تعرف مراقبة دستورية القوانين بأنها مراقبة قضائية تمارس من جهة يحددها الدستور وذلك بمراقبة مدى احترام النظم القانونية لدولة ما ( قوانين ، مراسيم ، أوفاق دولية) للدستور بإعتباره أسمى قانون في الدولة ، وعرفها ميشيل دوفيلي أستاذ القانون الدستوري بأنها مسطرة أو مجموعة مساطر تستهدف ضمان سمو الدستور من خلال إلغاء أو شل تطبيق كل ما يتعارض مع نص الدستور ، وتلعب الإعتبارات الخاصة بدستورية النظم القانونية دورا هاما في وضع القوانين ، لذا تحسب البرلمانات ألف حساب لجهات مراقبة دستورية القوانين ، وأي إلغاء لنص لعدم مطابقته للدستور يعتبره البرلمانيون في الدول التي تحترم نفسها قرصا للأذان يحمل دلالة التعريض بالمؤسسة التشريعية أمام الرأي العام ، ويقدمها كالتلميذ الكسول الذي لم يحفظ درسه جيدا . في المغرب كانت أغلب النصوص التشريعية تقتبس جاهزة من القانون الفرنسي ، والنهج إن كان في مبدأه منتقدا لأن التشريع كالغرس ينبغي أن ينبث من بيئته ، إلا أنه يظل مقبولا في منهجيته لأن التشريع يستفيد من الدراسات والتنقيات والغربلة التي يخضع لها التشريع في مصدره التاريخي ، فنتلقاه في المغرب جاهزا نقيا من الشوائب كالتبر المٌخلص . في السنوات الأخيرة تفتقت مواهب البعض عندنا على الخوض في مغامرة التشريع إنطلاقا من الطاولة الممسوحة La table rase وتعاظمت المصائب حين إختلطت التشريع بالأهواء الشخصية ، ومن الأمثلة الحية التي تستدعي التوقف عندها مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة . مبدئيا يصعب رصد كل مواطن الخلل في هذا المشروع ، لكن دعونا نقتصر على مادة فريدة شكلت الحدث وحملت الرقم 89 في المشروع الأولي ، وخرجت من لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب تحمل رقم آخرهو 97 ، أقرت المادة لأول مرة في قانون للسلطة القضائية في العالم مبدأ المسؤولية التأديبية للقاضي عن الخطأ القضائي في خروج عن المباديء الكونية في تأديب القضاة وفي خرق سافر لدستور 4 يوليوز 2011 ، والخرقان متلازمان لأن الدستور أكد التزام المغرب بالأوفاق الدولية والمباديء الكونية حين نص في ذيباجته على أنه " وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا. " وأردف مؤكدا على " جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة. " ، ورفعا لأي نقاش حول القيمة الملزمة لهذه الاعلانات أكد الدستور على أنه " يُشكل هذا التصدير جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور." لقد شددت المواثيق الدولية على ضرورة وجود معايير راسخة ومحددة للسلوك القضائي حتى لايتخذ التأديب وسيلة للنيل من استقلال القضاء حرصا منها على أن يكون رجال القضاء آمنين على مقومات حياتهم المهنية يعيشون في مأمن من كيد رجال الإدارة والأفراد لهم ، وهكذا تضمن الاعلان العالمي حول استقلال العدالة والذي تم تبنيه في الدورة العامة الختامية للمؤتمر العالمي حول استقلال العدالة المنعقد في مونتريال بكندا بتاريخ 10/06/1983 أن يكون تأديب القضاة مستندا إلى معايير راسخة من السلوك القضائي ، وتضمن إعلان ميلانو حول استقلال السلطة القضائية الصادر عن مؤتمر الأممالمتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة في مادته 19 على أن " تحدد جميع الاجراءات التأديبية أو إجراءات الايقاف أو العزل وفقا للمعايير المعمول بها للسلوك القضائي " ونصت المادة 11 من النظام الأساسي الكوني للقاضي الذي صاغه الاتحاد العالمي للقضاة على وجوب أن " يتم تنظيم تأديب أعضاء السلطة القضائية بما يكفل المحافظة على استقلاليتهم