الدراسة النقدية التالية هي مقتطف من كتابنا " شعرية القصيدة المغربية الحديثة / مقاربة بويطيقية لتجربة الشاعر محمد بنطلحة --- منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب / فاس 2016 . يلجأ محمد بنطلحة من داخل قصائده إلى محاورة المتن الشعري المغربي الحديث ، أي نصوص غيره من الشعراء ففي نصوصه الموازية المنشورة بكتابه ( الجسر والهاوية ) نتبصر كم هو قارئ ضليع لمتن الشعر المغربي، والعربي والإنساني ، ونتبصر كيف أن سؤال الكينونة الشعرية هو أبرز وأقوى المداميك التي تقوم عليها تجربته في القصيدة والكتابة ، وفي انتحاء متخيل حدودي يضع اللحظة الشعرية في محيط التماس / الفارق مع مطلقها ، والذات الشعرية في وضع إنصات مطلق لأصوات الوجود والعالم حيث يمكن رؤية الواقع بأكثر من عين واحدة من منظور لغات غيرية في مشتركها الجمالي أو في خرائطيتها المتسمة بالتنوع و الاختلاف. فعل القراءة وفعل الكتابة يتوحدان في السيرورة الناظمة لتشكل النص الشعري واشتغاله ، حيث الكينونة الشعرية تصغي إلى ذاتها وإلى الأصوات الحافة بها ، لذلك فإن قراءة النص البنطلحي في منأى عن استكشاف العبرنصيات و الهويات الشعرية المتغايرة التي تخترقه تضعف حساسية النقد في استجلاء أبعاد المعنى الشعري والمستندات الاستطيقية الراكزة له . يقول بول ريكور : " ان " الأنا – أكتب " الصريح أو الضمني في أي نص أدبي يتماهى بمستوى معين لواقع مواضعاتي ، من خلاله تتمفصل الرؤى المتعددة للواقع في الغيريات التي ليس الواقع المواضعاتي الا أحد مستوياتها "( 1) ، و هو في هذه القراءة يفكك وحدة الهوية الموضوعية التي ليست سوى ناتج تأويل لكتابة تقوم على أحادية الدلالة بين النص و المرجع الواقعي . سنكون لا نتمتع بالوصف الدقيق على مستوى المقاربة النقدية إذا اعتبرنا محمد بنطلحة الشاعر الوحيد الذي اختمرت تجربته الشعرية بارتياد الشعريات البرازخية المشدودة إلى متخيل عبوري، وإلى كتابة حدودية منزاحة عن النماذج المعيارية ، والحاملة لإرهاصات سؤال الهوية الشعرية. أغلب الشعراء المغاربة الذين لهم منجز شعري منشور وتراكم شعري دال في تلقيه ومقروئيته على انتساب صميمي إلى " شعرية الأعماق " باستعارة لغة ج . ب . ريشار وهو يصف لنا تشكل الهوية الشعرية بما هي : " تلك اللحظة البدئية للإبداع الأدبي : لحظة ولادة الأثر (l'oeuvre) من الصمت الذي يسبقه و يحمله الى سيرورته (...) عن طريق الإدراك المحسوس الذي يجعل المبدع في علاقة مباشرة بإبداعه ، تلك اللحظة التي تمنح للعالم المعنى من خلال فعل الكتابة ذاته " ( 2) ؛ نلمس في تجربتهم الشعرية حضور هذا الهاجس الإرهاصي ل ( سؤال الكينونية ومتخيله البرازخي ) ، لكن ليس لدينا نقاد شعر من العيار الوازن لاستقراء خرائطية الشعر المغربي التي بعد أن كانت نسقية مع المتن الشعري السبعيني صارت أرخبيلية: أولا مع الإبدالات الاستطيقية التي برزت لدى بعض شعراء السبعينيات ( محمد بنطلحة ، محمد بنيس ، محمد السرغيني ... ) وثانيا مع ظهور الحساسيات الشعرية الثمانينية، وظهور شعراء قصيدة النثر، في سياق لحظة إبداعية ارتهن فيها سؤال الشعر وهو يرتاد أفق المغايرة والإختلاف بخطاب تخييلي شعري ديناميات اشتغاله تتمحور على تأسيسات " الاسم الرمزي " الذي يرسم مسالك المجيء إلى القصيدة والعبور