أخنوش أصبح يتحرك في المجالات الملكية مستبقا انتخابات 2026.. (صور)    الجزائر تتجه نحو "القطيعة" مع الفرنسية.. مشروع قانون لإلغائها من الجريدة الرسمية    الصين: ارتفاع الإيرادات المالية بنسبة 1,3 بالمائة في 2024    فرص جديدة لتعزيز الاعتراف بالصحراء المغربية في ظل التحولات السياسية المرتقبة في كندا والمملكة المتحدة    تعيين أكرم الروماني مدربا جديدا لنادي المغرب الرياضي الفاسي    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    كل ما تحتاج معرفته عن داء "بوحمرون": الأسباب، الأعراض، وطرق الوقاية    سقوط قتيل وإصابات في جنوب لبنان    ترامب يقترح خطة لترحيل سكان غزة    وزارة التعليم تكشف تقدم حوارها مع النقابات في القطاع    وضعية السوق العشوائي لبيع السمك بالجملة بالجديدة: تحديات صحية وبيئية تهدد المستهلك    منتدى الصحافيين والإعلاميين الشباب يجتمع بمندوب الصحة بإقليم الجديدة    تلميذ يرسل مدير مؤسسة تعليمية إلى المستشفى بأولاد افرج    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    طنجة.. حفل توزيع الشواهد التقديرية بثانوية طارق بن زياد    بطولة إيطاليا لكرة القدم .. نابولي يفوز على ضيفه يوفنتوس (2-1)    إسرائيل تفرج عن محمد الطوس أقدم معتقل فلسطيني في سجونها ضمن صفقة التبادل مع حماس    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليمي تطوان وشفشاون    الدفاع الحسني الجديدي يتعاقد مع المدرب البرتغالي روي ألميدا    تفكيك شبكة تزوير.. توقيف شخصين وحجز أختام ووثائق مزورة بطنجة    ملفات التعليم العالقة.. لقاءات مكثفة بين النقابات ووزارة التربية الوطنية    الكشف عن شعار "كان المغرب 2025"    أغنية "Mani Ngwa" للرابور الناظوري A-JEY تسلط الضوء على معاناة الشباب في ظل الأزمات المعاصرة    استمرار الأجواء الباردة واحتمال عودة الأمطار للمملكة الأسبوع المقبل    أوروبا تأمل اتفاقا جديدا مع المغرب    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    حصار بوحمرون: هذه حصيلة حملة مواجهة تفشي الوباء بإقليم الناظور    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء المغربية    هذه خلاصات لقاء النقابات مع وزارة التربية الوطنية    ملتقى الدراسة في إسبانيا 2025: وجهة تعليمية جديدة للطلبة المغاربة    الجمعية المغربية للإغاثة المدنية تزور قنصليتي السنغال وغينيا بيساو في الداخلة لتعزيز التعاون    أداء الأسبوع سلبي ببورصة البيضاء    فريدجي: الجهود الملكية تخدم إفريقيا    جبهة "لاسامير" تنتقد فشل مجلس المنافسة في ضبط سوق المحروقات وتجدد المطالبة بإلغاء التحرير    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    الأميرة للا حسناء تترأس حفل عشاء خيري لدعم العمل الإنساني والتعاون الدبلوماسي    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    وزارة الصحة تعلن أمرا هاما للراغبين في أداء مناسك العمرة    إطلاق أول مدرسة لكرة السلة (إن بي أي) في المغرب    السياحة الصينية المغربية على موعد مع دينامية غير مسبوقة    المغرب يفرض تلقيحاً إلزاميًا للمسافرين إلى السعودية لأداء العمرة    مونديال 2026: ملاعب المملكة تفتح أبوابها أمام منتخبات إفريقيا لإجراء لقاءات التصفيات    