، المتعلق بمشروع النظام الأساسي لرجال القضاء أصدر المجلس الدستوري بتاريخ 15 مارس2016، قراره رقم : 16/992، في الملف عدد : 16/1474، المتعلق بالبت في دستورية مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، القرار المذكور الذي يعتبر محطة أخيرة في مسار نقاش طويل حول مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، جاء ليكشف عن عدد من الخروقات الدستورية التي تضمنها مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، حاسما في نفس الوقت للجدل القائم بشأن بعض المقتضيات الأخرى، و فيما يلي بعض الجوانب التي حسم بشأنها المجلس الدستوري : أولا : حسم المجلس الدستوري في الطبيعة القانونية لجهاز النيابة العامة. لقد اعتبر المجلس الدستوري من خلال قراره المذكور سلفا، أن جهاز النيابة العامة هو جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية التي ينص الدستور على استقلاليتها عن باقي السلط، و هو بذلك يضع حدا للنقاش السائد حول تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل. وقد كان نادي قضاة المغرب أول جهة طالبت باستقلال النيابة العامة عن سلطة وزير العدل، حيث أصدر وثيقة تاريخية للمطالبة باستقلال النيابة العامة، وهو المطلب الذي تجاوب معه جل قضاة المملكة من خلال توقيعهم على عريضة المطالبة باستقلال النيابة العامة، و قد جاء قرار المجلس الدستوري ليؤكد مطلب نادي قضاة المغرب، و يحسم الجدل القائم حول طبيعة جهاز النيابة العامة عند مناقشته لمقتضيات المادة 25 من مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، فنص بشكل صريح على أن جهاز النيابة العامة هو مكون من مكونات السلطة القضائية، و أنه مشمول بصبغة الاستقلال شأنه شأن قضاء الحكم، و أنه تبعا لذلك لا يمكن إسناد مهمة رئاسته لمكون خارج السلطة القضائية، وقد أسس المجلس الدستوري قضاءه على علتين أساسيتين، الأولى مرتبطة بانتماء جهاز النيابة العامة للسلطة القضائية، والثانية مرتبطة بالطبيعة الوظيفية لهذا الجهاز باعتباره يمارس عملا ذو طبيعة قضائية، و هكذا فقد اعتبر المجلس الدستوري بادئ الأمر أن السلطة التي يعود إليها ترؤس النيابة العامة لا يمكن تحديدها إلا في نطاق أحكام الدستور المتعلقة بالوضع الدستوري لقضاة النيابة العامة، لاسيما ما يهم مسألة انتماء هؤلاء أو عدم انتمائهم للسلطة القضائية؛ خاصة و أن الاستقلالية التي نص عليها الفصل 107 من الدستور تتعلق بالسلطة القضائية، ليؤكد بعد ذلك على أن أحكام الدستور لم تميز بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة إلا في بعض الجوانب اللصيقة بطبيعة عمل كل منهما، و أنه أضفى صفة "قضاة" على قضاة الأحكام وعلى قضاة النيابة العامة معا، مؤكدا على أن عمل النيابة العامة يعد عملا قضائيا من الناحية الدستورية، و أن ذلك يجعل قضاة النيابة العامة جميعا منتمين إلى السلطة القضائية، و مشمولين بصبغة الاستقلال المنصوص عليها دستوريا، و تأسيسا على ذلك لا يمكن أن تسند رئاسة النيابة العامة إلى جهة لا تنتمي للسلطة القضائية. ثانيا : حسم المجلس في عدم دستورية بعض حالات النقل التلقائي للقضاة. تكريسا لمقتضيات المادتين 108 و 118 من الدستور المغربي، اعتبر المجلس الدستوري عند مناقشته لمقتضيات المادتين 35 و 72 من مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، أن عدم القابلية للنقل من الضمانات الأساسية المخولة لقضاة الأحكام، و أنه لا يجوز أن يقرر نقل قضاة الأحكام، دون طلب منهم إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين؛ وقد سبق لنادي قضاة المغرب أن طالب بضرورة وضع ضوابط قانونية ضامنة لاستقلال القاضي عند ممارسته لمهامه القضائية، و ذلك بتجنب تضمين