بالاستناد إلى معايير موضوعية ملائمة ." إذا إنتقلنا إلى دستور المملكة نجده يؤكد في الفقرة الأولى من المادة 107 على أن " السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية." و نصت الفقرة الثالثة من المادة 109 منه بخصوص التأديب على أنه " يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة." ، ومما لاخلاف فيه أن هذا المقتضى الدستوري الأخير هو الذي ينبغي أن يؤطرالمسؤولية التأديبية للقاضي ، وهو مستمد في جوهره من المباديء الكونية المتعارف عليها عالميا والتي تتفق كلها على عدم مسؤولية القاضي عما يصدر منه من تصرفات أثناء عمله ، ولا يساءل إلا إذا انحرف عن واجبات وظيفته أو أساء استعمالها ، والمستقر عليه في فحص الدستورية أنه عندما يضع الدستور مباديء فلا يحوز لأداة تشريعية أدنى أن تخالف أحكام الدستور بإعتبار أنه الأداة التشريعية العليا أو أن تحيد عما رسمه من مبادىء وضوابط . إن استيعاب حصانة القاضي ضد العزل والمساءلة ، لا يمكن للنفوس الذي يعتصرها الحقد وتعشعش فيها الكراهية ولا التي تعتمد شخصنة القضاء في حفنة من المفسدين أن تستوعبه ، لأن الداعي إلى إصباغ حصانة خاصة على القضاة مرده طبيعة مهامهم التي تقتضي الاستقرار النفسي حتى يتمكنوا من أداء وظيفتهم في أمان وبحيدة كاملة وحرية مطلقة ونزاهة تامة ، لذا يجب أن يكون القاضي آمنا في حاضره ، مطمئنا على مستقبله ، يعيش في مأمن من جميع الجهات سواء السلطة أو دوو الأيدي القوية من الخصوم ، وهذه الضمانات لم توضع حماية للقاضي في حد ذاته ، وإنما وضعت حماية لاستقلال القاضي ، وفي الفقه الاسلامي ذهب بعض الفقهاء إلى أن أحكام القضاة تحمل على الصحة ما لم يثبت الجور لأن التعرض لذلك ضرر بالناس ووهن للقضاء إذ القاضي لا يخلو من أعداء يرمونه بالجور …على أنه لاتعارض بين الحصانة القضائية وجواز مساءلة القضاة تأديبيا ، فلا يجوز أن تكون الحصانة عاصما من محاسبة أعضاء السلطة القضائية بل إن جلال وظيفة القضاء وسمو رسالته يقتضي من غير شك المساءلة وعسر الحساب بالنسبة المخالفين لما لسلوكاتهم من تأثير في هيبة القضاء وانتقاص من ثقة المتقاضين في القائمين على شؤونها ، لكن يجب أن يتم الحساب في موضعه وبقدر جسامة المخالفة ، لأن الحصانة القضائية ليست إطلاقا ليد القضاة في البلاد والعباد ، وإنما يجب أن تظل مرتبطة بمقاصدها المتمثلة في تأمين العمل القضائي من محاولة التأثير فيه ضمانا لسلامته . إن مقتضيات المادة 97 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة المرتبطة بمعايير الخطأ التأديبي جافت عن قصد واضعها كل هذه المباديء الفلسفية التي يقوم عليها تأديب أعضاء السلطة القضائية ، فقد إعتمدت التفسير الواسع للنص التأديبي من خلال إعتماد مفهوم الخرق الخطير بالنسبة للخرق الشكلي والموضوعي دون تحديد معيار الخطورة الذي يختلف من شخص إلى آخر ، فتبنت بذلك قياس الخطأ التأديبي بمعيار شخصي دون وضع معايير موضوعية مجردة تمكن من استقرار الأوضاع القانونية بما يحفظ استقلال السلطة القضائية ، وفوق ذاك وضعت القضاة أمام مفارقة عجيبة ، فالقاضي مطلوب منه أن يراعي وهو يحاكم المذنبين مباديء من قبيل الشرعية الجنائية والتفسيرالضيق للنصوص الجنائية والشك يفسر لصالح المتهم ، بينما يحرم من كل هذه الحقوق حينما يتحول إلى مذنب في عرف المساءلة التأديبية ، والأخطر من كل ذلك هو أنه حين لا تكون هنالك ضوابط محددة للسلوك القضائي ، تبقى المقتضيات التأديبية قابلة للتضييق والتوسيع من سلطة المتابعة والحكم حسب الحالات وشخص المتابع وسطوة الشافعين أو الناقمين