يمثل الديوان الجديد "في مديح الأبيض" الصادر عن دار دراويش لسعيد طلحة، تجربة شعرية مثخنة بالألم وصوت الحنين، والحفر في ترسبات الذاكرة، وأسئلة الذات في علاقتها بالعالم. ولعل بنية العنوان تحضر كاشفة للعلامة "الأبيض" باعتبارها آلية مولدة لأنساق المعنى كاشفة انشغال الشاعر بتمثل القيم الإنسانية ورسالة القصيدة من خلال التشاكل بين الشعري والذاتي. إن شعرية قصيدة سعيد طلحة، تتأسس على انسيابية القول الشعري بوصفه صورة عن الذات ومختلف هواجسها التي تحاول القصيدة أن تتمثلها من داخل اللغة الشعرية، سواء من خلال الانزياح اللغوي أو من خلال بلاغة عامة للقصيدة. وتأسيسا على ذلك، تتحول الكلمة الشعرية إلى بنية رمزية ومستودع للدلالة، يتشكل عبرها الخطاب المفعم بالدوال. والكلمة الشعرية هنا ليست سوى الرحم النصي الذي يولد القصيدة، بل إنه يحضر كمعادل موضوعي لهذه القصيدة: لقد ألهمه روح في الكون أنه صار أكبر من كل حرف وأن القصيدة في دمه أوفر سقيا من ماء الشعر (ص :52). وتكشف مجموع نصوص الديوان التفاعل بين الذات والكلمة بوصفها مستودعا للرموز ولهواجس وأحلام الذات. فالذات في هذه المجموعة الشعرية، مركز كل تمثل شعري ومنطلق انسياب يتشاكل من خلاله المعنى والإيقاع. وفي هذا السياق تتوسل الذات الشاعرة بتقنية التداعي الشعري بوصفها تشكل بنية دالة. إن حضور الذاتي في نص سعيد طلحة لا يرتبط فقط بمحاولة البحث عن جماليات غنائية النص الشعري والخواص النوعية للخطاب، بقدر ما يمثل شكلا للمعنى وبحثا عن الحقيقة وغوصا في الوجود وقضاياه: الذات: مرايا وأسئلة – صرخة – أين أنت – هذي سبيلك (ص : 155). تشكل الذات في معظم نصوص المجموعة منبع الانسياب الإيقاعي الشعري، فيشابك التخييل الشعري بهواجس الذات وأحلامها وآلامها. ففي قصيدة "مديح الأبيض" تتحول الكلمة "الأبيض" إلى وحدة لغوية مشحونة برمزية العلامة، والمرتبطة بإنتاج أنساق معنى ترتبط بقيم الحب، الوفاء، الصفاء الروحي، التجدد والإبداع. وهكذا تتدرج صورة الأبيض انطلاقا من تمثلها صورة الذات إلى انزياحات ترصد تجليات الأبيض في تشاكلاتها المختلفة مع الشعر والحياة: أحب الأبيض لأن التطلع إلى القادم من صفاتي ليس كالأبيض عذرية والأبيض سمائي … والأبيض هو الأبيض قابل للتنوع والتشكل والانفجار …. (ص :61). وإذا كان الأبيض تجسيدا للقيم الإنسانية كما نستشف من خلال تقنية التداعي الشعري، فإن الذات الشاعرة تحاول الانفتاح على الذاكرة التي تربطها بالهوية المتجذرة في الأرض. ففي قصيدة "أحبك أبي" تمثل للهوية وعلاقتها بذاكرة الذات وهواجسها الدفينة، أما قصيدة "أنا لا أريد" فترصد تفاصيل الذاكرة الحميمة، بكل تجلياتها التي تحيل على الفضاء كما نستشف أيضا من خلال قصيدة "بيروت " وهي ترصد الألم الذي يراود الذات الشاعرة في ظل مشهد انفجار ميناء بيروت. إن حضور العلامات المرجعية يأتي بوصفه تجل من تجليات التفاعل بين الإبداع الشعري الذي يمثل ملاذ الذات من العزلة وآلام العالم، وبين العالم بكل ما يرتبط به من أسئلة وقضايا. والعلامات المرجعية التي تحيل على شعراء مثل بوشكين، رامبو، وايتمان كلها تحمل أثار ذات جريحة تعاني العزلة وتجد في الإبداع الشعري ملاذا وهروبا من آلام الذات إحساسها بالعزلة وقلق السؤال الذي يراودها. وهكذا تنشغل نصوص المجموعة الشعرية بهاجس البحث عن الحقيقة الوجودية للذات وسيرتها الموسومة بين السفر بين الأمكنة والكلمات: كان كصديقه القديم يسافر من محطة إلى محطة كان يبحث هناك عن قوافي من رمل البحر (ص 136). والذات في مجموع النصوص المؤلفة للديوان مركز وبؤرة الانسياب الشعري الذي يتمثل بوصفه بوثقة يتعالق داخلها الإيقاع والمعنى في تناغم جمالي، يروم تشكيل الخطاب الشعري. وهكذا تمثل الكلمة الشعرية المثخنة برمزية ومجاز الوجود الوحدة اللغوية المولدة لمختلف مسارات الخطاب الشعري. فهي الرحم النصي الذي يولد مختلف مسارات الدلالة والبنيات المؤسسة لهذا النص.