الحلقة 3 المغربي إذا حيا الأوروبي قال له: «السُّم عليك»، لا «السلام عليك»! يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. **-** تحية الإسلام من العلامات المصرحة بوضوح بالاحتقار الذي يلقاه المسيحي كما لا يلقه اليهودي في المغرب، ذلك الرفض المطلق من أهله أن يقولوا «السلام» لمن هم من هاتين الفئتين من الكفار. فلن يكون للرحالة المسيحي أياً كان وضعه ومهما بلغ جهازه المسافر أن يسمع من أحد الأهالي عبارة «السلام عليكم»، وهي العبارة الحقيقية للتحية في الإسلام. ومهما بلغ من التأدب وخاطبهم وظل يكرر عليهم هو نفسه ويعيد : «السلام عليكم» سيكون فلن يحظى قط بسماع الرد المعتاد : «وعليكم السلام». ولو كان المسلم الذي يحييه بهذه التحية أكثر روقاناً، فلن يزيد في رده عليه عن القول : «السلامة»، أو أي عبارة أخرى في معنى نهارك سعيد. ذلك بأن العبارة الأولى في التحية، أقصد «السلام عليكم» هي تحية الإسلام التي يقولها المسلم لأخيه متمنياً له الخلاص في العالم الآخر. فالسلام يعني سلام الروح، وأما السلامة فتعني سلامة الإنسان في الدنيا. وأما في الجزائر فالمسلمون أكثر تساهلاً في تحية الأوروبيين بتحية «السلام»، لكن لا يبعد أن تلاقي بينهم بعض المتعصبين الذين يمتنعون بكل الوسائل من التسليم أو رد السلام على الأوروبيين. فإذا دخل الواحد منهم مجلساً للمسلمين وفيه مسيحي قال : «السلام على أهل السلام». لكنه أمر قد يتفطنون أو لا يتفطنون إليه، حسب ما يكون لهم من التشبث بعصبيتهم، ومعنى هذه العبارة «السلام على المسلمين دون الكفار». وقد تجد من المسلمين كذلك من يغمغمون بتحية السلام ولا يصرحون بها، فكأنك تسمعهم يقولون : «السُّم عليك». ومن المتعلمين الماكرون كذلك فهم يحرفون كلمة «السلام» فكأنهم يلفظونها : «السم». مجاملة الكافر وما بدأ المغاربة يضمنون مراسلاتهم الرسمية السلام للأوروبيين إلا منذ وقت قريب؛ ثم إنهم لا يراعونه في جميع تلك المراسلات، علماً بأنهم في العادة يبتدئون رسائلهم ويختمونها بالسلام. وقد كانوا من قبل يستبدلون عبارة السلام في فواتح تلك المراسلات [إذا أرادوا بها الأجانب] بصيغة أخرى واضحة الإساءة؛ وهي «السلام على من اتبع الهدى». وأما اليوم فقد صار المخزن يُبدل هذه العبارة غير اللائقة بعبارات أخرى فيها من التحية والتهنئة، مع الحرص عامة على لفظة «السلام». وكذلك يختم مراسلاته مع الأجانب بعبارة مهنئة، ونادراً ما يختما بالسلام، بعد أن كان يختم تلك المراسلات بعبارة غير مهذبة من قبيل «انتهى» أو «التمام» التي تفيد المعنى نفسه. سيدي والمغاربة شديدو تحفظ كذلك في إطلاق لقب «سيدي»، ولا تراهم يجعلون هذا اللقب قط للمسيحي، مهما بلغ من رفعة المقام، ولو كان سفيراً من السفراء. ولذلك تجد المخزن لم يقبل إلا بعد طول مماطلة أن يوجه السلام إلى المناديب الأوروبيين في ما يوجه إليهم من مراسلات، لكنه لا يزال إلى اليوم يمتنع أن يجعل لهم لقب «سيدي»؛ بل يخاطبهم بألقاب غربية من قبيل : «السنيور» و»الكباييرو» و»المسيو»، ولا يستنكف أن يخاطبهم من غير ألقاب. وكذلك يفعل المخزن في المحادثات التي تجمعه بالأوروبيين، ولا يخص الواحد منهم بلقب «سيدي»، وهو اللقب الذي تُجعل له بكل سهولة في الجزائر. ذلك بأن كلمة «السيد» في المغرب كما في