على السواء مما يسقط مقتضياتنا القانونية موضوع نقدنا في الشبهة التي حاولت الدساتير وقوانين السلطة القضائية والأوفاق الدولية أن تسقطها على قوانين التأديب وهي إتخاد التأديب وسيلة للنيل من استقلال القضاء ومدخل لتركيع القضاة . ومن التجاوزات اللا دستورية في نص المادة 97 والتي تجافي أيضا المبادىء المستقر عليها في المواثيق الدولية ، فصل الخطأ التأديبي عن ركنه المعنوي الذي يقتضي أن يقترن فعل القاضي بإرادة أثمة ، فتكاد التشريعات المقارنة تجمع على عدم قيام المتابعة التأديبية إلا في حالة الغش والتدليس والانحراف عن واجبات الوظيفة القضائية أو إساءة استعمالها ، أما نص المادة 97 ، فيكتفي بتحقق الخطأ مجردا عن الإرادة الآثمة لتؤاخد القاضي بمجرد الاهمال والنسيان والخطأ العرضي ولو عن حسن نية ، والخطير في الأمر كله أن طبيعة مهنة القضاء وتعقد النزاعات وتشابكها ونزوع المتقاضين إلى التقاضي بسوء نية يجعل إحتمالات الخطأ واردة ، وقد صدق رسول الله وهو المعصوم " إنكم تختصمون إلي , ولعل بعضكم ألحن بحجته من صاحبه , فمن قضيت له شيئا من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه , فإنما أقطع له قطعة من النار" ، فقد يحدث أن ينسى القاضي إستدعاء أحد الأطراف أو البت في تقادم مسقط أو عدم إتمام إجراءات قيم ، فهل يؤاخذ على مخاطر المهنة مع أن المشرع فتح أبواب طرق الطعن والمراجعة للمتضرر، إن المحادير التي قد تخلقها هذه الأوضاع كثيرة وأخطرها على الإطلاق عدم إحساس القاضي بالاستقرار والأمان النفسي الملازمين للقيام بوظيفة القضاء باستقلال وتجرد ، وفي مثل هذه الحالات سيضطر القاضي إلى السقوط في أحضان دوي النفوذ ومراكز القوى وأصحاب الحل والعقد لإحاطة نفسه بسياج من الحماية ، فتضل بذلك العدالة طريقها إلى أحكامه ، وتهن عزيمته في الدفاع عن الحق . إننا لاننكر أن سلوكات السواد الأعظم من القضاة واستهتارهم بالرسالة النبيلة لمهنتهم ، هي التي دفعت من وضعوا هذا العمل التشريعي إلى تشريع مثل هذه الأوضاع القانونية المنكرة ، لكن حسبنا أن نقول لهم إنكم بهذا لاتحاربون الفساد في الجهازالقضائي الذي تعرفون مواقعه وأوكاره دون أن تكون لكم القدرة على إجثتاته ، نخشى فقط أن تطفئوا بمقتضياتكم الشادة بارقات الأمل القليلة في هذا الجهاز ليعلن المغاربة مجددا السيادة التامة للظلام . إننا حين ندافع على حصانة القضاء ، لا نفعل ذلك كما يدعي البعض دفاعا عن غنائم وإمتيازات ، وإنما ندافع عن القيمة الرمزية لمبادىء استقلال السلطة القضائية ، والمفارقة العجيبة أن الذين يدافعون اليوم عن تحصين المهنة هم من البروليتاريا المهنية التي لم تستفد شيئا من ريع الفساد القضائي ، بينما أصحاب الكروش التي تكاد أن تنفجر على منصات القضاء من فرط السحت غير معنية بالمعركة ومآلها . في الأخير يبقى أملنا كبيرا في قضائنا الدستوري لإرجاع القطار إلى سكته الصحيحة ، فالسلطة الحكومية المكلفة بالعدل نظمت حوارا وطنيا صوريا فرضت على إثره الأمر الواقع متجاهلة مقاربتها التشاركية المزعومة بإعتراف كثير من الهيئات التي شاركت في كرنفالاتها ، والوضع التشريعي الذي زكاه مجلس النواب مستندا على تعاقد الأغلبية أحدث إختلالا في توزان السلط ونحن نراهن على قضائنا الدستوري الذي نذكره هنا ببعض المبادىء الأساسية التي كرسها مجلس الدولة الفرنسي ومنها أن مراقبة دستورية القوانين محكومة بالرغبة القارة في إحترام التوازن بين المؤسسات والسلط وأن التفسير والتطبيق الذي نعطيه للدستور يجب أن يوجه بالرغبة في ضمان التناغم في النظام القانوني الداخلي .