تعتبر حصانة القضاة ضد النقل، من بين أهم المبادئ التي كرستها المعايير الدولية ذات الصلة باستقلال القضاء، على غرار عدد من النصوص الوطنية، إذ لا يمكن للقضاة مزاولة مهامهم دون أن يستشعروا أنهم في مأمن مما قد يمس استقرارهم، وعلى مدى سنوات، شكل هذا الموضوع محور للحراك القضائي الذي عاشه المغرب على غرار عدد من البلدان الأخرى، حيث ركزت مطالب القضاة على ضرورة تثبيت حصانة القضاة ضد النقل من خلال اعتبار نقل القضاة دون طلب استثناء ينبغي ربطه بضمانات وقيود حتى لا يتحول الى أداة للمس باستقلال القضاة. حصانة القضاة ضد النقل في المعايير الدولية لاستقلال القضاء تكرس المعايير الدولية حصانة القضاة ضد النقل باعتبارها من بين أهم ضمانات استقلال القضاة، وفي هذا الاطار تنص المادة 11 من مبادئ الأممالمتحدة لاستقلال القضاء، على ما يلي: "يتمتع القضاة، سواء أكانوا معينين أو منتخبين، بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية، أوانتهاء الفترة المقررة لتوليهم المنصب، حيثما يكون معمولا بذلك". كما تنص المادة 8 من الميثاق العالمي للقضاة الذي أقره المجلس المركزي للاتحاد الدولي للقضاة بتاريخ 17-11-1999، على أنه: "لا يجوز نقل القاضي أو وقفه عن العمل أو استبعاده من منصبه ما لم ينص على ذلك القانون، وعلى أن يتم ذلك بقرار ووفقا للإجراءات التأديبية (..)". حصانة القضاة ضد النقل في الدستور وفي قوانين السلطة القضائية ينص الفصل 108 من الدستور، على أنه: "لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون". وقد تطرقت المادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، للحالات التي يجوز فيها نقل القضاة وحددتها في النقل بناء على "طلب القاضي، أو على إثر ترقيته، أو إحداث محكمة أو حذفها، أو شغور منصب قضائي أو سد الخصاص". ويلاحظ أن هذه الصيغة الواسعة الواردة في المادة 72 لحالات نقل القضاة بدون طلب كانت محل انتقاد من طرف الجمعيات المهنية القضائية وبالأخص نادي القضاة الذي اعتبر ان مشروع القانون حول هذا المقتضى من استثناء الى قاعدة، فكان لزاما على القضاء الدستوري أن يتدخل لرفع اللبس والتأكيد على الطابع الاستثنائي لإمكانية نقل القضاة دون رضاهم. حصانة القضاة ضد النقل في اجتهاد المحكمة الدستورية جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 992.16 بتاريخ 05/03/2015 بشأن النظر في دستورية قانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في شأن المادة 72 ما يلي : "حيث إن المادة 35 تنص على أنه "يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية"، وإن المادة 72 تنص على أنه "يمكن أن ينقل القاضي وفق المعايير المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في الحالات التالية: – بناء على طلبه؛ – على إثر ترقية في الدرجة؛ – إحداث محكمة أو حذفها؛ – شغور منصب قضائي أو سد الخصاص"؛ وحيث إن الدستور نص في فصله 108 على أن قضاة الأحكام "لا ينقلون إلا بمقتضى القانون"؛ وحيث إنه، لئن كان عدم القابلية للنقل من الضمانات الأساسية المخولة لقضاة الأحكام، التي لا يجوز المساس بجوهرها باعتبارها من مظاهر استقلال السلطة القضائية، فإنه يستفاد مما ينص عليه الفصل 108 المذكور من كون قضاة الأحكام لا ينقلون إلا بمقتضى القانون، أن المشرع يجوز له أن يحدد حالات معينة يمكن فيها، بصفة استثنائية، نقل هؤلاء القضاة؛ وحيث إن الدستور نص أيضا في فصله 118 على أن "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون"، ونص في فصله السادس على "مبدإ المساواة أمام القانون". وحيث إن حق التقاضي يعد من الحقوق الأساسية المخولة للمواطنين وضمانة رئيسية لإعمال مبدإ سيادة القانون، وأن مبدأ المساواة أمام القانون، الذي من مظاهره المساواة بين المواطنين في الولوج إلى مرفق القضاء، يستلزمان أن توضع رهن إشارة المواطنين، المحاكم الضرورية والقضاة اللازمون