المشرق لقب ديني بالأساس، ولا يُقال بعد الأولياء إلا للأجلاء من المسلمين. ومعناه الحقيقي «السيد». وأما لقب «سيدنا» فيُجعل في المغرب للسلطان. ويُستعمل هذا اللقب في الجزائر بشكل أكثر توسعاً، حتى إنهم يجعلونه في حديثهم العادي إذا خاطبوا الأشخاص المحترمين. ويستعملون كذلك لقب «السي» التي هي أقرب إلى معنى «سيدي» عندنا [نحن الفرنسيين]، وهم يخصون بها الأشخاص الذي حازوا مستوى من التعلم، ويقرنونها دائماً باسم العلماء. ثم إن الغالب عندهم أن يختصروا «السي» إلى «س»، خاصة على مستوى الترخيم، كقولهم : «نوض آسْ»؛ أي قم يا سيدي. وكذلك هو الشأن في جنوب المغرب، فيقال : «إييس»، وهي «اختصار» ل « إيه آ س»، ومعناها «نعم، سيدي». التاجر وأما الألقاب «سنيور» و»كباييرو» و»مسيو» فلا يستعملها من الأهالي إلا الذين اتصلوا بالأوروبيين، وأما الآخرون فهم يطلقون على المسيحي الذي يحل بالمغرب لقب «التاجر»، وهو اللقب الوحيد الذي يُخص به. والمغاربة يستعملون هذا اللقب في ما بينهم ويريدون به المشتغل بالتجارة. وأما إذا أرادوا به الأوروبيين فإنهم يطلقونه عليهم من غير تمييز، وسواء أكانوا من التجار أو من سواهم، ويكون هذا اللقب يتخذ في هذه الحالة معنى فيه شيء من القدح والانتقاص. فتصير هذه الكلمة بهذا الاستعمال إلى معنى قدحي، يشار بها إلى المسيحي، من قبيل قولنا [في الفرنسية] «سيدي» على سبيل الانتقاص. فإذا كنت غير معروف لديهم اكتفوا بمناداتك «يا التاجر!»، وإذا كان اسمك معروفاً لديهم لم يفتهم أن يسبقوه بكلمة «تاجر»، وذلك، ولنكرر القول، بغض النظر عن طبيعة مهنتك. وأغلب الظن أن يكون المغاربة لم يعرفوا طول عدة قرون من المسيحيين غير التجار الذين كانوا يأتون للمتاجرة عندهم، ومن هذا تفسير للتغيير الذي صار إليه معنى كلمة «تاجر». وعلاوة على ذلك فليست هذه هي المرة الأولى في تاريخ اللغة العربية التي يعرف فيها معنى هذه الكلمة؛ فقد كانت هذه الكلمة تتعمل في الشعر الجاهلي بمعنى «بائع النبيذ»، وكلمة «الحانوت» التي يعني اليوم في سائر [البلاد العربية] «الدكان والمستودع» كان لها معنى «الحانة». والحال أن هؤلاء المتاجرين في الخمور الذين كان معظمهم يفدون على الجزيرة العربية من سوريا قد كانوا في عمومهم من المسيحيين، عدا أنهم قد كانوا هم الوسائط في دخول الكثير من الأفكار المسيحية إلى الإسلام. الطبيب وأما إذا كان المسافر إلى المغرب شديد الاعتداد بنفسه بحيث لا يرضى أن يُحط من قدره إلى مجرد «تاجرا»، فإن له أن يتقمص صفة الطبيب أو صفة القنصل أو الملحق بإحدى القنصليات؛ ففي الحالة الأولى يصير عند الأهالي يعرف بلقب «الطبيب»، وفي الثانية «بالقونصو». وما أسهل ما تجد المغاربة، كما أسلفنا القول، ينسبون صفة الطبيب إلى معظم المسيحيين، وهذه الصفة تعود على من تُجعل له منهم بالكثير من الزبناء والمتداوين، لكنها تسبب للرحالة في المقابل الكثير من المنغصات، بحيث إنها لا تدع له وقتاً يخصصه لدراساته، ثم إنها لا تعود عليه بكثير اعتبار. وأما صفة «القنصل» التي لا يتورع الكثير من الأوروبيين أن ينتحلوها لأنفسهم، فإنها تسعف المسافر ببعض التسهيلات في بعض المناطق؛ خاصة تلك القريبة إلى الساحل. لكن يخطى الحامل لهذا اللقب كثيراً لو بالغ به فوق حدوده. الحكيم وهناك لقب