عن جدارة واستحقاق، نال رسام الكاريكاتير المغربي إبراهيم لمهادي "جائزة محمود كحيل" للكاريكاتير، هذا العام في نسختها السادسة- فئة "إنجازات العمر"، وهي جائزة فخرية تُمنح تقديراً لمن أمضى ربع قرن أو أكثر في خدمة هذا النوع من الفنون. ونال الجوائز الأخرى المبدعون: السوري موفّق قات (جائزة فئة الكاريكاتير السياسي)، المصرية مي كريّم (جائزة الروايات التصويرية)، المصري محمد ميجو (جائزة فئة الشرائط المصورة)، الفلسطيني ميشيل جبارين (جائزة الرسوم التصويرية والتعبيرية) والسورية ديالا برصلي (جائزة رسوم كتب الأطفال). فهذه الجائزة الإبداعية الكبرى تندرج ضمن برنامج جائزة محمود كحيل من أجل تعزيز الشرائط المصورة والكاريكاتير الصحفي والرسوم في العالم العربي، والذي أنشئ في عام 2014، تحت مبادرة معتز ورادا الصواف للشرائط المصورة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، لتكريم وتخليد تراث المبدع اللبناني راحل محمود كحيل، أحد أميز رواد رسامي الكاريكاتير في العالم العربي. تضمُّ الجائزة فئات متنوِّعة، هي: الكاريكاتير السياسي، الروايات التصويرية، الشرائط المصوَّرة، الرسوم التصويرية والتعبيرية، رسوم كتب الأطفال، بالإضافة إلى جائزتين فخريتين جائزة إنجازات العمر وجائزة راعي الشرائط المصوَّرة. في ما يأتي نص البورتريه الذي كلف بكتابته، من طرف القيمين على الجائزة، الفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحيسن، وهو منشور بكتاب "جائزة محمود كحيل" للكاريكاتير، (صص. 18- 21) وقد تمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية؛ وفيما يلي نصه الكامل: سخرية أيقونية انتصرت لهموم الطبقات الفقيرة ولادة فنية مبكرة الرسام ابراهيم لمهادي هو، بلا شك، واحد من الفنانين المغاربة القلائل الذين أسَّسوا للبداية الفعلية للرسم الكاريكاتيري في البلد وقد عبَرت رسوماته الحدود إلى بعض المنابر الإعلامية العالمية، التي نال بفضلها جوائز دولية، منها جائزة عن معالجته لحرب الفيتنام عام 1966. انخرط الرسام لمهادي مبكراً في مجال الكاريكاتير وسط ظروف سياسية واجتماعية حسَّاسة لم تكن سهلة عاشها المغرب خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ساهمت في حظره ومصادرته ومنعه لاسيما في اتصاله بالصحافة المكتوبة خوفاً من أي دور تحريضي قد يلعبه. وقد طال الحظر والمنع صنوفاً وتعبيرات أيقونية كثيرة (الكاريكاتير، الرسوم الإيضاحية، الشرائط المصوَّرة..) كانت تنتج الفكاهة والسخرية والضحك من أجل نقد السُّلطة والمؤسسات المتواطئة معها، والتي كانت تنشر في مجموعة من المنابر والجرائد الفنية الرَّائدة، منها أخبار الدنيا، الدنيا بخير، الكواليس، أخبار السوق، التقشاب، الأسبوع الضاحك، أخبار الفن، إلى جانب الهدهد، أبيض وأسود، المقلاع وما تلا ذلك من فضاءات ومنابر إعلامية ساخرة.. في هذه الظروف العصيبة، تفجَّرت موهبة هذا الرسام الرَّائد بعد أن أوجد لها المساحات الملائمة للإبداع والتعبير الحر، محتميّاً بتجربته التعليمية وبخبرته الفنية الوافية. كما كان من أبرز الرسامين المغاربة إلى جانب الرَّاحل العربي بلقاضي، محمد الفيلالي، العربي الصبان، بوهالي حميد، محمد عليوات (حمودة)، محمد ليتيم، عبد السلام المريني.. وغيرهم من الرسامين المؤسِّسين الذين انتبهوا بشكل مبكر لوضعية فن الكاريكاتير الذي ظلَّ في المغرب معرَّضاً للتضييق والخناق بسبب