لقجع.. استيراد اللحوم غير كافي ولولا هذا الأمر لكانت الأسعار أغلى بكثير    الربط المائي بين "وادي المخازن ودار خروفة" يصل إلى مرحلة التجريب    "حادث خلال تدريب" يسلب حياة رياضية شابة في إيطاليا    ريال مدريد أكثر فريق تم إلغاء أهدافه في الليغا بتقنية "الفار"    اثنان بجهة طنجة.. وزارة السياحة تُخصص 188 مليون درهم لتثمين قرى سياحية    بالصدى .. بايتاس .. وزارة الصحة .. والحصبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة


الحلقة 4
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المرابط
وأما كلمة «مْرابط» في اللغة الدارجة فمن المعلوم أنها تُستعمل في القسم الأكبر من بلدان المغرب، وحتى في الأسكندرية، بمعنى الولي، ويُستعمل توسيعاً، بمعنى الضريح الذي يضم رفات الولي. لكننا نجد هذه الكلمة تُستعمل في المغرب بمعنى أكثر تحديداً؛ فهم يغلِّبون في تسمية الولي كلمة «السيد»، يطلقونها عامة على المباني التي تحوي رفات الأولياء. وأما كلمة «المرابط» فأكثر ما يطلقونها على الأولياء من غير الشرفاء (من المعلوم أن كلمة «الشريف» تطلق على من يعتبرون من سلالة النبي)، علاوة على أن كلمة «المرابط»، على نحو ما يستعملها المغاربة الذي نهتم بعقد لهم هذا الكتاب، تنطوي على فكرة وراثة الولاية ونقل «البركة»، أو الحظوة اللدنية المعقودة للمرابط. فإذا أفلح حفدة الولي من غير الشرفاء في تكوين زاوية عدُّوا «مرابطين» بامتياز. ولذلك كانت الزوايا على نوعين؛ زوايا للشرفاء وأخرى للمرابطين، ولا تجد هاتين المؤسستين تشتركان في الخصائص أو تلتقي في التوجهات. والولي المفرد يسمى «مرابطاً» ويمكنه أن يدخل في زمرة faire souche المرابطين، لكن هذه الكلمة لا تُجعل للبناء الذي سيضم رفات هذا الرجل التقي. والشلوح يسون الولي «أكرام»، ونفوذه يكون بوجه عام أكبر بكثير من نفوذ الشرفاء. ومن النادر أن ترى القايد يأتي بما يسيء إلى «أكرام»، بينما لا يولي القدر نفسه من الاحترام للشريف. فالذي يبدو إذن أن المرابط يمثل شكلاً من الولاية يحتمل أن يكون له من الاستمرار ومن القدم أكثر مما للشريف.
ويُسمى الصلحاء كذلك «أولياء»، وهو اسم إنما يدل على درجة معينة في العلاقات الصوفية التي تقوم بين الله والولي. ولا تكون صفة الولي بالوراثية. وأما كلمة «صالح» فهي بحق كلمة عامة للدلالة على الأولياء، وأما كلمة «الفقير» فإن لها معنى واسعاً، فهي تدل على الأشخاص المنقطعين للعبادة وتطلق على الدراويش وعلى الصلاَّح وعلى أعضاء الطرقية...
وفي الأخير، فإن المتعلمين تعني لديهم كلمة «المرابط»، كما هو شأنها في المشرق، وفي اللغة الفصحى، «من يحارب الكفار». وتراهم في منطقة أزمور التي يكثر فيها المتعلمون، يستعملون هذه الكلمة يريدون بها في المقام الأول الأبطال المسلمين اشتهروا بمجاهدة المسيحيين في القرن السادس عشر، وقت أن تحقق للمغرب الخلاص النهائي من الهيمنة البرتغالية والهيمنة الاسبانية. فقد كانت أزمور مسرحاً لقتالات بطولية الإسلامية ضد المسيحية التي أصبحت، بعد استعادتها الأندلس من المسلمين، ولذلك فالأرض التي نطأها الآن أرض عامرة بالأولياء بامتياز، بالمعنى الأول لهذه الكلمة؛ أي أولئك الذين قتلوا «في سبيل الله»، حسب العبارة العربية التي تطلق على «الحرب المقدسة» أو الجهاد.
