ليس هناك من شك، في أن بلوغ المرامي المتوخاة من عمل السلطة القضائية داخل المجتمع، يتوقف، لا محالة، على ضرورة تكريس استقلاليتها على مستويين اثنين: استقلاليتها عن باقي السلط وفق ما يصطلح عليه ب "الاستقلال المؤسساتي"، وكذا استقلاليتها عن مختلف العوامل الداخلية والخارجية التي من شأنها التأثير على القضاة عند ممارستهم لمهامهم القضائية، وهو ما يصطلح عليه ب "الاستقلال الفردي". ولا يتأتى تنزيل هذين النوعين من الاستقلالية، إلا إذا تم تقرير ضمانات فعالة كفيلة بذلك. وهذا ما تكفل به، حقيقةً، الدستور المغربي حينما أقر جملة من الضمانات الكُلية التي من شأنها أن تكرس لاستقلال فعلي وحقيقي للسلطة القضائية، مُسنِدا أمر تفصيلها إلى المشرع من خلال القانونين التنظيمين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة. وإذا كانت الضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية لا تثير كبير إشكال في ضوء الدستور المغربي، فإن تفصيلها بمقتضى القانونين التنظيميين المشار إليهما أعلاه خلاف ذلك، طالما أن جملةً من تلك الضمانات قد اعترى تنظيمها شيء من الإبهام المخل بغايات سنها، والتعميم المُفقد لدلالات معانيها. ولعل من بين أهم هذه الضمانات، هو المبدأ الكوني القاضي ب "عدم نقل قضاة الأحكام"، والثاوي في مختلف المواثيق الدولية ذات الصلة، والمُدَستَر من خلال الفصل 108 من الدستور، بقوله: "لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون". ومما يؤخذ من هذا المبدأ أمران اثنان: أولهما؛ عدم جواز نقل قضاة الأحكام كأصل عام. وثانيهما؛ تقييد هذا الأصل بما يقضي به القانون، وهو دالٌّ على إمكانية نقلهم إذا ما نص القانون على ذلك. ومن حالات هذا النقل، ما نصت عليه المادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وهي النقل: بناء على طلب القاضي، أو على إثر ترقيته، أو إحداث محكمة أو حذفها، أو شغور منصب قضائي أو سد الخصاص. واللافت في هذه الحالات، هو أنها، وبالرغم من كونها استثناء من القاعدة، فإنها تنقسم بدورها إلى أصل ثم استثناء ؛ فالأصل فيها هو النقل بناء على طلب القاضي، والاستثناء هو باقي الحالات الأخرى. وهذا ما يصطلح عليه في علم الأصول ب "استثناء الاستثناء"، وهو منهج تشريعي غير صويب البتة. ومن نافل القول، إن جمعية "نادي قضاة المغرب"، وإبان مناقشة مشروع القانون أعلاه، قد عبرت عن تخوفها من التوسع في تطبيق الحالات الاستثنائية لنقل القضاة دون طلب منهم، لما في ذلك من مساس صارخ باستقلاليتهم، خصوصا ما تعلق بآلية النقل إثر الترقية، حيث كان نص المشروع المذكور خلوا من أي تقييد لها أو تخصيص. ولعل وعي المشرع بهذه الخطورة التشريعية، واقتناعه بوجاهة طرح "نادي قضاة المغرب"، هو ما دفعه إلى وضع بعض ضمانات عدم التعسف في تطبيق استثناء "النقل إثر الترقية"، وهذا ما نصت عليه المادة 35 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، بقولها: "يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به، وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية". وتطبيقا لهذه الضمانة، عُرضت على أنظار المجلس الأعلى للسلطة القضائية واقعةٌ، ملخصها: أنه –أي ذات المجلس- أصدر في دورته الأولى من سنة 2018، مقررا يقضي بنقل قاضي حكمٍ من المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، إلى قضاء النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية بخريبكة، وذلك إثر ترقيته من الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية برسم نفس السنة. وبمجرد ما توصل القاضي المعني بهذا القرار، تقدم بطلب يرمي إلى رفضه لتلك الترقية تطبيقا للمادة 35 المذكورة، وهو ما استجاب له المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ثم قرر تسجيل اسمه في لائحة الترقية للسنة الموالية، وقرر، للمرة الثانية، نقله من المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، إلى قضاء الحكم بالمحكمة الابتدائية بخريبكة، الأمر الذي لم يجد معه القاضي المعني بدا من الالتحاق بمقر عمله الجديد، واستئناف عمله فيه. بيد أن أول ما قد يَجترحه ذهن القضاة المعنيين، قبل غيرهم، بتلك الضمانة، هو التساؤل التالي: هل كان المجلس الأعلى للسلطة القضائية موفقا في اتخاذه لهذا القرار أم لا ؟ نعتقد، من جانبنا، أن هذا القرار كان مجانبا للصواب ولصحيح القانون. وبيان ذلك من عدة وجوه: أولها: أن حالة نقل القاضي إثر ترقيته، هي من الاستثناءات المُخَصصة للاستثناء القانوني الوارد على الأصل الدستوري العام، والقاضي بعدم جواز نقل قضاة الأحكام. ويتحدد مناطها –كما باقي الحالات الاستثنائية الأخرى-، بحسب الفلسفة الجامعة لكل مواد القانونين التنظيميين المتعلقين بالسلطة القضائية، في ضمان "المصلحة القضائية" بالمحكمة المُنْقل إليها عن طريق تأمين حق التقاضي لمرتفقيها احتراما للفصل 118 من الدستور، وهي المصلحة المفتقدة في القرار موضوع التعليق، بالنظر إلى أن نفس الدورة التي صدر فيها هذا الأخير، أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية مقررا آخر قضى بتعيين أكثر من مائتي قاض وقاضية بمحاكم المملكة ؛ مما يكون معه ذات المجلس، والحال هذه، متوسعا في تطبيقه لهذا الاستثناء، ومعلوم من علم الأصول بالضرورة أن "الاستثناء لا يتوسع في تفسيره وتطبيقه". ويؤيد هذا: ثانيها: أن المحكمة الدستورية، وعند بتها في مدى دستورية القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، قد كرست الوجه المستدل به آنفا، بقولها: "إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أناط به الدستور، بصفة أساسية، السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، لا يجوز له أن يقرر نقل قضاة الأحكام، في الحالات التي حددها المشرع، دون طلب منهم، إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين". ويعضد هذا: ثالثها: أن قرار نقل القاضي من منصبه في حال انتفاء "المصلحة القضائية" المٌبَرِّرة لنقله، لا يجوز أن يُتخذ إلا في حال تأديبه، وهو ما نصت عليه، بكل وضوح وجلاء، المادة 8 من الميثاق العالمي للقضاة الذي أقره المجلس المركزي للاتحاد الدولي للقضاة بتاريخ 17-11-1999، بقولها: "لا يجوز نقل القاضي أو وقفه عن العمل أو استبعاده من منصبه ما لم ينص على ذلك القانون، وعلى أن يتم ذلك بقرار ووفقا للإجراءات التأديبية (..)". والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في قراره موضوع التعليق، كأنه يؤدب القاضي المعني به، والحال أن ليست هناك أي مسطرة تأديبية في حق هذا الأخير. ويزكي هذا: رابعها: أنه، قد يجد القرار موضوع التعليق ما يبرره، خصوصا في شقه المتعلق بنقل القاضي المعني به من قضاء الحكم إلى قضاء النيابة العامة، في حال عدم اضطلاعه بمسؤولياته المهنية، وبروز أمارات على كفاءته في قضاء النيابة العامة، تمثلا لمضمون التوصية رقم 12 لسنة 1992 بشأن استقلال وكفاءة ودور القضاة، الصادرة عن لجنة الوزراء بمجلس أوروبا، في بندها 1 من المبدأ السادس، والتي جاءت كما يلي: "في حالة إخفاق القضاة في القيام بمهامهم بكفاءة وبطريقة سليمة، أو في حالة اقتراف مخالفات موجبة للجزاء التأديبي، فإنه يتعين اتخاذ الإجراءات اللازمة وفقا للمبادئ الدستورية والنصوص القانونية وتقاليد كل دولة بما لا يمس استقلال القضاة، ويمكن أن تشمل هذه التدابير على سبيل المثال: أ- (..)؛ ب- نقل القاضي للعمل في مهام قضائية أخرى داخل المحكمة". وينفي هذا: خامسها: أن هذه الفرضية، ومن خلال القرار موضوع التعليق، تبقى منعدمة هي الأخرى، ذلك أن القاضي المعني به، يعد من مجتهدي قضاة الأحكام بالمملكة، وذلك بشهادة المفتشية العامة للشؤون القضائية ؛ إذ إنها، وفي أحد تقاريرها التقييمية المنجزة حول عمل قضاء الحكم بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، لم تتردد في توصيفها لأحكامه المميزة ب: "المناقشة القانونية الرصينة والتحليل المنهجي السليم". سادسها: أن القانون الفرنسي، وباعتباره مصدرا تاريخيا للقانون المغربي، ورافدا من روافد تفسير هذا الأخير، لم يدخر جهدا في التكريس الصريح لمبدأ عدم جواز نقل قضاة الأحكام بدون موافقتهم ولو تعلق الأمر بترقية، إذ نص على ذلك في المادة 4 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة المعدل بتاريخ 15-02-2012. وهو ما تبناه المجلس الوطني لحقوق الإنسان المغربي، حيث اقترح في مذكرته المقدمة إبان إعداد مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، ما يلي: "فيما يتعلق بعدم قابلية قضاة الأحكام للعزل والنقل إلا بمقتضى القانون، والمضمونة بمقتضى الفصل 108 من الدستور، فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يقترح أن يكرس القانون التنظيمي موضوع هذه المذكرة هذا المبدأ، مع التنصيص على أن قضاة الأحكام لا يمكنهم أن يعينوا في مناصب جديدة دون موافقتهم، ولو تعلق الأمر بترقية". وجماع ما سلف ولازمه، نخلص إلى أمرين اثنين: أولهما: أن قرار المجلس الأعلى للسلطة القضائية موضوع التعليق، جاء مشوبا بمخالفته لمقتضيات: الدستور، والقانون، والمواثيق الدولية ذات الصلة ؛ ثانيهما: أن من شأن تكريس العمل بهذا القرار، أن يلغي ضمنا المادة 35 أعلاه، وهذا لا يجوز من الناحية الدستورية، لأن التشريع لا يُلغَى إلا بتشريع من نفس درجتِه، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره مؤسسة دستورية، لا يعدو أن يكون مُطَبقا لهذا التشريع في حدود تنزيله لضمانات استقلالية السلطة القضائية. ومن هذا المنطلق، نأمل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أن يتدخل لتصحيح هذه الوضعية، وأن يعيد الأمور إلى نصابها بما يخدم استقلالية السلطة القضائية، ويعزز ضماناتها الدستورية والقانونية. *الكاتب العام ل "نادي قضاة المغرب"