آخر يمكن للأوروبي في المغرب أن يحصل عليه بشيء من الصبر وشيء من العلم، وقد حملت هذا اللقب أنا أيضاً لبعض الوقت؛ أن ذلك هو لقب «الحكيم». وهي كلمة تدل في اللغة الفصحى على «من امتلك الحكمة»، وقد كان يُجعل خاصة للفلاسفة في العصر القديم. لكن انضاف إليه بطول الاستعمال معنى الطبيب والساحر؛ فأصبح يطلق على الرجل أشبه بفرجيل في العصور الوسطى. فبينما تكون كلمة «الطبيب» لا تزيد عن معنى المعالج بالعقاقير، تفيد كلمة «الحكيم» معنى الحكيم الذي حاز علوم القدامى، وامتلك الخبرات الطاهرة والخفية؛ فهو يعالج بالأدوية وبالمعارف الخفية. لكن هذه الحيل جميعاً لا تساوي شيئاً بإزاء ال ال والصبر والأناة؛ وأن يتحلى المرء بالاستقامة، والرصانة في الإجابة عن السؤال، والاستقامة في المعاملات اليومية البسيطة، وأن يؤثر الهدوء، ويتجنب الغصب، والثرثرة الزائدة، والتبسط المفرط في الحديث، وأن يتوخى العدل، لكن لا يفرط في الحزم، وأن يتوخى التحرر، لكن من غير إفراط في الكرم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إلى عادات المسلمين؛ فبهذه الخصال يصير الأوروبي مع الوقت يحظى من الثقة بأكثر مما قد يحوز منها بادعاء الألقاب والأقنعة وركوب مراكب الكذب. السوالم (26 مارس). جمعنا خيامنا في الساعة السادسة والنصف صباحاً، وهي عملية لم تخل من صعاب؛ ولبث أهل النزالة مقرفصين من حولنا وهم ينظرون بهدوء إلى رجالنا كيف يتخبطون في الأمر، لا يمدون إليهم يد المساعدة. وقد نادى أحد رجالنا على واحد من أولئك المتفرجين : «آلراجل اعطينا يد الله باش نرفدو، آجي تربح». ومن النادر أن ترى العربي ألا يستجيب إلى مثل هذا النداء، فلما تم لنا تحميل أغراضنا، خرجنا من مولاي زيدان لندخل بعيده إلى الغابة. إن هذه الغابة هي ما يسميه الأوروبيون على سبيل التفخيم بغاية السوالم، وهو اسم لفخدة من أولاد زيان يفصلها عن بقية قبيلتها سائر قبائل مديونة، وتمتد أراضيها حتى الساحل. والغابة المذكورة تكونها أراض شاسعة تغطيها أشجار عالية شديدة التفاف، يتكون معظمها من شجر المصطكا أو «الضرو»، وهي في طول الرجل منا، أو أطول، ولها أوراق شديدة التفاف تجعل الغابة أدغالاً عسيرة النفاذ. وفي وسط تلك الأشجار طريق الرابطة بين الدارالبيضاء وأزمور في سبل ضيقة ومتعرجة، كشأنها في بقية أنحاء البلاد، وتسير تتقاطع، فتشكل في ذلك الخضم من النباتات جزيرات من شجر المصطكا. وقد توالت عليها الدواب في القوافل التي تمر بها فقضمت فروعها وبراعمها حتى لتبدو كأنها قطعت عمداً، كمثل تلك الأسيجة من الزعرور التي يؤثر الفرنسيون أن يحيطوا بها رياضهم ثم يمعنون في تقطيعها ليجعلوا لها زوايا بارزة وأشكالاً مستطيلة. وتتخلل تلك الشجيرات نباتات جميلة من بقلة الملك بتويجاتها الزخرفية المنيرة، فهي تتسلق تلك النباتات الخضراء الداكنة وتلك الصليبيات البيضاء، التي سبق لنا الحديث عنها، والتي تدفع سيقانها الطويلة وتطاول بأزهارها فوق تلك النباتات. الرث/الخنزير البري يخيل إلى المرء أن هذا الدغل الكثيف لابد أن تتردد عليه الخنازير البرية، وهو بالفعل عامر بهذه الحيوانات، فترى أوروبيي الدارالبيضاء كثيراً ما يتواعدون على اللقاء في السوالم لاصطياده. وكذلك يصيده الأهالي ليبيعوه إلى الأوروبيين، فمن المعلوم أن