كنت أتكئ بمرفقي على الطاولة، أحرك يداي في محاولات جادة لشرح ما أقول بالرسم في الهواء، أتحدث بتواصل، لدي شئ مهم أقوله، أردت التعبير عنه بشدة، شئ مهم، مهم جدا وحيوي، وأعتقد كان من المفترض أنه يدور حول معنى الوجود. وعبرت عن ذلك بشكل جيد كما بدا واضحا من ملامح الانتباه على مستمعي، ثم لا أعرف كيف انتهيت مسترخية على ظهر المقعد، أنظر إلى الفراغ، تاركة يداي تسقطان إلى حجري بلا هوية. أنا لم أكن هكذا. لم أكن من الأشخاص الذين يتحدثون بحماس ووعي عن أمر ما ويبدون مستوعبين تماما لما يقولون وواضح أن لديهم رأي قوي وصريح ومؤثر يعبرون عنه، ثم فجأة يصمتون قبل أن يصلوا لشئ. يصمتون فقط هكذا. صمت من لم يكن يتحدث للتو، صمت من كان صامتا طوال الوقت منذ ولدته أمه، أو صمت من لم يمارس مهارة الكلام إلا ليطلب طعام. يصمتون فجأة وبهدوء تام وتفقد نظراتهم ذاك البريق الذي كان يشع قبل لحظات، تصير مثل نظرات أي عابر في الشارع لا يهمه شئ في الحياة إلا أن يصل إلى حيث هو ذاهب في تلك اللحظة فقط. ثم يسترخون في جلستهم ولا يعد يهمهم الأمر، أي أمر على الإطلاق، فيجلسون مثل الطالب البليد المنفصل عما حوله الجالس في آخر الفصل دوما والذي يأكل الآخرون طعامه ويستغلونه لحل الواجب وحمل الحقائب، وكأنه لم يكن منذ لحظات قائدا للفصل وزعيما للعصابة. أنا لم أكن من هؤلاء، وكنت أستغرب وجود أشخاص هكذا يجمعون بين الحياة والموت بكل تلك الحدة وبدون فاصل زمني بين المنطقتين. وأذكر أني كنت أحاول تحليل سبب حالتهم تلك وأنتهي إلى أنهم فقط أشخاص زائفون فارغون، أنهم أساسا لا يهتمون لشئ ولا يعنيهم شئ ولا حتى الانتصار لأنفسهم لأنهم ببساطه لا يمتلكون أنفس. كل انفعالاتهم وردود أفعالهم معدة مسبقا بناءا على رغبة وقتية لإحداث انطباع مدروس بغرض المساهمة الاجتماعية البائسة في أي حدث مطروح، كما يفعل ذاك التلميذ الساذج الذي يود فقط أن يكون شعبيا بين زملاءه في المدرسة، ليصير مرحبا به ضمن أي مجموعة وفي أي نشاط وفي الرحلات. وأن أشخاص كهؤلاء كانوا هم المقصودين بمفردة «الغوغاء» التي تكررت كثيرا في الكتب التي تحكي تاريخ الثورة الفرنسية. وأذكر أني كنت أنتهي إلى الإحساس باحتقار لأولئك الانفصاميون- فجأة، وبقرار ألا أختلط بهم مجددا، فمعرفتهم هدر للوقت الثمين وتشتيت للفكر الباحث عن اتجاه صريح وتلويث للصفاء القلبي الذي أنشده. وتجنبتهم فعلا، دوما. لم أرد في حياتي أي ببغاوات، فمهما بدت مؤثرة حين تتحدث إلا أن صمتها الفجائي مثير للاشمئزاز. مثل موت يأتي فجأة لشاب طموح ذكي وجميل وقوي يقف في منصة يلقي محاضرة في تجمع حاشد فيسقط بالسكتة القلبية في غمرة انتباه الحضور وانشدادهم نحو الفكرة، التي لن تكتمل أبدا. وبدا هذا أمر غير صحي، يملأ النفس بصديد دمامل التساؤلات المتقيحة عن مغزى الوجود. تجنبت دوما التعرض لهكذا مواقف غير صحية قد تفقئ في قلبي دِمّلَه. الآن، أنا مثلهم وصار لدي تفسير آخر: إنه فقط التعب من العمر الطويل.