القضاء يقول كلمته: الحكم في قضية "مجموعة الخير"، أكبر عملية نصب في تاريخ طنجة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة


الحلقة 4
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المرابط
وأما كلمة «مْرابط» في اللغة الدارجة فمن المعلوم أنها تُستعمل في القسم الأكبر من بلدان المغرب، وحتى في الأسكندرية، بمعنى الولي، ويُستعمل توسيعاً، بمعنى الضريح الذي يضم رفات الولي. لكننا نجد هذه الكلمة تُستعمل في المغرب بمعنى أكثر تحديداً؛ فهم يغلِّبون في تسمية الولي كلمة «السيد»، يطلقونها عامة على المباني التي تحوي رفات الأولياء. وأما كلمة «المرابط» فأكثر ما يطلقونها على الأولياء من غير الشرفاء (من المعلوم أن كلمة «الشريف» تطلق على من يعتبرون من سلالة النبي)، علاوة على أن كلمة «المرابط»، على نحو ما يستعملها المغاربة الذي نهتم بعقد لهم هذا الكتاب، تنطوي على فكرة وراثة الولاية ونقل «البركة»، أو الحظوة اللدنية المعقودة للمرابط. فإذا أفلح حفدة الولي من غير الشرفاء في تكوين زاوية عدُّوا «مرابطين» بامتياز. ولذلك كانت الزوايا على نوعين؛ زوايا للشرفاء وأخرى للمرابطين، ولا تجد هاتين المؤسستين تشتركان في الخصائص أو تلتقي في التوجهات. والولي المفرد يسمى «مرابطاً» ويمكنه أن يدخل في زمرة faire souche المرابطين، لكن هذه الكلمة لا تُجعل للبناء الذي سيضم رفات هذا الرجل التقي. والشلوح يسون الولي «أكرام»، ونفوذه يكون بوجه عام أكبر بكثير من نفوذ الشرفاء. ومن النادر أن ترى القايد يأتي بما يسيء إلى «أكرام»، بينما لا يولي القدر نفسه من الاحترام للشريف. فالذي يبدو إذن أن المرابط يمثل شكلاً من الولاية يحتمل أن يكون له من الاستمرار ومن القدم أكثر مما للشريف.
ويُسمى الصلحاء كذلك «أولياء»، وهو اسم إنما يدل على درجة معينة في العلاقات الصوفية التي تقوم بين الله والولي. ولا تكون صفة الولي بالوراثية. وأما كلمة «صالح» فهي بحق كلمة عامة للدلالة على الأولياء، وأما كلمة «الفقير» فإن لها معنى واسعاً، فهي تدل على الأشخاص المنقطعين للعبادة وتطلق على الدراويش وعلى الصلاَّح وعلى أعضاء الطرقية...
وفي الأخير، فإن المتعلمين تعني لديهم كلمة «المرابط»، كما هو شأنها في المشرق، وفي اللغة الفصحى، «من يحارب الكفار». وتراهم في منطقة أزمور التي يكثر فيها المتعلمون، يستعملون هذه الكلمة يريدون بها في المقام الأول الأبطال المسلمين اشتهروا بمجاهدة المسيحيين في القرن السادس عشر، وقت أن تحقق للمغرب الخلاص النهائي من الهيمنة البرتغالية والهيمنة الاسبانية. فقد كانت أزمور مسرحاً لقتالات بطولية الإسلامية ضد المسيحية التي أصبحت، بعد استعادتها الأندلس من المسلمين، ولذلك فالأرض التي نطأها الآن أرض عامرة بالأولياء بامتياز، بالمعنى الأول لهذه الكلمة؛ أي أولئك الذين قتلوا «في سبيل الله»، حسب العبارة العربية التي تطلق على «الحرب المقدسة» أو الجهاد.
