إن المكونات التاريخية للخطاب الصوفي في المغرب، تنتصب في عمق التراث جذوراً طالعة قد شكلت، عبر المجال الجغرافي، الحقل المعرفي الذي أثمر ألواناً مختلفة، منذ أن عرف المغرب عصر الفتوحات الفكرية وتلاقح تياراتها المتفاعلة في ما بينها، إما من جهة الأندلس، أو من جهة المشرق وهذا التفاعل المثمر قد وجد المناخ المثاقِف، كما وجد التربة المتقبلة لأنواع البذور وأصناف الجذور، منذ مرحلة الاستنبات إلى الإخصاب، فالعطاء... والخطاب الصوفي في المغرب، من عهد الصلاح والزهد، إلى فترة الزوايا والطرق الصوفية، لا يمكن تلمس تقسيماته وملامحه إلاّ من خلال المصارد المغربية وغيرها التي أرخت للخطاب الصوفي، من خلال كتب التراجم والمناقب؛ وباعتبار أن تلك المصادر هي وحدها التي تحدثت عن الحياة السلوكية لأولياء المغرب وصلحائه، وما يستلزمه السياق استحضاراً واستطراداَ من ذكر الحياة الصوفية لأقطاب التصوف في باقي البلدان الإسلامية. كيف يتسنى للباحث أن يدرس الخطاب الصوفي الأدبي في العصر الإسماعيلي، دون أن يحاول تلمس الجذور، ولو بحس الإجمال لا التفصيل؟ وبمعنى أدق، لا يمكن للباحث في هذا الميدان أن يتناسى "العمق التاريخي" للفكر الصوفي في المغرب على عهد السلطان إسماعيل، من باب الإشباع الثقافي من جهة، ومن باب التعبير عن حالة صوفية يمتد زمنها إلى قرون من تاريخ الخطاب، من جهة ثانية. فهذا التادلي، المعروف بابن الزيّات، قد عبر عن حُرقته الصوفية، وهو يرسم الطريق لطموحه (مشروع الصوفي)، والمتمثل في "التشوف إلى رجال التصوف" والذي شرع في تصنيفه سنة سبع عشرة وستمائة([1]). وجاء التعبير عن هذه الحرقة الوجدانية، بأسلوب إنشائي بليغ: ... فيا منازل الأحباب، أين ساكنوك؟ ويا بقاع الإخلاص أين قاطنوك؟ ويا موطن الأبرار أين عامروك؟ ويا موضع التهجُّد أين زائروك؟ خَلَتْ والله الديار وباد القوم، وارتحل أرباب السهر وبقي أهل النوم. واستبدل الزمان آكلي الشهوات بأهل الصوم. لله در أعظمهم! كم تعبت في طاعة! وذهبت والله أوصابهم وربحت الصناعة! وبقي الثناء عليهم إلى قيام الساعة([2]). كتاب "التشوف"، إذن، هو الفاتحة في ديوان التاريخ الصوفي للمغرب([3]) وإن كان قد اقتصر على مجال جغرافي معين([4])، وجاء بعده صاحب "المقصد الشريف" ليعرِّف بصلحاء وأولياء منطقة أخرى تغطي مجالاً جغرافياً لم تصل إليه حفريات ابن الزيات التي ضربت في تراب المغرب الأوسط وما يليه؛ فامتنعت عليه جبال الريف، ولعل ذلك يقول البادسي : لبعده عن مكانه، وعدم اتصاله بأحد من سكانه، فانطمس عليه معرفة أبنائه، وعز لديه تسوغ أخبائه، وقد كان استقر بالريف المذكور، في سائر الأزمنة كل مشهور مذكور، لم يقصر في جده عن الأكابر المشتهرة ولا يتهم في الزمن الغابر، حتى يعلم أنه كان بريفنا المهمَل، من أحسن في الطاعة وأجمل، ولو أن ابن الزيات انتشر، أو عاينه في المحشر، لقال وأنشد...