غير أننا نرى العامة في المنطقة التي نحن فيها الآن لا يفهمون كلمة «المرابط» بغير المعنى الأول من المعنيين السابقين الذين تناولناهما بالحديث، وتراهم يقتصرون على تسمية «الولي» الذي يعرفه المتعلمون، وبطل الإسلام، باسم «المجاهد»، فهم لا يعتبرون هذه الأرض أرض «المرابطين» بل هي أرض «المجاهدين»، وهي الكلمة العامة التي يطلقونها على المحاربين [في سبيل الإسلام]. ومن العسير استجلاء الأصل في هذين المعنيين والعلاقة بينهما في تاريخ اللغة المتكلمة، وقد سبق لنا أن سعينا إلى تناول هذه المسألة، وسنعود إليها بالحديث.
في الساعة الثالثة وعشر دقائق، تراءت لنا، بعد لأي، مدينة أزمور، ببياضها الناصع، وهي تتكئ على هضبة خضراء غامقة، وترتقي ببيوتها حتى ضريح الولي مولاي بوشعيب، ولي المدينة. والناظر إلى أزمور يكنفها ذلك البياض الناصع الرقيق يستخفه أشبه بالسحر، وكأني به يود لو يتهالك على نفسه في هذا المكان، وفي هذا الركن الميت من المغرب العتيق، وفي البيوت الأليفة في هذه المدينة الصامتة التي لم يتصل بها الأوروبي بعد، وفي الحياة الخاوية التي يحياها سكانها، تلك الحياة التي يصرفونها بين جدران قد اعتنوا بتبييضها، وفوق الزرابي والحصر النقية الطاهرة، في الفناء الذي تظله الكرمة المعترشة، بين حرارة الصلاة ودفء الأسرة، والاستماع بشمس سخية بأنوارها.
في هذا الركن من الطريق تقوم غيضة من شجر الرتم. وإذا أحد رفاقي المسلمين مل أن تراءت له أزمور حتى شرع يتوسل بمولاي بوشعيب، ثم دنا من الغيضة وجمع بعض أغصان الرتم الشبيهة بالأسل وأخذ يفتلها. وقد أمكن له أن يفتل على هذا النحو معظم تلك الأغصان. فقد جرت العادة على أن يقوم الزائر إذا اقترب من أحد المزارات وفي نفسه لصاحبه رجاء أن يقوم فيما يفصح عن ذلك الرجاء بعقد بضعة فروع من الشجيرات القائمة بإزائه. والناس في الجزائر يعقدون، في ما يبدو، نبات الحلفاء أو الديس، وفي المغرب يعقدون الرتم فهو أسلس بكثير لهذه الممارسة. وقلما تجد ولياً في هذه النواحي لا يجعلون له هذه العقد متى وجدوا بجواره هذه النباتات. وقد رأينا كذلك في أشجار الرتم التي مررنا بقربها قد علق فيها الكثير من الخرق، جرياً على عادة شبيهة بالسابقة ولها شيوع في أنحاء العالم. وقد جرت العادة كذلك على أن يطلب الزائر إلى أحد التقاة أن يزيد حجراً إلى الكركور المكرس للولي من الأولياء؛ على نحو ما سنرى في الكركور الذي سينتصب أمامنا بعد قليل. فالاقتراب من مولاي بوشعيب تدلنا عليه كومة حجارة من تلك الأكوام التي سبق لنا الحديث عنها؛ إلا أن الكومة التي عند هذا الولي أكبر حجماً الحجارة، ويمكن إدخالها في الأكوام التقليدية. وسنرى أن الحجارة تلعب في كل أرجاء الجنوب المغرب الجنوبي دوراً هاماً في المجال الديني. ولا نريد أن نثقل على القارئ بالكلام المكرور، ولذلك سنعمل ههنا على تجميع أهم الملاحظات التي تكونت لدينا خلال هذه الرحلة ولملمة شعتها وتقديمها دفعة واحدة.
