تعرية الحرف وفك أسره الأدب موضوعة جمالية واستجابة ذاتية لأثر الأشياء في النفس، ولا يعني هذا أنّ الأدب قد يتخلّى عن البنية العقلية والأخلاقية، إنما ميدانه هو أكثر الميادين المعرفية تبايناً في الآراء وتوليداً للرؤى المتغايرة، كونه موضوعة جمالية، فيأخذ من النفس حركيتها الانفعالية تجاه الجمال ويأخذ من العقل الثبوتية النسبية، وهذه الخلطة المعرفية تجعل الأدب لا يلتزم الزمان والمكان في قضية الاستجابة الجمالية. ومن هنا نجد الشاعر أديب كمال الدين يحضر بحضور تجربته الشعرية الكبيرة. بيد أن حضوره يتركّز على بناء رؤية خاصة به. وهذا يكون من خلال البناءات الشعرية المتوالدة (أقول الحرف..) ويعني الصورة الصوتية (الدال)، (وأعني أصابعي) ويعني الصورة الحركية (المدلول)، وجملة المعنى هي الحركات، فالحرف ساكن بصورته المرسومة في الذهن والأصابع متحركة. إذن أحرف أديب كمال الدين بين أصابعه تتخلّق منها صور المعاني المتحركة. وهذه الحمولة كفيلة بجعل الأحرف- كتحصيل حاصل- متحركة في المساحات الشعرية المفتوحة بتحريض من تجربته، لذا تنفعل انفعالات معقلنة لاستجابات الجمال الذي تبحثه رؤاه التي قولبها ضمن عنونة الديوان (أقول الحرف/ وأعني أصابعي) حتى النزول إلى المتون التي تعجّ بالكثير من المفارقات، وتعكس تيه مسار الشعر، إذ إنه مشروع لم يزل يتخلّق في أصابع الشاعر ولم يكتمل بعد، فبعد ستة أخطاء في قصيدة (ثمّة خطأ) نجد أن هذه الأخطاء في النقطة السابعة، قد تكون، هي أخطاء الإنسان نفسه، وبما أن الشاعر إنسان، فهو يقول: (ثمّة خطأ يشبهني تماماً)، ورغبة الشاعر الجامحة تدفعه إلى تعرية الحرف وفك أسره كي يؤدي رقصة توالد الأسئلة والتي تؤرقه كثيراً، حيث يقول: (وأنا لا أعرف من أنا؟) والإجابة تكون ملؤها القلق: أهو المصلوب في أورشليم أم المصلوب على جسر الكوفة أم طوطم أفريقي أم حرف ضال، هذه الإجابات (التي جاءت بشكل أسئلة) إنما هي إجابات افتراضية لا تعانق أرض الواقع سوى أنّ هذا الحرف ممسوس ترقص حوله الحروف المجردة من النقاط والمعاني. وهي تشكيلة تبقى عائمة في البحث الرؤيوي للشاعر، ويبقى المعنى يتنقل عبر قصائد ديوانه بأوجه كثيرة ومتعددة مما دفعني إلى محاولة تسمية هذا الديوان ب-الكتاب الشعري-، أي أن قصائده أشكال أو أوعية لمعنى يتنقل بخفّة بين هذه الأشكال ولا يحاول المكوث في أيّ منها. ففي قصيدة (العودة من البئر) نجد فيها مفارقةً، كون الشاعر يؤكد (انني لم أعد بعد) (انني أحلم أن أعود إليك) والقصيدة تناص مع قصة يوسف (ع) التي مازالت تتفاعل مع التقلبات الاجتماعية عبر العصور، وهكذا فانه ترك الباب مفتوحا للذين يودّون الاتعاظ ونأى بنفسه أن يكون واعظا، لأنه شاعر لا تعنيه اكتمال الصورة إنما البحث في متاهاتها ومتعة الاكتشاف، لذا يؤكد (إني أنا الحلاج): (لا تقتربْ من ناري! من نارِ قلبي وسرّي، فإنّي أخافُ عليكَ من النار: من دمِها ولوعتِها وضوضائها، فكنْ على حذرٍ أيّهذا المعذّب بالشوقِ والليلِ والأهلّة، أيّهذا الغريب الذي يجددُ غربته بدمعتين اثنتين في كلِّ فجرٍ وفي كلِّ ليلة. لا تقتربْ! أخافُ عليكَ من الصلب وما بعد الصلب. أخافُ عليكَ ممّا ترى ولا أخافُ عليكَ ممّا لا ترى.) فالحلاج صُلِبَ ومات والشاعر يخاف ما بعد الموت، لذا يحاول التحذير بقوله: (لا تقتربْ! أيّهذا الحُروفيّ الذي يقترحُ الحرفَ اسماً لكلِّ شيء ويسمّي الأنبياءَ بالأحبّة والشموسَ بالأهلّة والسرَّ بالبلْبَلة والنارَ بالقبسِ الموسويّ ثم يمضي من النهرِ إلى الصحراء ومن الصحراء إلى البحر ومن البحرِ إلى الموت، أعني إلى النار وهو يحملُ جثّته فوق ظهره.) هذا المسار الحروفي لا يقرّ له قرار بعد، فالأحرف عند أديب كمال الدين معتمة معرّاة يضيئها بالنقاط ويدفعها في طريق اكتمال الجمل بالكلمات، عسى أن تكون أكثر ملائمة للمعنى لهذا كرر كلمة (لا تقترب!) خمس مرات، ليؤكد فلسفة الاحتراق والموت ورغم هذا فهو يرقص في الألم ويتناسخ مع الحلاج وزوربا. فمع الأول يكون حلاجَ الألفية الثالثة أي الانفعالية العقلية، ومع الثاني يكون موسيقياً أي زوربوياً في الألفية الثالثة، أي