البرزخي إلى النص المغاير، وتشكل القيمة الاختلافية للأصوات الشعرية الجديدة ، وهو إرهاص لا يزال لحد الآن يملك سلطة مرجعية فاعلة في تمثل الانتساب إلى الشعر وإلى القصيدة. من بين الأسماء الشعرية المغربية التي ارتهن النص الشعري لديها بالهاجس الجمالي لتأسيسات "الاسم الرمزي" والتي شكلت موضوع اهتمام مؤلفنا "الأنطولوجيات الشعرية المتغايرة" ( وهو قيد الطبع ) نذكر دونما ترتيب تفاضلي أو زمني" : المهدي أخريف ، حسن نجمي ، رشيد المومني ، محمد الصابر ، عبد الله زريقة ، محمد بودويك ، عبد السلام الموساوي ، محمد الصالحي ، سعد سرحان، نجيب خداري، عبد الهادي السعيد ، وفاء العمراني ، عائشة البصري ، عبد الاله الصالحي، نبيل منصر ، جلال الحكماوي ، سامح درويش ، مصطفى الشليح ، عبد الرحمن بوعلي ، و ساط مبارك ، محمد الشركي ، صلاح بوسريف ، أحمد العمراوي ، ثريا ماجدولين، ادريس الملياني ، جمال أماش ، بوجمعة أشفري، ياسين عدنان ، طه عدنان ، محمد بوجبيري ، نور الدين ضرار ، سعيد الباز، محمد أحمد حجي ، سعيد أونوس ، عزيز الحاكم ، جمال الموساوي ، محمد بشكار ، محمود عبد الغني ، عبد الرحيم الخصار، محمد علي الرباوي ، محمد عرش ، عبد الغني فوزي ، رجاء الطالبي ، محمد أحمد حافظ ، وداد بنموسى ، اكرام عبدي ، الزهرة المنصوري ، عبد اللطيف الوراري ، أحمد عنيبة الحمري ، ادريس علوش ، أمينة المريني ، نجاة الزباير ، محمد أحمد بنيس، عبد العزيز أزغاي ، عبد الدين حمروش ، رشيد منسوم ، عبد الحميد اجماهري، عبد الرحيم سليلي ، محمد بنميلود ، احسان بنزباير ، شفيق بوهو ، سكينة حبيب الله، محمد شنوف، علال الحجام، عبد الناصر لقاح .. من بين أسماء أخرى. لدى بعض الشعراء المغاربة اقترن الاشتغال على متخيل "الاسم الرمزي" باستدعاء أحد السجلات الشعرية هو " الأثر السيري " إلى نصانية القصيدة ؛ وهو ما يجتلب إلى التخييل الشعري مكونات أتوبيوغرافية حاضرة ضمن فسيفساء المرجعيات التخييلية المتعددة للقصيدة المغربية . أذكر في هذا الصدد أعمالا شعرية مثل: ولع بالأرض 1 ، ولع بالأرض 2، ولع بالأرض3 لمحمد الصابر؛ وفراشات سوداء لعبد زريقة، و المكان الوثني لمحمد بنيس، وسيرة المطر لمحمد الأشعرين وشرفة يتيمة لصلاح بوسريف في أجزائه الثلاثة. (وهذا من باب الاستدلال لا من باب التفصيل). ينهض الأثر السيري على استدعاء الأنا الشعري لذاكرته الفردية والجماعية، وانعكاس الذات في مرايا أمكنتها الرمزية ، و استعارات تاريخها الشخصي ، يتم هذا لدى محمد بنيس من خلال كتابة المحو كنزوع تستعيد فيه الذاكرة منطوق النسيان وبلاغة الصمت و البياض حيث تتوارى سجلات الهوية الرمزية ، وعند محمد الصابر عودة إلى المكان الطفولي / الينابيعي لاستكشاف المعنى البدئي الذي يسترفد طقسية القول الشعري ، وعند عبد الله زريقة ففي البياض والصمت والفراغ واللغة اليومية تعرية لهامش اللاوعي حيث تحتجب صورة الذات والواقع ، ولدى محمد الأشعري ففي تواتر الاستعارات المائية تتشاكل مع تاريخ جمعي لجيل حامل لحرقة الأسئلة وطوباوية الحلم وتشتغل رمزيا لتشخيص صبو الذات الشعرية إلى مقاومة التفكك من خلال لغة تؤمثل السيرة الشخصية و التاريخ وتؤسطرهما، ولدى صلاح بوسريف في رمزية الممانداة بين صوت الأنا المرجعي والأنا الشعري تماهيا يجعل ديوان "شرفة