غير أننا نرى العامة في المنطقة التي نحن فيها الآن لا يفهمون كلمة «المرابط» بغير المعنى الأول من المعنيين السابقين الذين تناولناهما بالحديث، وتراهم يقتصرون على تسمية «الولي» الذي يعرفه المتعلمون، وبطل الإسلام، باسم «المجاهد»، فهم لا يعتبرون هذه الأرض أرض «المرابطين» بل هي أرض «المجاهدين»، وهي الكلمة العامة التي يطلقونها على المحاربين [في سبيل الإسلام]. ومن العسير استجلاء الأصل في هذين المعنيين والعلاقة بينهما في تاريخ اللغة المتكلمة، وقد سبق لنا أن سعينا إلى تناول هذه المسألة، وسنعود إليها بالحديث.
في الساعة الثالثة وعشر دقائق، تراءت لنا، بعد لأي، مدينة أزمور، ببياضها الناصع، وهي تتكئ على هضبة خضراء غامقة، وترتقي ببيوتها حتى ضريح الولي مولاي بوشعيب، ولي المدينة. والناظر إلى أزمور يكنفها ذلك البياض الناصع الرقيق يستخفه أشبه بالسحر، وكأني به يود لو يتهالك على نفسه في هذا المكان، وفي هذا الركن الميت من المغرب العتيق، وفي البيوت الأليفة في هذه المدينة الصامتة التي لم يتصل بها الأوروبي بعد، وفي الحياة الخاوية التي يحياها سكانها، تلك الحياة التي يصرفونها بين جدران قد اعتنوا بتبييضها، وفوق الزرابي والحصر النقية الطاهرة، في الفناء الذي تظله الكرمة المعترشة، بين حرارة الصلاة ودفء الأسرة، والاستماع بشمس سخية بأنوارها.
في هذا الركن من الطريق تقوم غيضة من شجر الرتم. وإذا أحد رفاقي المسلمين مل أن تراءت له أزمور حتى شرع يتوسل بمولاي بوشعيب، ثم دنا من الغيضة وجمع بعض أغصان الرتم الشبيهة بالأسل وأخذ يفتلها. وقد أمكن له أن يفتل على هذا النحو معظم تلك الأغصان. فقد جرت العادة على أن يقوم الزائر إذا اقترب من أحد المزارات وفي نفسه لصاحبه رجاء أن يقوم فيما يفصح عن ذلك الرجاء بعقد بضعة فروع من الشجيرات القائمة بإزائه. والناس في الجزائر يعقدون، في ما يبدو، نبات الحلفاء أو الديس، وفي المغرب يعقدون الرتم فهو أسلس بكثير لهذه الممارسة. وقلما تجد ولياً في هذه النواحي لا يجعلون له هذه العقد متى وجدوا بجواره هذه النباتات. وقد رأينا كذلك في أشجار الرتم التي مررنا بقربها قد علق فيها الكثير من الخرق، جرياً على عادة شبيهة بالسابقة ولها شيوع في أنحاء العالم. وقد جرت العادة كذلك على أن يطلب الزائر إلى أحد التقاة أن يزيد حجراً إلى الكركور المكرس للولي من الأولياء؛ على نحو ما سنرى في الكركور الذي سينتصب أمامنا بعد قليل. فالاقتراب من مولاي بوشعيب تدلنا عليه كومة حجارة من تلك الأكوام التي سبق لنا الحديث عنها؛ إلا أن الكومة التي عند هذا الولي أكبر حجماً الحجارة، ويمكن إدخالها في الأكوام التقليدية. وسنرى أن الحجارة تلعب في كل أرجاء الجنوب المغرب الجنوبي دوراً هاماً في المجال الديني. ولا نريد أن نثقل على القارئ بالكلام المكرور، ولذلك سنعمل ههنا على تجميع أهم الملاحظات التي تكونت لدينا خلال هذه الرحلة ولملمة شعتها وتقديمها دفعة واحدة.