انعدام حرية التعبير لسنوات وظل أيضاً غير معترف به داخل النسيج الثقافي الوطني ولم يكن يهتم به آنذاك سوى ممارسيه والقليل من المثقفين، الأمر الذي أجَّج في أكثر من مناسبة أصواتاً غيورة دعت إلى إعادة الاعتبار لهذا الفن الإنساني الرَّاقي ودعمه وتشجيع فنانيه وممارسيه.. تجربة الاعتقال السياسي نشر لمهادي أولى رسوماته الكاريكاتيرية بجريدة "أخبار الدنيا" لصاحبها الصحفي الرَّاحل مصطفى العلوي، وذلك عام 1963. وفي نفس العام، التحق بجريدة العلم كرسام كاريكاتير وكذلك ب "جريدة الدنيا". عقب ذلك، ظهرت رسومه بجريدة المحرِّر، منذ عام 1975 إلى عام 1980، وهي الفترة التي شهدت اعتقاله بسبب نشر رسم كاريكاتيري. دام منعه من الرسم زهاء 18 عاماً، ليعود لاحقاً لممارسة الكاريكاتير بأسبوعية الصحيفة. وفي ظروف اعتقال الرسام لمهادي من قبل البوليس المغربي، خصَّت صحيفة "المحرِّر" (الاتحاد الاشتراكي راهناً) عمودها اليومي "بصراحة" بنص مؤرَّخ يوم 23 غشت 1980 وقد تناول قضايا التضييق والحجز والمصادرة في مقابل حرية التعبير من خلال تجربة جريدة "الكنار أونشيني" التي دأبت، وبرؤية نقدية واضحة، على نقد الحياة العامة ونقد الشخصيات الكبيرة في بلدها أو في العالم. معتبراً (نص العمود) أن هذا الأمر يبرز الفارق بين ما يجري هنا وما يجري هناك على خلفية اعتقال لمهادي الذي فضح "الديمقراطية الهشة" التي ضاق صدرها برسوم كاريكاتيرية ساخرة. خلال هذه التجربة المؤلمة، عاش ابراهيم لمهادي مبدعاً كبيراً، مؤمناً بفنه ورسالته، ومدركاً لأهمية الإبداع الذي خدم الإنسانية في الكثير من المناسبات حيث وقف رسَّامو الكاريكاتير طويلاً إلى جانب الشعوب، لتجاوز العديد من النكبات والمحن، في الحروب السياسية والعسكرية وغيرها، بقدر إدراكه كون الكاريكاتير وسيلة للتأثير على أفراد الشعب، والتعبير عن همومهم وجراحاتهم وانكساراتهم وصراعاتهم اليومية مع الظلم والشطط وغياب العدالة والديمقراطية.. نقد جمالي ساخر ابراهيم لمهادي، أو "أبو سيف"، وهو الاسم الاستعاري الذي كان يوقع به رسوماته الكاريكاتيرية على صفحات يومية "العلم" من بداية الستينات إلى غاية عام 1975، يمتلك ريشة ناقدة وساخرة تطرَّقت للعديد من المواضيع والقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية بأساليب فنية اختزالية تعتمد الفكرة البصرية بالأساس إلى جانب تعليقات مصاحبة كثيراً ما تساهم في إنتاج المعنى وتبليغ الرسالة، وكان يغترف موضوعاته من الشارع والحارات الشعبية وكواليس الإدارات والمكاتب المخزنية، وتنوَّعت هذه المواضيع وتعدَّدت حيث عالج من خلالها قضايا مجتمعية وسياسية عديدة، من بينها: الرَّشوة (القهوة بالعامية المغربية)، النفاق الاجتماعي، الشَّطط في استعمال السُّلطة، الفقر والجوع، البطالة والعطالة (الشوماج)، الهجرة السرية (لَحْرِيڭْ) والبحث عن العيش بالضفة الأخرى، مشاكل التعليم بالمدن والأرياف، هموم الفلاحين، الإدارة العمومية والمخزن، النقل ومتاعبه الكثيرة، رداءة الإنتاج التلفزي في المغرب (بمختلف قنواته)، الزيادة في الأسعار، محنة المواطنين مع ارتفاع الفواتير الخاصة بالماء والكهرباء والتلفون.. وغير ذلك من القضايا التي شكلت متنفساً للطبقات المسحوقة.. وبحكم التراكم الفني الذي حققه على هذا المستوى، فقد دوَّن الرسام ابراهيم لمهادي تجربته الكاريكاتيرية وجمعها في كتاب مونوغرافي توثيقي أسماه "سنوات الرصاص