يعد مدح أقطاب التصوف من أبرز الموضوعات التي استأثرت باهتمام شاعر الملحون في المغرب، فقد هاله جمال شخوصهم وما طبعها من صلاح وطهر وجلال، بالإضافة إلى زعامتهم الصوفية كمربين وشيوخ، أطروا المغاربة وأسهموا في رعاية العمل الفكري والنشاط المعرفي في زواياهم التي كانت منارات علمية فاعلة. وبما أن الأولياء هم أصفياء الله سبحانه من عباده وأتقياء القوم، فإن مدحهم يغطي مساحة كبيرة في ديوان الملحون، لأن هؤلاء الشيوخ ملكوا قلب الشاعر واستحوذوا على عقله، فأبدع في محبتهم وتغنَّى بشمائلهم. وعلى هذا الأساس تروم هذه الدراسة الكشف عن تجليات مدح أقطاب التصوف في شعر الشيخ عبد القادر العلمي الذي يلقب بشيخ متصوفة الملحون بالمغرب. 1 – حب الولي يمدح شاعر الملحون الولي الصالح مدحا خالصا، على اعتبار أن البطولة تنحدر من الأصل إلى الفرع. فالحديث عن الأصل هو حديث يخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكل دلالاته وأبعاده الدينية والإنسانية، وأما الحديث عن الفرع فهو يهم الولي بحكم انتمائه إلى الدوحة النبوية الشريفة. وينبني حب الشاعر عبد القادر العلمي للولي الصالح على هيمنة صفة الجمال التي يتصف بها الممدوح، وهذه الصفة توضح بجلاء استلهام الخطاب الشعري الصوفي للمرجعية الدينية، لأن القرآن نبَّه إلى إحساس الإنسان بالجمال في مظاهره الكثيرة التي لا حصر لها ولا حدود. حيث يقول عزَّ وجلَّ: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ﴾ (سورة الانفطار، الآية: 8). يقول عبد القادر العلمي في قصيدة “الادريسية” (ص. 88): يا بَدْرْ الاَّ إيغيبْ عَنِّي حُسْنْ اضْياهْ ولا يَعْرَضْ لي مع اسْناهْ اظْلامْ اغْليسْ اخْرَب ديوانْ مُهْجْتِي بنسيمْ اهْواهْ كيفْ اخْرَب حُبْ داتْ لَيْلى مُهْجَة قيس يبدو أن المحب – كما يظهر من خلال هذه الإشارات- مسكون بحب الولي تتجاذبه الأشواق فلا تزيده إلا تعلقا ورغبة في الاتصال به. والحقيقة أن الباحث في ديوان الملحون الصوفي، يجد قصائده معبرة أصدق تعبير عن وقفات تأملية أمام مرآة الحياة والنفس، إلى جانب كونها وقفة استنابة واستغفار وندامة بين جنبات وأركان ضريح الولي الصالح. فالمغرب من أكثر الدول العربية والإسلامية احتضاناً للزوايا والأضرحة والمزارات، حيث تكاد لا تخلو قرية أو مدينة من ضريح أو مزار، حتى سمي ببلد الألف ولي. ونجد الشاعر عبد القادر العلمي يخاطب المتلقي ويحثه على زيارة ” السبعة رجال” حصون بهجة مراكش قائلا (ص. 230): طُوفْ عَنْ سَبْعَة رْجَالْ الوَالِي سِيدِي يُوسفْ بنْ علِي حْدَاهْ القَاضِي عيّاضْ هَا السّبْتِي هَا بنْ سلِيمَانْ قْبَالكْ رَا التبَّاعْ هَا بنْ احْمَد هَا عَبْد الله هَا السهيلي يرتب الشاعر الولي الصالح في مرتبة أسمى، تخول له أن يكون رمزا مقدَّسا بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لهذه المرتبة الاجتماعية والدينية صار متبعا للهداية التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحييا لسنة السلف الصالح، ومجاهدا لرد العاصين إلى طاعة الله عز وجل، ولهذا نجد الشيخ عبد القادر العلمي يواظب على مدحه في قوله (ص. 93): تَعْظيمْ الأوْلِيَّا من اوْظايَفْ الإيمانْ وانا تَعْظيمْكُمْ هُو سَلْوانِي عَنْدْ ادْكُركُمْ نُوجَدْ اخْلاكِي فَرْحانْ كَنِّي مَنْكُمْ من كُثْرَتْ ما زَهَّانِي إن ظاهرة التقرب إلى الشيوخ والأولياء التي تفاقم معها ما