لا يقتصر مدلول الكلمة «كركور»، التي كثر ورودها عندنا، على أكوام الحجارة المقدسة، بل يشمل بوجه عام أكوام الحجارة على اختلاف أنواعها. وهذا معنى يتفق ومعنى الجذر اللغوي الذي اشتق منه. وتنسحب كلمة الكركور كذلك على الحجارة تُقتلع من الحقول ليسهل حرثها ثم تُجمَّع في أكوام. ولذلك ينبغي أن نتحوط من التعجل في إسقاط الطابع الديني على ما نلاقي في طريقنا من أكوام الحجارة؛ فقد لا تزيد عن أن تكون علامات أو مجرد إشارات؛ فقد تجد الشخصين على سبيل التمثيل إذا أرادا أن يؤكدا لبعضهما أنهما قد مرا بالفعل بمكان من الأمكنة، فيتفقان على أن أول من يمر بذلك المكان يضع فيه كركوراً صغيراً أو «رجماً».
وهذه الكلمة الأخيرة أقرب إلى أن تكون مرادفة لكلمة «كركور»، وهي تُستعمل عوضاً أحياناً حسب المناطق؛ فنحن نجدها كثيرة الاستعمال على سبيل التمثيل في الصحراء الجزائرية. وكثيراً ما يُتخذ الرجم في جنوب وهران علامات يُستدل بها على الآبار أو على اتجاهات الطرق. ومعظم هذه الأكوام من الحجارة يكون على قدر كبير من التنسيق، وفي هيأة أعمدة بعلو مترين إلى ثلاثة أمتار ُتجعل فوق القمم العالية.
وترى الناس في كثير من الجهات في الجزائر إذا عن لهم أن يخصصوا القطعة من الأرض للرعي، أو ما يسمى ب «المكدل»، ويريدون أن يمنعوا خرفان غيرهم أن تأتي لترعى فيها، وضعوا من حولها كومات حجارة لتنبيه الرعاة فلا يقودون إليها قطعانهم. وفي البلاد التي يوجد فيها شجر الأركان، وتمتلئ منها بواديها، ترى الناس في الفترات التي تنضج فيها ثمار هذه الشجرة الأثيرة على الماعز، يحيطون جميع الأراضي بأكوام من الحجارة دلالة على أن أصحابها يمنعون عنها رعي الماعز وهو الرعي الذي يسمحون به في غير تلك الفترة من السنة. فإذا فرغوا من جني ثمار الأركان أطاحوا بتلك الحجارة وعادت الأراضي لتفتح في وجه الماعز.
العلامة
وتوجد كذلك حالات كثيرة تكون فيها أكوام الحجارة لا تزيد عن نصب تذكاري؛ أي أنها لا تزيد عن «علامة». وهذه العلامات تقام في الأماكن التي تكون مرت منها بعض عظام الشخصيات؛ كمثل المكان الذي عسكر فيه السلطان. وقد لا يُقتصر في هذه العلامات على أن تكون مجرد كومة من الحجارة؛ كمثل تلك العلامة التي أقيمت تخليداً لمرور مولاي الحسن بتيط غير بعيد عن الجديدة، فهي عبارة عن عمود مبيض بالجير. وعلاوة على ذلك فإن كل حدث هام يمكن أن يكون سبباً في أقامة كركور. فمن المعلوم أن الجماعة في القبائل متى اتخذت قراراً هاماً إلا وأقامت كركوراً لتخليده. ولا تزال ترى الكراكر تقيمها أهل المغرب وأهل ولاية وهران في الموضع الذي يتم لهم فيه قتل الحيوان المتوحش. ويحكي الجنرال ماركريت أن الأهالي رأوه يقتل غزالة من مسافة بعيدة، فأقاما له رجمين؛ الأول في الموضع حيث سقط الحيوان، والثاني في الموضع الذي منه أطلق الجنرال النار.
الحدادة
وهناك نوع آخر من أكوام الحجارة لا يزال غير معروف للكثيرين، وهو المسمى «الحدادة»؛ فلم نعرض له بالدراسة في المغرب. ويطلق هذا الاسم في ولاية وهران على كومة الحجارة توضع عند الحدود الفاصلة بين عدة قبائل، وإليها يأتي الأهالي لأداء اليمين ويحلفون على اسم أحد الأولياء. ويوجد نموذج لهذه الأكوام من الحجارة في تمزورة، قرب وهران، وإليه يأتي الأهالي ليقسموا على اسم سيدي بوتليسين، وذلك حسب قولهم لكي لا يتجشموا الذهاب إلى الولي ويقتصدوا في المسافة. وقد جرت العادة على أن توضع «لحدادة» في المكان الذي تُرى منه قبة الولي، وهي مقصورة على أداء اليمين.