والحبر والقلم والطباشير" صادر عن منشورات "السؤال الملف" (الدارالبيضاء 2008)، وقد ضمَّ إبداعات ساخرة نُشرت على امتداد سنوات بجرائد مغربية مدعّمة بنصوص وآراء حول مساره الفني الذي يختزل جانباً من التاريخ السياسي في المغرب بحسب رؤيته. يقول الفنان لمهادي في مقدمة الكتاب: "الرسام الكاريكاتيري صادق في كل ما يعبَّر عنه، يتطرَّق لمشاكل وهموم الناس دون مغالاة أو تهريج، وهو يوصل أفكاره بدقّة وسرعة مع وضع ابتسامة على شفتي كل قارئ". ورغم أن السخرية تقوم عموماً على أهداف تظلَّ – من منظور كيربرا أركيشيوني – "تهاجم وتعتدي وتفضح، وترمي هدفاً"، فإنها في رسومات لمهادي تنتقد الواقع بلغة أيقونية صارخة ومحتجة ضِدَّ العبث والفساد.. لغة الخط وشغل المساحات بتعبيرات صادرة عن انفعال وجداني صادق تجاه الشارع والمجتمع والإنسان المغربي. رسوماته – بهذا المعنى – تدفعنا إلى الابتسام والتأمُّل معاً، رسومات مستوحاة من المشاهد المتداولة بين الناس ومتصلة بالواقع اليومي المعيش.. ولعل امتلاك الفنان لمهادي لناصيَّة الرسم والتعبير الأيقوني الخلاَّق هو ما يجعله مدركاً لتفاصيل الواقع وفاهماً له بالعمق والوضوح المطلوب. تفرَّدت تجربة هذا الفنان الرَّائد بملامسة مشاعر المواطن من خلال تنفيذ رسومات ساخرة تنتقد الظروف والمحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع المغربي والعربي، وذلك باستعمال رسم إقلالي، هادف وملتزم. فضح المسكوت عنه تُعَدُّ رسوم لمهادي بشكل عام رصداً لمجموعة من الأحداث والمحطات الحاسمة التي عاشها المغرب السياسي خلال الحقبة المذكورة، والتي ظلَّ ينجزها بريشة ساخرة وناقدة موسومة بأسلوب رسم سهل وبسيط كان ينفذ بسهولة إلى قلوب الناس. وقد ظلَّ الكاريكاتير يشتغل في تجربته الفنية الساخرة على تعرية سوء التسيير السياسي وكشف هشاشته، ولم يكن إبداعاً للتسلية والإضحاك، قدر ما شكل فنَّاً حقيقيّاً، جادّاً يدعونا إلى الاستبطان والتأمُّل في واقعنا وفي موضوع الكاريكاتير نفسه.. وبقدر سعادتنا بكتابة هذه السطور في حق هذه القامة الإبداعية الكبيرة ذ. ابراهيم لمهادي، فقد أسعدنا حضوره ومشاركته قبل أشهر في الرباط خلال الاحتفاء بكتابنا "الكاريكاتير في المغرب – السخرية على محكِّ الممنوع" رفقة نخبة مميزة من رسامي الكاريكاتير المغاربة (رواداً، مخضرمين، وشباباً) إلى جانب إعلاميين ومهتمين لهم بصمات واضحة في التعريف بهذا الفن الجميل.. حضور لمهادي في هذا اللقاء كان وازناً.. لفت إليه أنظار الحاضرين بتقاليعه ونوادره وسردياته التي تتوارى خلف تفاصيلها رحلة طويلة وشاقة في الرسم الكاريكاتيري.. كان يتحدَّث بتجربته وبمساره الجمالي والإبداعي المشرِّف.. ونتذكر أننا اقترحنا مجموعة من التوصيات والتدابير الرَّامية إلى إعادة الاعتبار لفن الكاريكاتير في المغرب، منها إنجاز سِيَر فنية "مونوغرافيات" Monographies مرجعية من النوع الرفيع للرسامين المغاربة الرواد توثيقاً لمساراتهم الفنية التعبيرية الرَّاقية، والمبدع ابراهيم لمهادي يُوجد في طليعتهم، وقد بلغ الآن ثمانين حولاً – أطال الله في عمره – يعيش بسيطاً، قنوعاً، متأمِّلاً، هادئاً في بيته الذي ينبت وسط حي شعبي في مدينة الدارالبيضاء وفي سجله الكثير من الإبداع الجميل، الملتزم، الجاد، الرَّاقي الذي بوَّأه مكانة كبيرة داخل وجداننا الجمالي المشترك، وهو جدير بكل استحقاق وتكريم.. بقلم: ابراهيم الحيسن