لجعل حق التقاضي المخول دستوريا للمواطنين حقا مكفولا فعليا؛ وحيث إنه، يتعين ضمان التوازن بين المبدإ الدستوري القاضي بعدم قابلية قضاة الأحكام للنقل إلا بمقتضى القانون، والمبدإ الدستوري الذي يكفل للمواطنين حق التقاضي؛ وحيث إنه، تأسيسا على ذلك، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أناط به الدستور، بصفة أساسية، السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، لا يجوز له أن يقرر نقل قضاة الأحكام، في الحالات التي حددها المشرع، دون طلب منهم، إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين". حصانة القضاة ضد النقل في توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان من جهته اقترح المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في مذكرته المقدمة إبان إعداد مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، أن ينص هذا القانون على أن "قضاة الأحكام لا يمكنهم أن يعينوا في مناصب جديدة دون موافقتهم، ولو تعلق الأمر بترقية". حصانة القضاة ضد النقل أي تفعيل على مستوى الممارسة من خلال البيانات التي سبق لنادي قضاة المغرب كجمعية مهنية إصدارها بخصوص تقييم نتائج أشغال المجلس الأعلى للسلطة القضائية في دوراته السابقة، يتبين وجود عدة حالات لنقل القضاة بدون طلبهم، سواء حينما تعلق الأمر بإحداث محاكم جديدة، على اثر مراجعة الخريطة القضائية، أو لسد الخصاص، أو للمصلحة القضائية، كما يتضح وجود حالات عديدة لنقل القضاة بدون طلب منهم على اثر الترقية، مما يحولها من نعمة الى نقمة خاصة حينما تتم دون أخذ رأي القاضي المعني بالأمر الذي قد تكون له وضعية اجتماعية والتزامات أسرية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، بل وفي كثير من الأحيان لا تتم مراعاة أسبقية عمل القاضي المنقول دون طلبه، في مناطق نائية، فبمجرد انتقاله للمكان الذي يختار الاستقرار فيه، حتى يتفاجأ من جديد بإعادة تنقيله بدون طلب، على اثر الترقية، وهو ما يفرض أخذ هذا المعطى بعين الاعتبار، ولما لا التفكير في سياسة جديدة لحل اشكال العمل في المناطق النائية من خلال ربطه بمحفزات مهمة، تشجع القضاة على طلب العمل في هذه المناطق عوض اللجوء الى النقل بدون طلب الذي ينبغي أن يبقى استثناء لا يجوز التوسع فيه بصريح ما نص عليه حكم المحكمة الدستورية سالف الذكر. من جهة أخرى ومراعاة لعنصر الاستثناء الذي ينبغي أن يحيط التعامل مع آلية نقل القضاة بدون طلب، نصت المادة 35 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، على أنه: "يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به، وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية". ويتضح من خلال هذا المقتضى أن المشرع ورغبة منه في حماية القضاة من خطر النقل بدون طلب، خولهم إمكانية البقاء في منصبهم القضائي السابق شريطة التنازل عن الترقية، على أن يتم تسجيلهم في لائحة الترقية برسم السنة الموالية. وهو استثناء أجازه المشرع للتوفيق بين الرغبة الشخصية للقاضي والتي تكون مبنية أساسا على اعتبارات شخصية تتعلق غالبا بالرغبة في الاستقرار الأسري، والمصلحة القضائية في المحكمة المراد النقل إليها عن طريق تأمين حق التقاضي لمرتفقيها احتراما للفصل 118 من الدستور. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا الحق لا يجوز مصادرته، لكون يشكل ضمانة لاستقلال القاضي، لذا في حالة تنازله على الترقية، لاحتفاظه بنفس منصبه القضائي، فإنه يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية وفي هذه الحالة أعتقد أنه لا يعقل أن يتم تنقيله من جديد الى نفس المحكمة التي رفض الالتحاق بها، لبقاء نفس الأسباب التي جعلته يتنازل عن الترقية سابقا، رغم ما يخلفه هذا القرار "القاسي" من تبعات نفسية ومالية ومهنية عليه، وهو ما ينسجم مع التأويل الديمقراطي للنص القانوني. بقلم : ذ.عبد اللطيف طهار