([5]). فإذا كان كتاب "التشوف" إضافة إلى المترجم لهم فيه، وما يقتضيه الخطاب من أخبارهم قد حوى مادة أدبية وشعرية استوجبها السياق التعبيري أو جاءت تراعي المقام الصوفي، فإن كتاب " المقصد الشريف" قد بناه صاحبه على خطة مرسومة، وكأنها بنود تنهى بعقود: بنود في الخطاب الصوفي، مختومة بعقود شعرية، أغلبها من إنشاء المؤلف، على عكس ابن الزيات. وهكذا يكون ابن الزيات: قد رسم في كتابه، الذي سقى الحسن يانعه وناضره، أبياتاً من الشعر لغيره على وجه المثل والمحاضرة. فاقتضبتُ يقول البادسي أبياتاً عقب كل شيخ تناسب أحواله كل المناسبة، وتطابق حالته المرضية ومكاسبه، وجعلتها لزومية الرويّ، جارية على الصراط السوي، موافقة للخبر المحكي والمروي([6]). وإذن فإن عبد الحق البادسي: ... يعيد تجربة التادلي، فيكتب عن صلحاء الريف، مخللاً أو مستهلاًّ تراجمه بأبيات، ينثرها على قبور الصلحاء والأولياء. فتارة يستقطر عين الزهد في أبياته، وتارة يستمطر سحاب الوجد... وهو في الحالتين لا يرقى إلى مدارج الصوفية من الشعراء، لأن »الأنظام« التي أتى بها البادسي هي أقرب إلى الوصف التقريري المزخم بالمعرفة الصوفية([7]). ولقد استخلص المحقق الفاضل المحاور التي تشكل الموضوع العام والموضوع الخاص لكتاب البادسي: حيث تحدث في القسم الأول عن المقامات والكرامات، وضمنه أربعة فصول: 1 في الولاية والوليّ؛ 2 في الفقر والفقير؛ 3 في بيان مفهوم التصوف؛ 4 في إثبات كرامات الأولياء. وخصص القسم الثاني للحديث عن الخضر عليه السلام. أما القسم الثالث، وهو المقصود بالذات، فعرف فيه بالمشايخ من صلحاء الريف... ([8]). والنموذج الثاني من كتب المناقب، وهو يختلف عن المصدرين السالفين، يتمثل في "أنس الفقير وعز الحقير". ولقد ألفه ابن قنفذ بعد "المقصد" بأزيد من سبعة عقود، أي في شهر رمضان المعظم من عام سبعة وثمانين وسبعمائة، بقسطنطينة المحروسة ([9]). ومن المعلوم أن هذا الكتاب قد خص به أبا مدين الغوث، مقيداً ما روي عنه من كلام وخطاب، ومتحدثاً عن أصحابه وبعض أشياخه. ولا يخلو الحديث في البداية وعلى غرار من سبقوه عن الولي وشروط الولاية، وعن الكرامة الصوفية وارتباطها أو عدم ارتباطها بحصول الولاية... وبالرغم من ضيق المحاور في الكتاب، فإن حديثه المجمل قد اختزل البعد الجغرافي لمجال الأولياء والصلحاء. وهو يعترف بأن المغرب الأقصى أرض خصبة لمقامات التصوف، ورجاله وأشياخه: "وقد سألت يقول ابن قنفذ عن جملة الطوائف التي هي بالمغرب الأقصى، في الأرض التي تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ، فوجدتها متعددة باعتبار تعدد الأشياخ..."([10]). ولدى حديثه عن قبر المترجم له وهو المحور الرئيس في هذه المَنْقَبَة ، وما له من مقام معلوم، يشير إلى المجال الجغرافي الذي شمل أقطاراً من المغرب العربي: فقلت: وقبر الشيخ أبي مدين رضي الله عنه بالعبّاد معهود مشهور، وحوض للزائرين، رأيت من قبور الأولياء كثيراً من تونس إلى مغرب الشمس، ومنتهى بلد أسفي. فما رأيت أنور من قبره ولا أشرق ولا أظهر من سره. وليس الخبر كالعيان، والدعاء عنده مستجاب، قاله الأعيان...