لا يقتصر مدلول الكلمة «كركور»، التي كثر ورودها عندنا، على أكوام الحجارة المقدسة، بل يشمل بوجه عام أكوام الحجارة على اختلاف أنواعها. وهذا معنى يتفق ومعنى الجذر اللغوي الذي اشتق منه. وتنسحب كلمة الكركور كذلك على الحجارة تُقتلع من الحقول ليسهل حرثها ثم تُجمَّع في أكوام. ولذلك ينبغي أن نتحوط من التعجل في إسقاط الطابع الديني على ما نلاقي في طريقنا من أكوام الحجارة؛ فقد لا تزيد عن أن تكون علامات أو مجرد إشارات؛ فقد تجد الشخصين على سبيل التمثيل إذا أرادا أن يؤكدا لبعضهما أنهما قد مرا بالفعل بمكان من الأمكنة، فيتفقان على أن أول من يمر بذلك المكان يضع فيه كركوراً صغيراً أو «رجماً».
وهذه الكلمة الأخيرة أقرب إلى أن تكون مرادفة لكلمة «كركور»، وهي تُستعمل عوضاً أحياناً حسب المناطق؛ فنحن نجدها كثيرة الاستعمال على سبيل التمثيل في الصحراء الجزائرية. وكثيراً ما يُتخذ الرجم في جنوب وهران علامات يُستدل بها على الآبار أو على اتجاهات الطرق. ومعظم هذه الأكوام من الحجارة يكون على قدر كبير من التنسيق، وفي هيأة أعمدة بعلو مترين إلى ثلاثة أمتار ُتجعل فوق القمم العالية.
وترى الناس في كثير من الجهات في الجزائر إذا عن لهم أن يخصصوا القطعة من الأرض للرعي، أو ما يسمى ب «المكدل»، ويريدون أن يمنعوا خرفان غيرهم أن تأتي لترعى فيها، وضعوا من حولها كومات حجارة لتنبيه الرعاة فلا يقودون إليها قطعانهم. وفي البلاد التي يوجد فيها شجر الأركان، وتمتلئ منها بواديها، ترى الناس في الفترات التي تنضج فيها ثمار هذه الشجرة الأثيرة على الماعز، يحيطون جميع الأراضي بأكوام من الحجارة دلالة على أن أصحابها يمنعون عنها رعي الماعز وهو الرعي الذي يسمحون به في غير تلك الفترة من السنة. فإذا فرغوا من جني ثمار الأركان أطاحوا بتلك الحجارة وعادت الأراضي لتفتح في وجه الماعز.
العلامة
وتوجد كذلك حالات كثيرة تكون فيها أكوام الحجارة لا تزيد عن نصب تذكاري؛ أي أنها لا تزيد عن «علامة». وهذه العلامات تقام في الأماكن التي تكون مرت منها بعض عظام الشخصيات؛ كمثل المكان الذي عسكر فيه السلطان. وقد لا يُقتصر في هذه العلامات على أن تكون مجرد كومة من الحجارة؛ كمثل تلك العلامة التي أقيمت تخليداً لمرور مولاي الحسن بتيط غير بعيد عن الجديدة، فهي عبارة عن عمود مبيض بالجير. وعلاوة على ذلك فإن كل حدث هام يمكن أن يكون سبباً في أقامة كركور. فمن المعلوم أن الجماعة في القبائل متى اتخذت قراراً هاماً إلا وأقامت كركوراً لتخليده. ولا تزال ترى الكراكر تقيمها أهل المغرب وأهل ولاية وهران في الموضع الذي يتم لهم فيه قتل الحيوان المتوحش. ويحكي الجنرال ماركريت أن الأهالي رأوه يقتل غزالة من مسافة بعيدة، فأقاما له رجمين؛ الأول في الموضع حيث سقط الحيوان، والثاني في الموضع الذي منه أطلق الجنرال النار.
الحدادة
وهناك نوع آخر من أكوام الحجارة لا يزال غير معروف للكثيرين، وهو المسمى «الحدادة»؛ فلم نعرض له بالدراسة في المغرب. ويطلق هذا الاسم في ولاية وهران على كومة الحجارة توضع عند الحدود الفاصلة بين عدة قبائل، وإليها يأتي الأهالي لأداء اليمين ويحلفون على اسم أحد الأولياء. ويوجد نموذج لهذه الأكوام من الحجارة في تمزورة، قرب وهران، وإليه يأتي الأهالي ليقسموا على اسم سيدي بوتليسين، وذلك حسب قولهم لكي لا يتجشموا الذهاب إلى الولي ويقتصدوا في المسافة. وقد جرت العادة على أن توضع «لحدادة» في المكان الذي تُرى منه قبة الولي، وهي مقصورة على أداء اليمين.