مشاريع القوانين لوسائل تتيح المس بهذه الاستقلالية، كما هو الشأن بالنسبة لوسيلة النقل التلقائي المنصوص عليها في المادتين 35 و 72 من مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، حيث أصبح النقل التلقائي للقضاة هو الأصل، من خلال توسيع دائرة اللجوء إليه، و تغييب المعايير الموضوعية الواضحة لضمان التطبيق المتوازن له، وهو ما حاول المجلس الدستوري التنبيه إليه كذلك من خلال تأكيده على عدم جواز المساس بجوهر ضمانة عدم القابلية للنقل باعتبارها مظهرا من مظاهر استقلال السلطة القضائية، وتأكيده في المقابل على أن الاستثناء الوحيد الذي يمكن من خلاله اللجوء إلى النقل التلقائي للقضاة، مرتبط بضمان الحق في التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين، داعيا إلى ضرورة ضمان التوازن بين المبدإ الدستوري القاضي بعدم قابلية قضاة الأحكام للنقل، والمبدإ الدستوري الذي يكفل للمواطنين حق التقاضي و المساواة أمام القانون، هذه المساواة التي تستلزم حسب تعبير المجلس " أن توضع رهن إشارة المواطنين، المحاكم الضرورية والقضاة اللازمون لجعل حق التقاضي المخول دستوريا للمواطنين حقا مكفولا فعليا" و عليه فإن ما تضمنته مقتضيات المادتين 35 و 72 من مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء من حالات غير تلك المرتبطة بضمان حق المواطن في التقاضي و المساواة أمام القانون، تعتبر حالات غير دستورية بما في ذلك حالة النقل التلقائي على إثر الترقية، مادامت المادة 72 قد نصت على الاستثناء المقرر من قبل المجلس الدستوري في حالتين أخرتين هما : حالة إحداث محكمة أو حذفها؛ و حالة شغور منصب قضائي أو سد الخصاص، لذلك نجد أن المجلس الدستوري لم يقر بدستورية المادتين أعلاه على حالتهما بشكل قطعي، و إنما أوجب مراعاة ما أورده من ملاحظات بخصوص الاستثناء الوارد على ضمانة عدم النقل و الذي لا يشمل حالة النقل على إثر ترقية. ثالثا : حسم المجلس في عدم دستورية الأوامر الشفوية الموجهة لقضاة النيابة العامة. لقد شدد نادي قضاة المغرب منذ وضع مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء على عدم دستورية مقتضيات المادة 43 من مشروع النظام الأساسي للقضاة، التي تلزم قضاة النيابة العامة بالامتثال للتعليمات الشفوية لرؤسائهم، و اعتبر المقتضى مخالفا لمقتضيات المادة 110 من الدستور التي تلزم قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون أساسا، و استثناء تنفيذ التعليمات القانونية الكتابية لرؤسائهم، و هو الأمر الذي أكده قرار المجلس الدستوري حين اعتبر أن الأوامر الواردة في الفقرة الأخيرة من المادة 43 المذكورة أعلاه، الموجهة إلى قضاة النيابة العامة من طرف رؤسائهم التسلسليين، لا يمكن أن تلزم هؤلاء القضاة، إذا كانت تهم اتخاذ النيابة العامة لمقرراتها، إلا إذا كانت في شكل تعليمات كتابية، و هو بذلك يؤكد عدم دستورية المادة المذكورة على حالتها، ويلزم بضرورة مراعاة ما أورده من ملاحظات بخصوص اشتراط الكتابة بالنسبة للتعليمات المرتبطة بمقررات النيابة العامة. رابعا : حسم المجلس في عدم دستورية بعض بنود المادة 97 من مشروع النظام الأساسي للقضاة. لقد طالب نادي قضاة المغرب منذ وضع مقتضيات المادة 97 من مشروع النظام الأساسي للقضاة بضرورة إعادة النظر في هذه المقتضيات لعدم دستوريتها، بالنظر لما توفره من آليات للمس باستقلالية القضاة أثناء أدائهم لمهامهم، و ذلك بسبب الصياغة غير الدقيقة لهذه المادة، التي تحيل لحقبة التشريع القائم على عبارة "كل ما من شأنه..."