تعاليم الإسلام تحرم عليهم أكل لحمها. فالخنزير والكلب يعتبران عند المسلمين حيوانين «نجسين» في المقام الأول. غير أنك لا تجد أهل بالمغرب يلتزمون هذه التعاليم ولا يخرجون عنها. وإذا كان أهل الشاوية، في الناحية التي تهمنا، يستنكفون من أكل لحم الخنزير ويحتقرونه، فليس الأمر كذلك عند قبائل الشاوية من الزيايدة وبني ورا؛ فالثابت عندهم أنهم يأكلون لحم هذا الحيوان، بل ويزعمون أن لحمه مفيد للأبدان وأن فيه علاجاً من مرض الزهري. لحم الخنزير وكذلك تجد لحم «حلوف الغابة» يقبل عليه غالبية ساكنة شمال المغرب من أقلهم استعراباً، بل يطعمونه حتى في فاس، خفية. ويذكر رحالة من القرن الماضي [التاسع عشر] أن السلطان مولاي [أحمد] الذهبي، كان يؤثر في طعامه لحم الخنزير والثعلب المشوي. وقد كان أوروبيو الرباط يتعاطون تربية الخنزير، فكان أهالي القبائل البربرية المجاورة الذين يعملون لديهم في حراسته لا يستنكفون البتة أن يطعموا لحوم هذه الحيوانات. ولجدير بالذكر أن تربية الخنزير الشائعة في كثير من المدن الساحلية قد كانت من قبل تلقى محاربة شديدة من لدن المخزن. فقد كان منظر هذا الحيوان النجس يثير سخط المسلمين «السنيين»، فمنع على سكان المدينة أن يمتلكوا بعضه. بل لا تجد الأسرة الواحدة حتى في البادية تربي أكثر من خنزير واحد، فهي تعزله في مسور خاص به. لكن هذه التقنينات لم يعد لها مفعول منذ وقت طويل، كما هو الشأن على سبيل التمثيل في الدارالبيضاء؛ فأنت ترى قطعان الخنازير تأتي إلى أطراف هذه المدينة للبحث عن طعامها في تلك المزابل العمومية الهائلة، وفي غيرها من المزابل، التي تتكاثر في غفلة من الحكومة، وفي استخفاف بأبسط شروط النظافة، عند أبواب سائر المدن الكبرى. والخنزير الذي نراه في هذه النواحي أسود اللون، فهو من فصيلة خاصة، ولا يبعد أن يكون عرف تلاقحات كثيرة مع أنواع من الرث. الخنازير الأليفة إن أكل الخنزير ليس بالأمر المقصور على المغرب وحده، بل يحضر كذلك عند غير قليل من القبائل المتخلفة في منطقة شمال إفريقيا. فهذا أمر وقفنا عليه في القبايل الصغرى. وله وجود كذلك في منطقة الخميرية التونسية. وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه القبائل الآكلة للحم النجس هي التي توجد في المناطق الغابوية أو شبه الغابوية؛ حيث تصعب تربية الماشية، فلا يجد أهلها بديلاً عن لحوم هذه الحيوانات. وليس يندر أن تجد خاصة عند الأغنياء خنازير صغيرة أليفة، تتجول في داخل البيوت لا يستكرهون الاتصال بها، وهي المعتبرة في دينهم من النجس. وكذلك تجد هذه النزوة، إن صح أن نعتبره كذلك، عند بعض الجزائريين. وهناك اعتقاد شائع في المغرب كما في الجزائر، ربما أسعف ببعض تفسير لهذا الأمر؛ وهو أن وجود الخنزير البري وسط القطيع من الأغنام من شأنه أن يبعد عنها العين. وليست هذه سوى حالة خاصة لنقل الشر من كائن حي إلى آخر، وهو أمر يسلم به سائر الأقوام البدائية، ويعتبر العنصر الأساس في كثير من طقوسهم السحري وشعائرهم الدينية. فهذا يحملنا على الافتراض أن تدجين الخنزير الصغير، وإدخاله البيوت ليس له، أم لم يكن له في البداية، من هدف غير دفع الشر الذي يمكن أن يقع على البيت وتحويله إلى هذا الحيوان الحقير. الغزال لا تجد في الشاوية مجالاً مخصوصاً يؤثره الصادون من