كانت تذيعه كل طائفة عن شيخها من كرامات ومناقب، قد وجد فيها الخيال الشعبي ارتياحا كبيرا، وكانت تؤمن بها العامة إيمانا صادقا، فترتب عنها التوسل بجاهها إلى الله لأجل المغفرة واستجلاب الصحة والمال والجنة. والجدير بالذكر، أنه ينبغي علينا استحضار الصورة الصوفية للشيخ، وبكل الخصوصيات التي تنص عليها الأدبيات في كتب القوم، ومنها أن الشيخ وهو على قيد الحياة، يعتبر “الطبيب المداوي” لعلاج المريد المعاني، والولي/الغائب (في ضريحه) يتنزل منزلة الطبيب بكرامته وتصرفه في الأحياء، مما يدخل في باب قضاء الحاجات. وقد ذكر الحسن شوقي صاحب “سلوة الأنفاس أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة لأنهم عبيد الله القائمون بأمره ونهيه الدالون عليه، فالمقصود من تعظيمهم تعظيم الله ومن الثناء عليهم الثناء على الله، فألحقوا به وحكم لهم بحكمه من نزول الرحمة والسكينة عنده. إن “القطب” أو “الغوث” هو أعلى مراتب الأولياء ويحيط به ثلاثة نقباء وأربعة أوتاد وسبعة أبرار وأربعون يسمون أبدال، وثلاثمائة أخيار وأربعة آلاف من الأولياء المحققين. وفي هذا الإطار يرى جلال الدين الرومي أنه من لم يعرف شيخه –بمعنى الإنسان الكامل وقطب الزمان فهو كافر. لقد كان شاعر الملحون الصوفي يؤمن بأن الشخصية السوية عند أفراد جماعته العريضة، هي تلك الشخصية التي تثبت على عقيدتها، وتناهض غيرها دوما من أجل هذه العقيدة وترسيخها. وثبات العقيدة -في رأي شاعر الملحون الصوفي –يحتاج إلى كثير من الرياضة الروحية التي لا تتوفر لهذه الجماعة إلا بواسطة النصوص ذات الطابع الديني والأخلاقي. ومفتاح هذه المعالجة، يراه شاعر الملحون في رجوع الفرد إلى ضميره، وإلى محاربة نفسه الأمارة بالسوء. هذه النفس التي يحاورها، بين الفينة والأخرى، لتستعد استعدادا صادقا إلى التوبة والغفران، وإلى الخلاص الدائم الذي يأتي بعد التوبة النصوح. فبالتوبة والإخلاص تزكو نفس الفرد وتسمو، سالكة في ذلك مسالك العارفين الواصلين من رجال الله الذين يعيشون بنفس راضية مطمئنة. وبالإضافة إلى هذا كله، فإن الشيخ عبد القادر العلمي المادح لشيوخ الطريقة الصوفية إنما كان ينظم أشعاره، وهو يتمثل المرجعية المتمثلة بالأساس في الوراثة العرفانية لمقام النبوة. وعموما اشتهر مدح الأولياء في ديوان الملحون بالجمهور ولاسيما إذا كانت القصيدة تتناول أكثر من واحد؛ كما فعل عبد القادر العلمي في جمهوره المشهور. وفي هذا اللون من الشعر يرتبط شاعر الملحون بعالم التصوف وعالم الأولياء والصالحين. وفيه يستعرض معارفه ومعلوماته عن الخريطة الصوفية لمجموعة من الأولياء والصالحين. مما يدل على أن شاعر الملحون الصوفي قد تأثر بالمناخ الديني والاجتماعي والثقافي السائد في بيئته. 2 – مناقب وكرامات الأولياء اهتم الشيخ عبد القادر العلمي بذكر مناقب الأولياء وكراماتهم، ورجال التصوف وإشراقاتهم، فأفرد لهم قصائد كاملة، تعرف بقصائد الجمهور، ذاكرا أسماء الأولياء والصلحاء، مبرزا ألقابهم وكراماتهم ومناقبهم، وأحيانا أماكن دفنهم. ويتجلى الخطاب الصوفي –من خلال هذا المستوى- في عرض القيم الصوفية التي يجسدها الولي، كاتصاله بالنبوة، وإحاطته بالأسرار، وتحكمه في النفس وغيرها من القيم الصوفية. وفي هذا المجال يقول الشيخ عبد القادر العلمي (ص. 97): قَلْبِي يبْغِي اهْل الفْرَايضْ والسْنَانْ وانَا جَافِي اطْرِيقْهُمْ يَا ليتَانِي ونمَلْ اطْرِيقْ هَلْ البدْعَة والبُهتَانْ وانَا منْهُمْ ليس نَنْكُر جهْلَانِي وتجدر الإشارة إلى أن الزاوية لم تكن مجرد مؤسسة صوفية دينية معزولة عن العالم، بل كانت مؤسسة دينية صوفية تأطيرية، تجمع بين المقدَّس والعبادة والتصوف، وبين التقشف والتفلسف أحيانا، والتشوف الغيبي عبر البركة والكرامات والخدمات وقراءة الأحزاب والأوراد ودليل الخيرات للإمام الجزولي. يقول عبد القادر العلمي في وصف الزاوية الصوفية (ص. 147): تَسْتاهَلْ لالة الزَّاوْيات التَّحْصِينْ منْ لاَّ لِيها انْظِيرْ في بَرْ العُرْبانْ نُورْ على نُورْ زادْ حَضْرَةْ مُحْيِي الدِّين من شَيَّدْ أمِيرْنا من اصْنافْ البُنْيانْ وكذاك ذات البْها شمِيل التُّوبْ الزِّينْ والحُلْيَ على اجْمالْها تَبْهَر الادْهانْ حُسْنْ الفضَّة ونُورْ ابْهيجْ الشَّانْ قُول الله يَرْحَم جاهْ الهْمامْ السُّلْطانْ قد لا يخلو ديوان شعري من الملحون الصوفي، من المدح المغدق على الأولياء والصالحين، والتضرع على عتباتهم وأبوابهم. فنلفي الشاعر عبد القادر العلمي يستعير من معجم الخمرة الأزلية صورا وألفاظا تضفي على الولي الصالح صفات التأثير والفاعلية غير المباشرة. لأن الواقف بباب الصالحين، يأتي وقد أخذ به العطش الروحي مأخذه القاتل، وأصبح يكابد لواعج الأسقام والعلل، وبالمناجاة والتضرع يوصف للمريض جرعات من الدواء الصوفي. وفي هذا الصدد يتحدث الشاعر عن الخمرة الصوفية والنشوة التي تثيرها في نفسية المريد، فيغيب عن العالم المادي لينجلي له النور الإلهي، وهذه هي أحوال المتصوفة التي قال عنها الشيخ عبد القادر العلمي (ص. 111): وارْجَالْ جَادْبَة غَرْبَتْهَا الاحْوَالْ مَخْمُورَة غَايْبَة مْعَ السّكْر اهْبِيلَة وارْجَالْ سَالْكَة فِي غَايَة الاعْتِدَالْ وارْجَالْ مَعْتَكْفَة مْعَ الدّكْر أشْغِيلَة ينهض الخطاب الصوفي، كما يتجلى من خلال هذا المعجم، على حب الولي والإشادة بمناقبه وكراماته، فهو مأوى المساكين وملجأ المحرومين وملاذ العاجزين. مما يدل على أن الأولياء يتميزون عن غيرهم بالصَّلاح والبركة والامتثال لأوامر الله، واجتناب نواهيه ودرء المعاصي والعكوف على العبادة، وهذه الصفات تعد من أهم شروط الولاية. يقول الشيخ عبد القادر العلمي في ص. 95 من الديوان: سِيدِي في الصُّلاَّحْ من وَصَّلْ لي مَعْطاهْ وتأسَّفْ عن فَقْرِي نَرْحَمْ داتْ الغرَّاسْ اللِّي ثَمْرُه يَحْلى لي ونمجَّد من جادْ وغَطَّانِي تُوبْ ارْضاهْ واقْبَلْ لي عُدِري خلع الشيخ عبد القادر العلمي على قطب التصوف جملة من الصفات الحميدة، باعتباره وارث المقام النبوي بالولاية، ومن ثم فإن أهم ما يميز أولياء الله الصالحين عن غيرهم من الناس -في المتخيل الشعبي للمغاربة- هو اتصافهم بالصلاح والبركة. خاتمة على ضوء ما تقدم ذكره، نستخلص أن العبقرية الشعبية استطاعت أن تسمو بالملحون الصوفي إلى أعلى مراتب الهذيان الروحي، مما جعله من أهم القضايا التي تستأثر باهتمام الباحثين والدارسين، على الرغم من كونه يمثل تجربة إبداعية انبثقت من وسط شعبي، يشكل الحرفيون قاعدته الواسعة، إنتاجا وتلقيا. ومن ثمَّ فإن ديوان الملحون بالمغرب يدور في معظمه حول الموضوعات الأساسية التي عرفها الشعر الصوفي في عصوره المختلفة. ولهذا ينبغي الارتقاء بهذا الشعر، باعتباره الذاكرة الحقيقية للمغاربة كما يعيشونها بتلقائيتهم اليومية، فهو أقرب من نبض الجمهور وألصق بواقعهم وتاريخهم.