وسط الانفعالية العاطفية المهذبة. وبين هذا وهذا يبقى محتجا بكلمته (سحقا إذن للموت!) ويستمر في الرفض بتكرار كلمة (لا) سبعة عشر مرّة، ليكون ألقاً في الحياة. وبهذه الجرأة الانفعالية خاطب صديقه المرحوم الشاعر رعد عبد القادر بصور شابها القلق والاحتجاج ثأراً لصديقه الجميل: (لم تعدْ هناك شمسٌ، إذنْ، فوق صقرك. ولم يعدْ هناك صقرٌ، إذنْ، فوق شمسك. صقرُكَ حلّقَ عالياً عالياً بعدما سقطتْ شمسُكَ في البحر ولم تكنْ هناك آلهةٌ لتستقبلها ولا أنبياء ولا مريدون ولا مهرّجون!) وكأنه يخاطبه بمقولة ما بقي منك هو هذا الذي يؤرق حالي ك(غزال أكل قلبه النمر) ومشكلته النَص... (فالنَصّ لا يعرفُ مَن يتنفسه في كلّ لحظة ويتألقُ به وسط الظلام في كلّ لحظة وينبضُ به في كلّ لحظة. أنتَ، وأنتَ فقط، يعرفُ مَن يقرأ النَصّ دون أن يسبر غوره) إذن الدعوة لقراءة جمالية موسيقية ذوقية مسألة مستحيلة عنده دون الانشغال بالمعنى، ومن هنا انتقل إلى شاعر كبير هو محمود البريكان المعتزل عن الحياة وساحتها حيث لا تحلو له الألفة إلا مع الحرف والكلمة، فانقلبت مائدته خلسة في الزمن المجدب لتبقى قصيدته الرائعة (حارس الفنار) شاهداً وشاهدة: (فلقد ذهبَ الذي اعتزلَ وما نجا والذي أنفقَ العمرَ كلّه يخدمُ الحرفَ كلّه ويبسمله كلّ ليلة بالياءِ والسين. ذهبَ بعد أن رقص مع الزائر المجهول عارياً كنبيّ عارياً يحملُ بيديه الضعيفتين رأسَه المقطوع!) وفي قصيدة (اليد) راح أديب كمال الدين في متواليات شعرية مدهشة في نتائجها جاءت متساوقة مع رؤاه عبر مسيرته الشعرية الطويلة، يقول: (في الطفولة فتحتُ يدَ الحرف كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة. وفتحتُ يدَ النقطة فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل. وفي الحرب فتحتُ يدَ الحرف كي أجدَ طائرَ سلامٍ يرفرفُ فوق روحي التي أربكها مشهدُ الدم، فوجدتُ حفنةَ رمادٍ وقصيدة حبّ مزّقتها الطلقات.) والظاهر انه وجد قصيدته في منفاه تكتمل فيها لوحة الحب، رغم ما يعانيه من الشد والتوتر في إرهاصاته الذاتية والموضوعية: (فوجدتُ نفسي أكتبُ قصيدتي التي لا تكفّ عن الاحتفاءِ بالبحرِ والحبِّ والشمس رغم العواصفِ والصواعق وأشلاءِ السفنِ التي سدّتْ عليَّ الأفق من السرّةِ حتّى العنق.) وضمن هذا السياق سجّل الشاعر (وصية حروفية) حملت الكثير من تجربة الشاعر مع الحرف والكلمة: (وحين يشتعلُ الحرف من الموتِ والحبّ (وكثيراً ما يشتعلُ الحرف من الموتِ والحبّ) ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوق الماء!) ويبدو انه منشغل تماماً بالحرف والشروع في كتابة قصيدة هي المشروع الشعري المهم لديه بعد أن قام بأنسنة الحرف وجعله صنواً له، ليخفف من خشيته في كتابة القصيدة فوق الماء، غير أنه صرّح لأول مرة برؤية منحازة لقضية الحسين (ع)، لأنه هو-أي الحسين- سرّ من أسرار الحرف كما يقول الشاعر نفسه: (ورأسكَ ينهبُ التاريخَ نهباً بدمه الطيّب الزكي ليكتب سرّاً لا يدانيه سرّ، ليصبح اسم الشهيد له وحده سرّاً لا يدانيه سرّ: سرّ الحاء والسين والياء والنون) إذن حروف اسم الحسين من الحروف المقدسة عند الشاعر التي تشعل الحب الحقيقي في النفوس المطمئنة للحق الإلهي والتي أصبحت لائحة يُحتذى بها في التضحية والفداء من أجل كرامة الإنسان وحفظ كلمة الحق. وكما هو منشغل في كتابة القصيدة، ينقل لنا لوحات الحياة ومشاهدها وانشغالات الإنسان في إيجاد دالة بين الموت والحياة، غير أن انشغالاته الأخرى قد تلهيه عن أشياء الطبيعة الضاجّة بالمعاني والعطاءات. إذن أغلب أدب أديب كمال الدين إنما هو أدب تجربة وليس أدب مناسبة، إذا جاز لي التعبير بهذه الصورة، وهي نتيجة مستحصلة من مسيرته الشعرية المستمرة. ونلاحظ عليه أنه كثيراً ما استفاد من تجاور الأجناس الأدبية وجعل قصائده مخاضاً لهذا الاختلاط والعبور من مناطق الشعر إلى مناطق السرد متوخياً الاحتفاظ بالسياق وباعتبار الأدب مسألة جمالية تنطوي على الارتكاز في اختيار الألفاظ وإحكام الصياغة كي يكون- أي الأدب- تعبيراً عن تجربة صادقة قادرة على التواصل مع الآخرين.