، و كذا لما تضمنته المادة المذكورة من حالات غير منسجمة مع أحكام الدستور و مع القوانين الجاري بها العمل عند تحديدها لحالات الخطأ الجسيم، كما هو الشأن بالنسبة للخطأ القضائي الذي اعتبرته المادة 97 خطأ جسيما موجبا للإيقاف، في وقت أوجد له المشرع طرقا للمعالجة من خلال آليات الطعن التي يكون الهدف من ورائها تصحيح ما قد يقع من أخطاء أثناء نظر الدعاوى، و كذا من خلال آلية التعويض عن الخطأ القضائي المنصوص عليها في المادة 122 من الدستور، و لذلك طالب نادي قضاة المغرب بضرورة مراجعة مقتضيات المادة 97، فكان صدى هذه المطالبة بأن أقر المجلس الدستوري بعدم دستورية بعض المقتضيات الواردة في المادة 97، المتسمة بالعمومية و التي تعتبر مدخلا للمس باستقلال القضاة، حيث جاء في بعض حيثيات القرار ما يلي : (اعتبارا للعواقب الوخيمة المترتبة عن توقيف القاضي ومراعاة لجسامة مسؤولياته، فإن على المشرع أن يحدد الحالات التي يعتبرها مكونة للخطأ الجسيم، وأن يستعمل في ذلك عبارات دقيقة وواضحة لا يعتريها لبس أو إبهام؛ وحيث إنه، تأسيسا على كل ذلك، فإن ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 97 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة من أنه يعد خطأ جسيما "بصفة خاصة"، يوحي بوجود حالات أخرى يمكن أن تعد خطأ جسيما غير تلك المذكورة صراحة في هذه المادة، مما يجعل عبارة "بصفة خاصة" مخالفة للدستور)، كما أقر المجلس بعدم دستورية ما ورد في البند الأول من نفس المادة الذي جعل من (إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد والنزاهة والاستقامة) خطأ جسيما، معتبرا أن هذه المخالفة، بالنظر لعمومية العبارات التي صيغت بها والتي تجعلها تفتقر إلى مضمون محدد، لا يمكن أن تكون أساسا لتوقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه، الأمر الذي يجعل هذا البند مخالفا للدستور بدوره، وهو نفس ما اعتمده المجلس للقول بعدم دستورية ما تضمنه المقطع الثاني من البند التاسع من المادة 97 التي جعلت من الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية خطأ جسيما، حيث اعتبر أن هذه المخالفة بالنظر لعمومية العبارات التي صيغت بها، ليست من الأسباب التي تستدعي التوقيف الفوري للقاضي، و أن اعتبار الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية موجبا لتوقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه، غير مطابق للدستور. أما بخصوص الخطأ القضائي فقد أكد المجلس على أن القاضي لا يسأل عن الأخطاء العادية التي يرتكبها عند قيامه بالإجراءات المسطرية أو عند إصداره للأحكام والتي من أجل تصحيحها وجدت درجات التقاضي وطرق الطعن، وهي أخطاء يحق لكل من تضرر منها الحصول على تعويض تتحمله الدولة، طبقا للفصل 122 من الدستور، و أن حرية القاضي في تفسير وتطبيق القانون، حسب فهمه وقناعته، بما يحتمله ذلك من الخطإ والصواب، من شروط استقلال القاضي الذي لا يمكن تصوره دون توفر الحرية المذكورة، و أن الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف وكذا الخرق الخطير لقانون الموضوع، لا يمكن اتخاذه أساسا لتوقيف القاضي ولا لمتابعته تأديبيا إلا بعد ثبوته بحكم قضائي نهائي؛ واضعا في نهاية المطاف تعريفا محددا لمفهوم الخطأ الجسيم، حيث اعتبره : ( كل عمل إرادي أو كل إهمال أو استهانة يدلان على إخلال القاضي، بكيفية فادحة وغير مستساغة، بواجباته المهنية لدى ممارسته لمهامه القضائية). و الجدير بالذكر في الأخير أن مقتضيات المادة 134 من الدستور تنص على أنه لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 132 من هذا الدستور، و لا تطبيقه، و ينسخ كل مقتضى تم لتصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 133 من الدستور، ومن تم يتعين ملائمة مشروع النظام الأساسي للقضاة مع ما طرحه المجلس الدستوري من ملاحظات أعلاه. *الكاتب العام لنادي قضاة المغرب