لكن هذه الحالات التي أتينا على ذكرها ههنا تختلف جميعاً عن الحالات التي سنتهتم ببحثها، بحكم أن العادة لم تجر فيها على أن المارة بها يزيدون، كفعلهم في الأخرى التي تهمنا، حجراً إلى كومة الحجارة القائمة.
المنزه
يرفع الناس في الموضع من الحقل الذي يتوفى فيه الشخص كومة من الحجارة، وهو ما يعرف عندهم باسم «المنزه». ويخبرنا أحد مخبرينا المغاربة أن «المنزه» هو المكان جرى فيه تغسيل الميت وتطهيره، وهذا هو بالفعل معنى الجذر العربي لهذه الكلمة. وتجد المنازه في كثير من الأمكنة، والناس شديدو توقير لها، وحتى إنهم ليخشون المساس بها، فإذا تناولت منها حجراً عن غير قصد، سمع من يقول لك : «لا تلمسه، وتوق الحذر، إنه منزه». وأكثر ما يقام هذا النوع من النصب في الموضع الذي يُقتل فيه الشخص أو يلقي فيه الميتة العنيفة أو الشنيعة، ويسمونه كذلك «مشهداً»، لأن الذي مات فيه، حسبما يقولون، إنما مات شهيداً. ومن العلوم أن العرب قد وسعوا كثيراً من مفهوم المسيحي للشهادة «الشهيد»، لأنهم يدخلون في الشهادة الشخص يُقتل من غير وجه حق، ويدخلون فيها بوجه عام حالات الأشخاص الذين يلقون الميتة الجديرة بالشفقة. لكن يجدر بالتذكير أن الكلمة العربية «مشهد» لها في العربية الفصحى معني القبر المقدس، أو قبر التقي من الناس.
وسواء أكانوا يسمون كومة الحجارة التي نهتم لها ههنا «منزها» أو «مشهداً»، أو جعلوا له اسماً أخر من بين تلك الأسماء الشديدة العمومية كالكركور والرجم والجدار، فإنه يظل يتميز عنها بخاصيتين لائحتين؛ أنه يقام في الموضع يتوفي فيه الشخص، الذي لا يكون بالضرورة من الأولياء، وأن هذا الشخص كون قد لقي الميتة الشنيعة، فالمار به يضع فوقه حجراً.
وقد ترى المعبر تحفه المخاطر، وقد جعلت فيه كراكر يشهد كل واحد منها على مكان جريمة، وأكثر القتلة في هذه الأماكن يكونون أجانب تعرضوا للاعتداء من قطاع الطرق، والشائع أن يسمى هذه النوع «كركور الغريب».
وعندما تسأل المغاربة لماذا يرمون بحجر على أحد هذه الكراكر، يكون جوابهم بوجه عام أنهم يفعلون لأبعاد «العائدين»، لأن روح الميت ربما عادت لترهق المارة بهذا المكان في جن آخرين، ومنهم الجن الذين يؤثرون مثل هذه الأمكنة. ولا يخفى عن أحد مبلغ الخوف الذي يجده أهالي شمال إفريقيا من الجن. علاوة على أن الاعتقاد بأن روح الميت تظل تتردد على مكان الوفاة لتتعرض للمارة هو اعتقاد قديم لدى الناس في سائر أنحاء العالم.