([11]). وإلى جانب ما في الكتاب من حديث عن التصوف ورجاله الذين استحضرهم المؤلف في رحاب أبي مدين، فإن الإشارات التاريخية للمنطقة لها حضورها. كما يحوي "أنس الفقير وعز الحقير" مكاتبات ومراسلات لها قيمتها الأدبية والصوفية([12]). وبخصوص المادة الشعرية، فهي أقل بكثير مما في كتاب البادسي، وكتاب "التشوف"، وإن كان بعض ما في "الأنس" هو من زوّادة التادلي. وقد نكون عدَّينا على بعض المصادر الأخرى، تلك التي قامت برصد »الظاهرة الصوفية« مجسدة في الصلحاء والأولياء ومزاراتهم، أحياء كانوا أم أمواتاً؛ وإن كان بعضها سيستمر في الحضور إلى زمن لاحق. وقد رأينا أن ابن قنفذ، ومن ترجمته لأبي مدين الغوث، يستحضر مقام ابن عاشر، دفين سلا، وأورد عنه أخباراً وإشارات. إلاّ أن كتاب "السلسبيل العذب" وعنوانه له ذيل وتكملة سيجري عبر الأقاليم الثلاثة، ليؤرخ للظاهرة الصوفية وهي تحيا بين فاس ومكناسة الزيتون، وأخيراً سلا... وبهذا الكتاب، سيكون المحيط الصوفي قد تم رسمه، من أقصى الريف إلى المغرب الأوسط إلى مملكة سلا. وكتاب الحضرمي ([13]) هذا يتلاقى مع كتاب ابن قنفذ لتمحورهما حول الأقطاب القلائل. فابن عاشر، الشهير، قد حظي من الحضرمي بنصيب وافر من الخطاب، الأمر الذي سيشكل المرجع لمن سيستمتعون ب"تحفة الزائر" على العهد الإسماعيلي ([14]). وسيكون هذا الصوفي، في مزاره، موضوعاً لشعر التوسل، الذي هو جزء داخل الخطاب الصوفي الأدبي. ولقد امتدت ظلال "دوحة الناشر" لابن عسكر، لتحتضن كل المشائخ من أهل القرن العاشر، فيهم الصلحاء والأولياء، وفيهم المتصوفة من الشعراء ابن يجبش وأحمد زروق إلى جانب الوسط العريض من الفقهاء والعلماء وأهل الوجاهة والفضل: وربما أذكر بعض مشائخ الصوفية وأنبه على القطع بولايته أو التردد في شأنه لاختلاف فيه أو لعدم الأرجحية وتشابه الأحوال، وأشير إلى مقام كل واحد منهم في صدر ترجمته... وعلى الله قصد السبيل([15]). ويمكن للباحث أن يقوم بالجرد والتصفية، بمجرد الفاتحة في "التحلية" (ومنهم الولي... ومنهم الشيخ العارف... ومنهم ولي الله، ومنه الشيخ آية الله في خلقه، إلخ). أما الباقي، من غير قطاع الولاية والصلاح، فله تحلية تناسب عمله وفقهه... وقد يقال: ما علاقة هذا الرصد الكرونولوجي، في رسم البنيات التحتية، بالخطاب الأدبي الصوفي؟ والحالة أننا اقتربنا من جيل "الصفوة"، وقد ضمهم القرن الحادي عشر؟ لم يكن الهدف من هذا الرسم المحدود بالمجال ما قام به صاحب "مؤرخو الشرفاء"([16]) أو غيره، لأننا لا نؤرخ إلاَّ للظاهرة الصوفية التي أعطت الخطاب الصوفي والأدبي ، سواء في بنياتها التحتية، أو في بنياتها الفكرية الفوقية. وقد يجد البعض بعض الحديث عن هذه الظاهرة في المصادر التاريخية، أو كتب التراجم بعامة، لا كتب المناقب الخاصة، لما للحضور الصوفي من وجود ملحوظ حتى بين السلاطين وقصورهم... وهكذا نبتت الظاهرة الصوفية، وقد سُقِيت