السوالم دون سواه؛ فسائر أراضيها عامرة بالطرائد. وإذا كان النعام الذي ذكر الإدريسي وجوده في هذه المنطقة قد انقرض عنها بالكلية، فإنك لا تزال تجد فيها الطريدة الكبيرة، كالغزال الذي هو فيها وافر كثير. فأنت تراه عند الزيايدة وأولاد بن داود وبني مسكين في قطعان بين مائة وخمسين وماءتين من الرؤوس. وغزال بني مسكين يعرف بقرنيه المقوسين، وهو لا ينزل حتى شاطئ البحر. وأما الغزال الآخر فإن له قرنين مستقيمين، وهو دون شك مطابق لغزال السهول في الجزائر وقد يشرد أحياناً حتى يصل إلى الساحل في الشاوية ودكالة. وتشيع عند الأهالي ههنا خرافة غريبة تقول إن الغزال لا تضع مولودها إلا بعد أن يخرج ثعبان من البحر ويأتي ليشهد عملية الوضع. طرائد الشاوية ولا تجد في هذه المنطقة من الحيوانات المتوحشة الكبيرة، فإذا عن لك أن ترى الفهود وجب أن تعبر وادي أبي رقراق وتصعد إلى أن تأتي إلى منبع وادي النفيفيخ؛ حيث الجبال تكسوها أشجار البلوط والفلين والعفصية، وإليها تؤوي بعض هذه الحيوانات. وأما الطيور، وفيها الحجل الأحمر والسمان والشنقب، فهي المألوفة في الصيد. وهنالك طائر آخر يكثر عليه تهافتهم، وهو المسمى عند الأهالي «الحْبْر»، ويتراوح وزنه ما بين 12 اثني عشر وثمانية عشر كلغ. ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة كذلك إلى طائر آخر شبيه بما يعرف عندنا بديك مارس، وهو في حجم سمنة غليظة، تزينة قنزعة جميلة فوق رأسه، والعرب يسمونه «قوبع النصارى»، ويقولون إن في لحمه فوائد علاجية عظمية، فهم يزعمون له أنه يشفي من «البرص»، وهو مرض يحدث بقعاً بيضاء على الجلد، يقولون إنه يختلف عن الجذام؛ من حيث لا يقتصر مثله على الجلد، بل يتعداه إلى العظام. فالبرص عندهم شيء شبيه بما يعرف عند أطبائنا بالوضَح. دار الحاج قاسم ها إننا قد انتهينا الآن من الغابة، وصرنا نتقدم في حقول من «الرتم»، فتبدو بما يقع عليها من أشعة شمس الثامنة صباحاً وقد اكتست إهاباً ساحراً. الأرض حمراء تتخللها حجارة بيضاء. والغيضات التي يملؤها نبات الرتم تمتد على مرمى البصر في علو الفارس، على طول مرمى البصر، وكلما وقعت عليها هبة ريح مهما كانت هينة حنت لها فروعها الرخصة الطويلة والرقيقة كأنها الأسل، الناعمة المتلامعة. ويمد نبات الحلتيت خلال هذه الطاقات سيقاناً غليظة، لكن خاوية، تكاد توازي ذلك النبات طولاً، وقد ازدهت رؤوسها بأكاليل صفراء، فيما تكسو الأرض بأوراقها البنفسجية بجزار بقع من نبات الصابون ذي التويجات الحمراء الفاقعة. الطريق كثيرة السالكين، فلا نفتأ نلاقي فيها القوافل، فالواحدة منها تمر بإزاء الأخرى دونما تحية، وفي كثير من التجاهل، وأنا أتحدث بطبيعة الحال عن مسلمين، وأما موقف المسيحي فيكون هذه الحالة، وكما أسلفت القول، استثنائياً من كل الوجوه. ثم عبرنا وادي الفوارة، ولم يكن به ماء كثير. وفي الساعة التاسعة بلغنا عين حويرة، وبجوار تلك العين تقوم حويطة، أي ضريح مكشوف لأحد الأولياء يحيط به سور قليل ارتفاع. عند هذا الموضع تنتهي حدود الشاوية، فنطرق بعده بلاد الشياظمة؛ فلا نرى بعد وجوداً للغابات، بل كل ما حولنا حقول من حبوب وحناء، وأكثر ما يعمرها الذرة، التي تغطي مساحات واسعة من التربة السوداء، التي تبدو في غاية الخصوبة. والمرجح أن يكون الشياظمة التي