يتيمة" انكتابا أنطولوجيا لسيرة الكتابة وهي تنسج تخييلا شعريا طقسيا ترميزيا لأنساب الكلمة الشعرية، وطقسا مؤسطر لتجذيرات المعنى في الذات والعالم. قلنا الأثر السيري من باب التحفظ النقدي الدقيق لأنه ليس لدينا لحد الآن تجربة شعرية استدلالية يمكن قراءاتها كسيرة شعرية ، وهكذا فحضور الأثر السيري في المتخيل الشعري ل " الإسم الرمزي " يتم من خلال استدعاء شذري ترميزي لمجموع الآثار التي تحاور من خلالها الذات ترميزات ذاكرتها، تعيد كتابتها كمحافل نصوصية ، عبر آليات : نص المحكيات الشعرية الصغرى ( حيث ينسج الأثر السيري لغته التخييلية من تشاكلات الجملة السردية و الجملة الشعرية)، ونص اللغة الميتاشعرية ، والاشتغال على المكان ، وشعرية اليومي و التفاصيل. الأثر السيري حاضر بقوة في الدواوين الثلاث للشاعر محمد بنطلحة (قليلا أكثر، و صفير في تلك الأدراج ، وأخسر السماء وأربح الأرض) إنما ليس باستدعاء إحالات مرجعية من السيرة الوثوقية / قابلة للتمثل عبر ميثاق أتوبيوغرافي مواضعاتي. يحضر الأثر السيري باعتباره أنسوخا (simulacre) للغة أوتوبيوغرافية منضدة تنضيدا استعاريا تجعل اللغة الشعرية " محكيا سيريا " لا مرجعيا لأن نسقه التعبيري مسيج باشتغال المجاز والرمز أولا ، وثانيا لأنه على خلاف مواضعات اللغة الأتوبيوغرافية لا يرتد إلى ماض تذكري استعادي وإنما يضع منطوقه في السيرورة المستقبلية للقصيدة ، والانبناءات الجمالية لسؤال "الاسم الرمزي" ، كما أوضح ذلك فيليب لوجون في الفصل المخصص لدراسة الأوتوبيوغرافيا والشعر من كتابه "الميثاق الأوتوبيوغرافي" ( 3). يلجأ الشاعر إلى أسلبة اللغة السيرية وغالبا على نمط يتزاوج فيه " اللعبي "ب" المعارضة الساخرة ( الباروديا ) " : أصل الزجاج رمل أنا بنفسي ، منذ أن كنت وأنا - أبا عن جد - حبة رمل . ( ص 65 – أخسر السماء وأربع الأرض ) لي - فقط - مزمار يقودني إلى مكتبة في قاع البحر يقودني إلى نفسي مع الوقت صرت أقطر الشمع على الماء أستغفله وأتهجى نفسي موجة موجة (...) آخر ما تهجيت : " بعكس الماء " المؤلف : شاعر مجهول بدون ترقيم بدون فهرس بدون ردمك الإهداء : إلى لا أحد لوحة الغلاف : لؤلؤة في جوف سمكة ( ص 101، 102 – أخسر السماء وأربح الأرض ) لا أنا جورجياس ولا أنا حاكم صقلية إن أنا سوى كائن من ورق ( ص 26 – أخسر السماء وأربح الأرض ) مع الوقت ومن فرط ما تقلب لساني بين نارين نار العشق ونار النبيذ استغنيت عن اللغة تجردت من ورقة التوت ومن جميع الأسماء والنعوت صرت كائنات مجسدة مثلا : كأس، مزهرية، قرط، مشط، فلاط كهربائي، مشكاة، سندس، استبرق، خاتم، فانوس، أو قيانوس، قندس، امرأة، فيلسوف، عالم آثار، قناص، طريدة، ثريا، شاشة عملاقة، أزرار، فأرة كمبيوتر، دربوز، سرداب، وخرصة فوق باب، الخ. (ص 67 – أربح السماء وأخسر الأرض) باعتماد لغة شعرية قائمة على المفارقة بين ما هو تخييلي وما هو واقعي، وتشظية صوت الذات في نسيج من الصور المجازية الشذرية يتمظهر " الأثر السيري " ليرسم صورة " أنا شعري " صوته ينحت رمزيته من بعدين : 1) الأقنعة : (جورياس ، حاكم صقلية ، كائن من ورق ، شاعر مجهول، كائنات مجسدة). القناع : هو وساطة تعبيرية رمزية لرؤية الذات صورتها تتمرأى في غيرياتها ، والأنا في مضاعفاته ، إنه أيضا سفر الهويات والأصوات ، سفر عبوري وبرزخي للأنا متحرر من سلطة الواقع (الهنا والآن) ومن نسبية أبعاده المكانية والزمنية لتستقرئ جوهريتها في المطلق الانساني. 2) الطرسية : ( لي فقط مزمار يقودني إلى مكتبة ، أتهجى نفسي موجة موجة، المؤلف، الترقيم ، الفهرس ، اللسان ، اللغة ، الأسماء والنعوت ) . إذا كان النص الشعري يتشكل من طبقات لانهائية من النصوص، إذ تنكتب القصيدة تستعيدها كآثار من ذاكرة النص المطلق ، حيث يشتغل الطرس بما هو تعدد لنصوص أصوات الهوية الشعرية ، فذلك مما ينقلنا من أحادية المعنى إلى تعدديته، ومن بعده النسبي إلى أبعاده المطلقة ، و من الهوية الواحدة الى الهويات المتغايرة . إن (الذات الشعرية ) لا يمكن تنميطها في صورة أحادية المعنى و لا في نمط خطاب واحد مغلق؛ وكما تعمل الأقنعة على تجسيد الصوت الشعري من خلال تمثل كينونته في غيرياته و مضاعفاتة ، فإن الطرسية تمثيل لأفق كتابة تبرز تعدد طبقات المرجعيات النصية في تخييل الهوية . النص الشعري هو كينونة منفتحة على مطلق الذاكرة الشعرية ، وبالتالي فإن العلاقة الترابطية بين النص الشعري ومرجعه الواقعي لا ينبغي أن ننظر إليها كامتلاء / وحضور وكعضوية قائمة على التطابق ، وكانعكاس محكوم بالتماثل ، ففي التماثل إنتاج لهوية مفبركة مواضعاتية أقنومية النظير والشبيه تلغي وتقصي من دائرة تمثل الأنا ما هو مختلف وغيري ، والذي رغم النفي والإقصاء يعود في الكتابة الاختلافية كرغبة مقموعة في دال الكتابة ؛ حلم كامن تحت قشرة النص و استيهام كامن في لاوعي اللغة ، و حين تشتغل الطرسية ككتابة عائدة للأثر التناصي تأخذ شكل لغم يفجر كل يقينية الذات الأحادية المعنى ، باختراق لعبي واستيهامي و تناصي يعيد الكتابة – كما تمثل الذات - الى أنساغها الأولى ك " رغبة " تعيد كل نفي و اقصاء الى " المشهد الأول " كمشهد تأسيسي ". الانتباه إلى اشتغال هذين البعدين ( الأقنعة والطروس ) هو أحد التمظهرات الكبرى الدالة على نزوع شعري يعتمد متخيلا يتمحور بالأساس سؤال " الاسم الرمزي " الميكانيزم العضوي للأوالياته التعبيرية هو تحديدا ، تحرير الهوية الشعرية من النمطية والمعيارية والرسوخية المنغلقة في نظرة أحادية وإعادتها للعالم ، إلى مشهد بدئي (scene primitive) من خلاله تؤسس ل " أسطورتها الشخصية " بلغة دراسي المتخيل وعلى رأسهم جلبير دوران في مصنفه: " البنيات الأنتروبولوجية للمتخيل " ( 4) . لكن الوقوف على هذين البعدين غير كاف نقديا لإعمال التأويل في النص الشعري ، لابد من النظر إلى آليات اشتغالها وهي تؤسس للمعنى الشعري . ولإدراك هذا الأمر يقتضي الحال الوقوف على إجرائين في تشغيل الرموز في الكتابة الشعرية لمحمد بنطلحة على نحو خاص ، وتجربة الشعر المغربي الحداثي بشكل عام . تشتغل الرموز في الديوان الأول (نشيد البجع) في سياق رسم لصورة (الأنا الشعري) يوضع في قلب التصعيد الدرامي بين قطبي (الواقع والمثال) ، ولذلك فإن الغنائية الملحمية للصوت الشعري تعتمد نسقا رمزيا مؤمثلا ومؤسطرا ينهض على إوالية كبرى وهي (التسامي) وهذا ما يفسر تواتر حضور تمثل " الاسم الرمزي " في رمزية النبي والمسيح ، والشهيد وبرومتيوس ، وإيكاروس ... وتنطبق هذه الإوالية الكبرى أي (التسامي) على غالبية متخيل (الاسم الرمزي) للقصيدة الملحمية الرؤيوية ، وشعر السبعينات في المغرب ، وهي