كركور على مشارف قبر ولي
ولننتقل الآن إلى أكوام الحجارة ذات الصلة بالولي من الأولياء. وربما كان الكركور الذي رأيناه على مقربة من أزمور هو النموذج الأتم الأكمل لهذه الكراكر؛ ذلك النموذج التقليدي للكركور المقدس الذي يُجعل للولي. فهو أولاً يقوم في الموضع الذي نرى منه المدينة أول مرة، ونرى منه بالتالي ضريح مولاي بوشعيب. ثم إن هذا الركور شديد الارتفاع، فلا يقل علوه عن متر ونصف. وهو كركور عظيم الحجم ومربع الزوايا قد أقيم في عرض الطريق يحكي هيكلاً بربارياً barbare. وفوق هذا الكركور ينتصب الكثير من الأهرامات الصغيرة قد وضع الزوار المتبركون، وقوامها خمسة أحجار أو ستة وضعت فوق بعضها في توازن، إذ جُعلت كبراها في الأسفل وصغراها في الأعلى. وترى وسط المساحة المستوية في الكركور حوشاً صغيراً، وهو مسور من الحجارة على هيأة حذوة الفرس، كما سنأتي إلى تبيانه في ما يُقبل، قامت على أعداده أيدي الزوار. فإذا تجاوزنا عن هذه الكومة الهائلة من الحجارة سرنا نلاقي بطول مائة متر على الطريق فيضاً من الحجارة موضوعة على جانبي الطريق، على هيأة صفوف، وأكثرها على هيأة أهرامات صغيرة من قبيل تلك الأهرامات التي تعلو الكركور الرئيسي. ومن العادات المرعية عند الزوار الذين متى جاءوا إلى هذا المكان أن يزيدوا حجراً إلى هذا الكركور، أو يقيمون أهرامات صغيرة فوقه أو بجواره، أو يقتصرون على وضع حجر فوق أحد تلك الأهرامات القائمة، ومن هذا المكان المبارك الذي تطالع الزائرَ مدينة مولاي بوشعيب.
ينطبق هذا الأمر على جميع الأولياء؛ ففي الموضع الذي نراهم منه أول مرة، خاصة في الأماكن المرتفعة، وبوجه أخص في المضايق، ينتصب كركور، أو إن الطريق على الأقل تكون في هذا الموضع تتناثر فيها أهرامات صغيرة من الحجارة، وهذا شيء نراه في «ركوبة» سيدي محمد العياشي التي سنمر بها في ما يقلبل. وكلمة «الركوبة» تعني «المكان الذي ننظر أو نرقب منه»، وهي تُقال كذلك يراد بها الخُنق أو المضيق، لكن يُقال عادة في اللغة الدارجة «ركوبة الولي الفلاني»، يريدون بها المضيق حيث تقام الكراكر. ذاك الولي أو ذاك الآخر». غير أن هذا الذي قلنا لا يعني أن على الزائر بالضرورة أن يرتقي ذلك المكان لكي يتأتى له بالفعل أن يرى قبر الولي، بل حسبه أن يقترب منه؛ وعندما سنرتقي إلى الخنق الضيق encaissé المؤدي إلى مولاي إبراهيم في جبال الأطلس جنوبي مراكش، سنراه قد سُد في مواضع منه بكراكر صغيرة من بضع حجارة متراصة، بحيث يلزمنا أن نتحوط عند مرورنا بها حتى لا نطيح بها.
وعلاوة على ذلك فإنك تجد بعض تلك الكراكر قد أقيمت في الجبال وفي المضايق المرتفعة، وهي في تلك الموضع تكون بعيدة جداً عن أضرحة الأولياء المنتسبة إليها. فهذا على سبيل التمثيل مضيق تيزي ن ميري، في جنوب مراكش، الذي يرتفع بعلو 3.200 متر ويمر خلال إحدى القمتين المتوازيتين اللتين تشكلان في هذا الموضع الأطلس؛ ففي هذا المضيق يوجد كركور مكرس، حسب ما يفيدنا الأهالي، لسيدي احماد أو موسى، الولي الأكبر لتازروالت وسوس. فإذا استفسرنا من المسافرين الذين يجوزون هذا المضيق لماذا يزيدون حجراً إلى هذا الكركور، أجابوا، وهم يفعلون : «عْلىَ سيدي احماد أو موسى»، أي إجلالاً لهذا الولي، وأنهم يعتقدون أنهم بهذا الفعل يؤمنون لأنفسهم سفراً خلو من الخاطر ومن المنغصات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.