نعبر بلادها الآن فخدة من القبيلة الكبرى المعروفة بالاسم نفسه والموجودة شمالي مدينة الصويرة، والتي سنعود إليها بالحديث في ختام هذا الكتاب. وقد جاءت هذه الفخدة لتتخذ مستقرها في المكان الذي هي فيه الآن بضغط من محن ومصائب لا تزال غير معلومة لدينا. وفي الساعة 9,45 وصلنا إلى دار الحاج قاسم، وهي قصبة لأحد القياد السابقين قد باتت نصف متهدمة. والمغرب تعمره أطلال لدور القياد، وسوف تسنح لنا فرصة العودة بالحديث إلى هؤلاء الموظفين، الذين ينتهي معظمهم إلى أسوإ حال. فهم إذا عزِلوا كان مآلهم جميعاً إلى السجن، وإلا فيعاقبون بمصادرة أموالهم. فما أن يُعتقل الواحد من هؤلاء الموظفين السابقين حتى يأتي المخازنية ليفتشوا مساكنهم ويقلبوا محتوياها رأساً على عقب، ويقتلعوا الزليج من أرضياتها ويطيحون بجدرانها عساهم يقعون فيها على كنز [خبيء]، وترى الأسرة وقد انحدرت إلى بؤس وضيق حال تتفرق في الأرض بحثاً عن وسائل تسعفها في العيش. وتلبث القصبة خاوية تشخص بأسوارها ال... التي تصير مع الوقت إلى تآكل وانهيار. وإذا جاء القايد الجديد ليقيم في الموضع نفسه حيث كان سلفه نفسه فلا تراه يسكن قط القصبة التي كانت يسكنها؛ فلا يرممها لأن من شأنه أن يكون شؤماً عليه. وليس يندر أن ترى ثلاث قصبات أو أربعاً لقياد سابقين تقوم جوار بعضها وقد باتت أطلالاً. وليست هذه الكراهة في ترميم البيت الخرب الذي كان يسكنه الضحية الخضم والسكن فيه بالأمر المقصور على القياد وحدهم، فحيثما وليت وجهك من المغرب تلاقي البيوت المهجورة، فهذا المظهر أعطى رحالة كثراً الانطباع يتجولون في بلد مهجور، وينسجوا حوله أسطورة «البلد التي تسير إلى انهيار». ظللنا نسير في أراض تكسوها المزروعات الجميلة، لكنها في هذا الوضع قد تعرضت للإتلاف من الجراد، وقبل الساعة العاشرة بلغنا «إنجومة». وهنالك رأينا نورية تقوم على جانب الطريق. ثم خرجنا من الشياظمة لندخل شتوكة. اجتاحها قبل عشر ساعات منه مرورنا إلى انجومة، حيث هناك ناعورة على أطراف الطريقة. وغادرنا الشياظمة لندخل إلى شتوكة، وهي وحدها التي لا تزال تفصلنا عن أزمور. وهي منطقة اشتهرت على الدوام بجودة حنائها؛ وقد سبق لعلي باي أن لاحظ ما وفرة زراعتها في هذه المنطقة، وقد كانت لها في مدينة الجديدة تجارة رائجة لوقت طويل، تراجع التصدير فيها تاما. لكن التصدير انحط فيها انحطاطاً. وقد أصبح الأهالي يقبلون اليوم على زراعة الكتان. فبعد كانت هذه الفلاحة تلقى منهم الإهمال، إذا هي قد صارت تشهد في ما بين 1900 و1903 ازدهاراً كبيراً، على أثر بعض الطلبات التي وردت على بذور الكتان من قبل التجار الأوروبيين. حتى إذا تبين للأهالي الأرباح التي يمكنهم أن يحنوها منها، صاروا يخصصون لها الأراضي الشاسعة في شائر نواحي دكالة. لكن ليس ببعيد أن يعود عليهم هذا الإقبال الواسع على زراعة الكتان بعكس ما ما كانوا يؤملون فيه؛ فبالإضافة إلى التراجع لامحالة سيقع في الأسعار بسبب وفرة الإنتاج، ستتعرض الأراضي التي إلى الإنهاك من كثرة ما أعطت من هذا المنتوج، مهما بلغ مخزونها منه، ولن يتسنى أن يعاد استصلاحها، مع الافتقار إلى الأسمدة، إلا بعد وقت طويل. تعقد مسألة القبيلة والمخزن يعد شتوكة، كما يعد الشياظمة، في جملة دكالة، وهي فخدة من قبيلة كبرى من قبائل سوس