لازالت حاضرة في بعض التجارب الشعرية ، وذلك لا يعني أنها تقلد شعر السبعينات ومرجعيته الجمالية، بل لأن إوالية التسامي هي أحد الأنماط الكبرى اللاواعية التي تلجأ إليها الذات كاحتماء وملاذ للكينونة من خوفها الأنطولوجي وإحساسها بالتعرض للموت والفقدان والمحو . أما الإوالية التي تقابلها والتي بالعودة إلى النصوص الشعرية المستدل بها أعلاه لمحمد بنطلحة كما مجمل نصوص الشاعر ما بعد (نشيد البجع) وذلك منذ أن لجأ الشاعر إلى توصيف تجربته الإبداعية بعنوان دال وهو (ليثني أعمى) فهي إوالية الإخصاء التي تجد في رمزية العماء الأوديبي أكبر تمثلاتها لدى الشاعر في سياقات شعرية تشتغل بشكل مخالف لتمظهرات المعنى الشعري المستند إلى إوالية التسامي ؛ إذ أنه إذا كان هذا الأخير كما يصفه جون برغوس يبرز " نزعة ملاذية احتمائية بإجراء تؤمن به الذات كينونتها من الفقدان " (5 )، فإن الإوالية المتعلقة بالإخصاء هي تشخيص لمتخيل شعري ينقذف في مغامرة ارتياد مجهول " الاسم الرمزي " : ليتني أعمى على الأقل كي يصير الأسوأ ممكنا ( ص20 - بعكس الماء ) إننا بصدد رؤية تتمثل الذات في عماء المحتجب ، في المرايا المنكسرة المجسدة لفاعلية استطيقا النفي الذي أحل " الأسوأ " حقلا ثيميا بدل " الجميل " وكأن الرؤية الإستطيقية الهيجلية انتفت ليحل محلها " الشر البودليري " وزهرته الآثمة ، وكأن العقل الكانطي لم يعد يجد ثبوته في الوعي بالذات من خلال التاريخ وحل محله العماء البورخيسي ، الذي يقول ( الأنا هو المتاهة ، والمرايا المتعددة التي تضج بترجيع الأشباه والظلال والأصداء والأصوات في المطلق اللامتناهي ) : اللغة حينما عميت عن كل شيء تطوع الصمت وصار عكازها ( ص 34 – قليلا أكثر ) الكوجيتو الشعري لمتخيل نزعة التسامي محكوم بالوحدة و التجانس والتناغم والطمأنينة لأنه يعيد صوت الأنا الشعري إلى الأصل الواحد ( الترنسندتالي ) وعلى النقيض من ذلك فإن ما يغذي المتخيل الشعري لإوالية شعرية النفي الإخصائية في رسمها صورة الأنا الشعري فهو الشك و اللايقين : أكرر : لا أنا الإسكندر، ولا أنا ، زوربا أنا شاعر مجهول أنا لا أحد ( ص17 – قليلا أكثر ) والمعنى الشعري في أوالية التسامي آهل بالامتلاء والحضور المحسوس للدلالة القائمة على تشخيصية رمزية انعكاسية : حيث صورة الواقع تنعكس في مثاله ، وصورة الذات تنعكس في حلم أليجوري ليكنونة مكتملة متطابقة مع زمنها ومع العالم ، محفزة باليقين والثبوتية لوعي إيديولوجي يتموضع بين حدي السلب والإيجاب تحفيزاته الرمزية تكمن موضوعة الانتقال من واقع قائم إلى واقع بديل مؤمثل في صورة " الفردوس المفقود " . أما في إوالية الإخصاء ففقدان المعنى يصير هو سؤال الذات المسكونة بلا يقينياتها ، والوحدة والتكامل والعضوية تضمحل اضمحلال وشحوب صورة الذات في مرآة واقع مفارق ، متشظي ، متاهاتي الأبعاد ، كلما رسم فيه العقل حدودا موضوعية لصورة الذات كلما انزاحت اللغة تنكتب كرغبة تشييد المعنى من نصوص الهامش اللاعقلاني، من نص الإقصاء والإلغاء والنفي ، من هوامش الصمت والبياض ، والأثر المنسي العائد كاستيهام ، وطروس الذاكرة الشعرية ، والتمثلات اللاواعية للأنا الفردي والجماعي : -محمد بنطلحة اسم مستعار عند هيرودوت : هو الذي حينما عثر على برج بابل في صندوقه البريدي عثر أيضا على رقعة شطرنج واليوم ، حيث الحقائق كلها مؤجلة : النبيذ إلى الغد ، والذكريات إلى حياة غير هذه ماذا سأفهم ؟ في موقع : خلية نائمة، وفي آخر : لا ينام أحد. أنا كيف أكون معاصرا له وكل ما بيننا منذ ما قبل التاريخ ظلال وأقنعة : ( ص 56 – قليلا أكثر ) كان من نتائج هذا المتخيل البرازخي في سعيه إلى نحت " الاسم الرمزي " ظهور كتابة شعرية ذات فضاء شعري منفتح على سيرورات الكتابة ومآلها، يشبه ما يصفه جون برغوس ب " الشكل الصامت " مقارنة مع " الشكل الممتلئ " هذا الأخير الذي أعاب شعريته ه. ميشو في وصفه له ب (le chamin tracé, unique) (6 ). هذا الفضاء الشعري المحكوم ب " متخيل عبوري " حيث المعنى الشعري يتخلق في دينامية اشتغال المحايثة النصية للكتابة لا انطلاقا من التقاطب الثنائي ( ذات / واقع ) ، اعتمادا على متخيل شعري يعيد الاعتبار إلى اللغة الشعرية بما هي مسكن الكائن ، حيث الفضاء الشعري هو ملتقى العلامات الذي تشخص قلق الكائن في مواجهة الزمنية ، هذا القلق البناء الخلاق ، الذي أرسى مفهوم الكتابة بالاثر (Ecriture de Trace) وجعل صوت / أصوات الذات ، وصورة العالم تعبر النص ك ( آثار)، وجعل من العبرنصيات المشيدة للغة الشعر موطن الأمكنة الرمزية لصوت الكينونة . في هذا المتخيل : " الاسم الرمزي "هو الأثر العائد باستمرار، هو الأنا الذي لا يتحدد وجوده الخالص إلا في تلاقيه بعلاماته المنحفزة في ذاكرة الكتابة، وطروسها، في تصادي الأصوات، وفي تحاورها، في تغيؤاتها وأحلامها اليقظة واللاواعية ، وفي مساءلتها لأنطولوجيتها المنفتحة على السيرورات اللامكتملة، وفي النظر إلى الشعر كمغامرة وجودية توضع فيها الذات والكلمة الشعرية في حد التماس والمحايثة الدائبة مع تحققاتها و ممكانتها . إن جوهر بناء المعنى الشعري لهذه الكتابة الأورفيسية هو كونها كفت عن تقديم الأجوبة ، مكتفية بالسؤال كلحظة تدشينية بدئية تأسيسية . بدل المفهوم و المعيار أحلت أنطولوجية المعمار من فيزياء الكلمة و الهندسات السحرية للمعنى، لم تعد القصيدة (قولا تذكريا)، بل كتابة كينونة تتهجى علاماتها ومراصدها في كتابة الأثر، وترحل الدلائل، ونومادية الصوت الشعري في مواطن العبور الهارب المنخطف، والومضي المنفلت، والمنحجب في مكتوم الرغبات السرية للغة والذاكرة والجسد والوعي : ما أقوى حجتي : اللغة مرآة، صحيح جدا و لكن، إقرأ الحاشية : وراء كل مرآة قناع ( ص 68 – أخسر السماء وأربح الأرض ) 1 - بخصوص العبريات و متخيلها الرمزي و تشكلاتها الرمزية ينظر في : -A .K .Marietti : « Le concept de la transition dans la philosophie et dand l' art « , in Passage du temps : Ordre de la transition ; PUF 1985 - Max Bilen : « Le comportement mythique de l' écriture » , Colloque de Cerisy , Albin Michel , 1987 - 2-J . Pierre Richard : « Poésie et Profondeur » , seuil 1955 , p 48 . - 3-Philipe Lejeune : « Le pacte autobiographique » ; seuil 1982 , p 259 / 287 . - 4-Gilbert durand : « Les structures anthropologique de l imaginaire » seuil , 1960 , p 31 . - 5-Jean Burgos : « Pour une poétique de l' imaginaire » ; seuil 1982 , p 166 . - 6-Jean Burgos : « Pour une poétique de l' imaginaire » ; seuil 1982 , p 86 / 87 .