لكن هذه الحالات التي أتينا على ذكرها ههنا تختلف جميعاً عن الحالات التي سنتهتم ببحثها، بحكم أن العادة لم تجر فيها على أن المارة بها يزيدون، كفعلهم في الأخرى التي تهمنا، حجراً إلى كومة الحجارة القائمة.
المنزه
يرفع الناس في الموضع من الحقل الذي يتوفى فيه الشخص كومة من الحجارة، وهو ما يعرف عندهم باسم «المنزه». ويخبرنا أحد مخبرينا المغاربة أن «المنزه» هو المكان جرى فيه تغسيل الميت وتطهيره، وهذا هو بالفعل معنى الجذر العربي لهذه الكلمة. وتجد المنازه في كثير من الأمكنة، والناس شديدو توقير لها، وحتى إنهم ليخشون المساس بها، فإذا تناولت منها حجراً عن غير قصد، سمع من يقول لك : «لا تلمسه، وتوق الحذر، إنه منزه». وأكثر ما يقام هذا النوع من النصب في الموضع الذي يُقتل فيه الشخص أو يلقي فيه الميتة العنيفة أو الشنيعة، ويسمونه كذلك «مشهداً»، لأن الذي مات فيه، حسبما يقولون، إنما مات شهيداً. ومن العلوم أن العرب قد وسعوا كثيراً من مفهوم المسيحي للشهادة «الشهيد»، لأنهم يدخلون في الشهادة الشخص يُقتل من غير وجه حق، ويدخلون فيها بوجه عام حالات الأشخاص الذين يلقون الميتة الجديرة بالشفقة. لكن يجدر بالتذكير أن الكلمة العربية «مشهد» لها في العربية الفصحى معني القبر المقدس، أو قبر التقي من الناس.
وسواء أكانوا يسمون كومة الحجارة التي نهتم لها ههنا «منزها» أو «مشهداً»، أو جعلوا له اسماً أخر من بين تلك الأسماء الشديدة العمومية كالكركور والرجم والجدار، فإنه يظل يتميز عنها بخاصيتين لائحتين؛ أنه يقام في الموضع يتوفي فيه الشخص، الذي لا يكون بالضرورة من الأولياء، وأن هذا الشخص كون قد لقي الميتة الشنيعة، فالمار به يضع فوقه حجراً.
وقد ترى المعبر تحفه المخاطر، وقد جعلت فيه كراكر يشهد كل واحد منها على مكان جريمة، وأكثر القتلة في هذه الأماكن يكونون أجانب تعرضوا للاعتداء من قطاع الطرق، والشائع أن يسمى هذه النوع «كركور الغريب».
وعندما تسأل المغاربة لماذا يرمون بحجر على أحد هذه الكراكر، يكون جوابهم بوجه عام أنهم يفعلون لأبعاد «العائدين»، لأن روح الميت ربما عادت لترهق المارة بهذا المكان في جن آخرين، ومنهم الجن الذين يؤثرون مثل هذه الأمكنة. ولا يخفى عن أحد مبلغ الخوف الذي يجده أهالي شمال إفريقيا من الجن. علاوة على أن الاعتقاد بأن روح الميت تظل تتردد على مكان الوفاة لتتعرض للمارة هو اعتقاد قديم لدى الناس في سائر أنحاء العالم.