قد تكون ارتحلت عن موطنها الأصلي لظروف سياسية. وقد عرف عن السلاطين المسلمين في شمال إفريقيا جميعاً أنهم كانوا يعمدون إلى هذه الوسيلة لمعاقبة القبائل المتمردة. وهذا نوع من العقاب لم نعدمه في بلداننا؛ والكتابات تفيدنا أن الرومان قد كان من عادتهم أن [المعارضين إليهم] إلى الأماكن القصية. ولقد تضافرت هذه التنقلات والتشرذم الذي يعتبر من خصائص القبائل التي تنامت بشكل كبير حتى بات من المتعذر عليها أن تظل مقيمة في مواطنها التقليدية، وانضاف إليهما النزوح الكبير للأقوام من الرعاة لتصيِّر المجموعات الاجتماعية في شمال إفريقيا إلى أقصى مبالغ الشتات. ولذلك فإذا رمنا دراسة تكوين القبيلة من هذه القبائل لم يكن لنا أن نصورها، كما يفعل العرب، على شجرة نسب مستقيمة ابتداء من الجد الأول وانتهاء إلى أصغر الأسر فيها في الوقت الراهن، بل ينبغي أن نجعلها على هيأة جذع أصلي، كثيراً ما يكون هو نفسه يسمه التعقيد، ثم يصير هذا الجذع من جهة تنضاف إليه ما لاعد له من الطعوم ويصير من جهة أخرى يفقد الكثير من فروعه. ولئن كان هذا التعقد لم ينتبه إليه الكثيرون فإنه لم يغب عن عالم في مثل حصافة ابن خلدون. صار عدد القباب في تزايد، وسيظل كذلك شأنها وصولاً إلى أزمور، وهنالك طالعتنا تلك القباب في مجموعات من أربع إلى خمس. وفي المكان المسمى «التلال» الذي وصلنا إليه في الساعة الثانية عشرة والنصف، وجدنا «كركورا» كبيراً وسط الطريق، فتوقفنا هنالك عند بئر ماؤها شديد الرداءة. في الساعة الواحدة والنصف عدنا لاستئناف المسير، خلال بلاد شتوكة الكثيرة السكان والخصبة الممرعة. وظلت تتتالى قبب الأولياء المبيضة، وكثيراً ما يطالعنا عش قد وضعه طائر اللقلاق فوقها، ووقف هذا الطائر الذي يقول عنه المغاربة إنه من الأولياء فوق ضريح الولي على قدم واحدة في وضعة جامدة. الدشر بدأت تتوالى أمامنا «النوايل»، وهي ضرب من الأكواخ الأسطوانية المخروطية، قد أقيم معظمها على الطراز السوداني. وجئنا سيدي فارس في الساعة الثانية و45 دقيقة. وكانت النوايل كثيرة فبدت بهيأتها البدائية تخالف كثيراً منظر ذينك الضريحين بجدرانهما المحززة وقبتيهما نصف الكروية المبيضة بالجير، واللذين يمثلان مفخرة القرية أو «الدشر». وهذه الكلمة الأخيرة هي التي يغلب استعمالها في تسمية القرى الصغيرة التي سكانها من المقيمين أو من نصف الرحل. وأما في الجزائر فيقال لها «الدشرة»، لكن الكلمتين تجمعان هما الاثنتان على «دشور»، وقلما قال في جمعهما «مداشر». ويستعملون كلمة «المشتى» يريدون بها المكان حيث يقضون فصل الشتاء، وتُستعمل هذه الكلمة في القبايل الصغري ويراد بها، على سبيل التوسع في الدلالة، القرية من الأكواخ والبيوت. ويطلقون كلمة «الزربية» على السياج يتخذ من القصب وغيره من النباتات الشوكية فيحاط به الدوار. وكذلك تستعمل هذه الكلمة في القبايل الصغرى وكثراً ما تكون مرادفاً لاسم القرية. ولا يزالون يطلقون كلمة «الدوار» على الخيام تُجعَل في حلقة، لكن السلطات الفرنسية وسعت كثيراً من دلالة هذه الكلمة في الجزائر، فصارت تطلقها على الفخدات من الجماعات المختلطة والتي كثيراً ما تعمد إلى تقطيعها بصورة اعتباطية؛ فلا تفرق فيها بين ذات الساكنة المقيمة والساكنة من الرحل، بما يوحي بوجود خلط في هذا الأمر.