناتها الطويلة ينعكس عليها البريق المخملي الزهيرات الأرجواني، فتكون مع رؤيسات اللؤلؤيات وتويجات اللُّبينات، فتكون حاشية وافرة على المعطف المتحرك للشعير الأخضر. فتشكل لوحة تتميز خصوبة وغنى. فكيف يقدر لها أن تختلط بصور الخراب والأسى؟ فقد بدأت تلك الحشرة القاتلة ترسل فلولها على هذه الأنحاء؛ إنه «الجراد الجوال»، المرعب للفلاحين في إفريقيا، الذي بدأت نذره تظهر في سائر أنحاء هذه المنطقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.