كركور على مشارف قبر ولي
ولننتقل الآن إلى أكوام الحجارة ذات الصلة بالولي من الأولياء. وربما كان الكركور الذي رأيناه على مقربة من أزمور هو النموذج الأتم الأكمل لهذه الكراكر؛ ذلك النموذج التقليدي للكركور المقدس الذي يُجعل للولي. فهو أولاً يقوم في الموضع الذي نرى منه المدينة أول مرة، ونرى منه بالتالي ضريح مولاي بوشعيب. ثم إن هذا الركور شديد الارتفاع، فلا يقل علوه عن متر ونصف. وهو كركور عظيم الحجم ومربع الزوايا قد أقيم في عرض الطريق يحكي هيكلاً بربارياً barbare. وفوق هذا الكركور ينتصب الكثير من الأهرامات الصغيرة قد وضع الزوار المتبركون، وقوامها خمسة أحجار أو ستة وضعت فوق بعضها في توازن، إذ جُعلت كبراها في الأسفل وصغراها في الأعلى. وترى وسط المساحة المستوية في الكركور حوشاً صغيراً، وهو مسور من الحجارة على هيأة حذوة الفرس، كما سنأتي إلى تبيانه في ما يُقبل، قامت على أعداده أيدي الزوار. فإذا تجاوزنا عن هذه الكومة الهائلة من الحجارة سرنا نلاقي بطول مائة متر على الطريق فيضاً من الحجارة موضوعة على جانبي الطريق، على هيأة صفوف، وأكثرها على هيأة أهرامات صغيرة من قبيل تلك الأهرامات التي تعلو الكركور الرئيسي. ومن العادات المرعية عند الزوار الذين متى جاءوا إلى هذا المكان أن يزيدوا حجراً إلى هذا الكركور، أو يقيمون أهرامات صغيرة فوقه أو بجواره، أو يقتصرون على وضع حجر فوق أحد تلك الأهرامات القائمة، ومن هذا المكان المبارك الذي تطالع الزائرَ مدينة مولاي بوشعيب.
ينطبق هذا الأمر على جميع الأولياء؛ ففي الموضع الذي نراهم منه أول مرة، خاصة في الأماكن المرتفعة، وبوجه أخص في المضايق، ينتصب كركور، أو إن الطريق على الأقل تكون في هذا الموضع تتناثر فيها أهرامات صغيرة من الحجارة، وهذا شيء نراه في «ركوبة» سيدي محمد العياشي التي سنمر بها في ما يقلبل. وكلمة «الركوبة» تعني «المكان الذي ننظر أو نرقب منه»، وهي تُقال كذلك يراد بها الخُنق أو المضيق، لكن يُقال عادة في اللغة الدارجة «ركوبة الولي الفلاني»، يريدون بها المضيق حيث تقام الكراكر. ذاك الولي أو ذاك الآخر». غير أن هذا الذي قلنا لا يعني أن على الزائر بالضرورة أن يرتقي ذلك المكان لكي يتأتى له بالفعل أن يرى قبر الولي، بل حسبه أن يقترب منه؛ وعندما سنرتقي إلى الخنق الضيق encaissé المؤدي إلى مولاي إبراهيم في جبال الأطلس جنوبي مراكش، سنراه قد سُد في مواضع منه بكراكر صغيرة من بضع حجارة متراصة، بحيث يلزمنا أن نتحوط عند مرورنا بها حتى لا نطيح بها.
وعلاوة على ذلك فإنك تجد بعض تلك الكراكر قد أقيمت في الجبال وفي المضايق المرتفعة، وهي في تلك الموضع تكون بعيدة جداً عن أضرحة الأولياء المنتسبة إليها. فهذا على سبيل التمثيل مضيق تيزي ن ميري، في جنوب مراكش، الذي يرتفع بعلو 3.200 متر ويمر خلال إحدى القمتين المتوازيتين اللتين تشكلان في هذا الموضع الأطلس؛ ففي هذا المضيق يوجد كركور مكرس، حسب ما يفيدنا الأهالي، لسيدي احماد أو موسى، الولي الأكبر لتازروالت وسوس. فإذا استفسرنا من المسافرين الذين يجوزون هذا المضيق لماذا يزيدون حجراً إلى هذا الكركور، أجابوا، وهم يفعلون : «عْلىَ سيدي احماد أو موسى»، أي إجلالاً لهذا الولي، وأنهم يعتقدون أنهم بهذا الفعل يؤمنون لأنفسهم سفراً خلو من الخاطر ومن المنغصات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.