على أرض المغرب بماء المناقب والكرامات. وقد ساعد على ذلك ما يميز هذه التربة من استجابة لرياح التلاقح والتأثير، إضافة إلى عوامل أخرى تفاعلت مع التاريخ ومع معطيات الواقع الاجتماعي والسياسي. وعندما تحدثنا بإيجاز عن المجال الجغرافي الذي استنبت الظاهرة الصوفية، المشكِّلة لبنية الخطاب الصوفي والأدبي، فإننا لم نعزلها منهجياً عن المناخ المعرفي الفكري والذي زرع الدم المتواصل في شرايينها. وبالتحديد، فإن التراث الصوفي المشرقي كان حاضراً، بصفته مرجعية أساسية في تاريخ التصوف المغربي. ونضرب مثلاً واحداً، في هذا السياق، كتاب أبي نعيم الأصفهاني ( 430)، "حلية الأولياء": فهو يعد المرجع الثابت في سلسلة »المناقب« المغربية باعتباره الموسوعة الشاملة لخطاب المناقب وأدبياته ([17]). وسنجزئ الحديث عن هذا الصنف من التأليف، لما له من مقام كبير في احتضان الخطاب الصوفي الأدبي، في مغرب القرن الحادي عشر والثاني عشر، إلخ. ولأننا نعتقد أيضاً أن التراكم الذي حصل في هذا المجال، على العهد الإسماعيلي، وقبله بقليل، فيه من الإبداع كما فيه من الابتداع؛ فيه من التقليد للمرجعيات السابقة، وفيه من الاجتهاد الناتج عن التمثل والعطاء، في إخصاب الظاهرة وخطاباتها. إن العصر السعدي، وما صاحبه من فاصل تاريخي متشابك ومتداخل ومضطرب، كان تمهيداً للحركية الصوفية التي تغلغلت داخل المناخ الفكري المغربي، لأسباب متعددة، وعلى رأسها ما يمكن تسميته بتنازع السلطة، وبشتى أطرافها: سياسياً واجتماعياً وصوفياً. وهذه قضية سنعالج أبعادها لاحقاً. فالذي يهمنا من بقايا العصر السعدي ما خلفه من تراكم معرفي يؤرخ للظاهرة الصوفية في المغرب، وبما قام به في هذا المجال، من تأليف، أو شرح، أو تفسير، أو إضافات، ولو كانت محدودة. إذ: لا تقل مؤلفات علماء المغرب السعدي في التصوف عنها في الفقه والتوحيد، فقد درسوا وشرحوا "صلاة الأنوار" لابن مشيش العلمي، وأحزاب تلميذ أبي الحسن الشاذلي، و"حزب الفلاح"، و"دلائل الخيرات"،... و"حكم" ابن عطاء الله الإسكندريِّ، وقصائد عبد الله الشقراطي التونسي، وابن الفارض المصري... وألفوا كتباً مستقلة في مباحث متنوعة من التصوف، كمراتب الأولياء، وحقيقة القطبانيَّة، وآداب المريد، وأسرار العبادات، وحكم الجهر بالذكر، والسماع والرقص عند التواجد، وما إلى ذلك من أدعية وأوراد...([18]). وقد أورد صاحب "الحركة الفكرية بالمغرب على عهد السعديين" مسرداً بالمصنفات وأعلامها ومؤلفيها في الإحالات المثبتة في هذا الباب، ويقف على رأس القائمة أحمد الصومعي ([19])، وأحمد الفاسي، وعبد الرحمن الفاسي شقيق أبي المحاسن وآخرون، كالشاطبي والياصلوتي. ونقدِّم نموذجاً على عمق الخطاب الصوفي لدى هذا الجيل، هذه الفقرة التي نقتطفها من كلام الشيخ عبد الرحمن الفاسي، الذي شرح "حزب البر"، المعروف ب"الحزب الكبير"، وهو لأبي الحسن الشاذلي: والحاصل أن الإشارة ب"هو" مختصة بأهل الاستغراق والتحقق في الهوية الحقيقية. فلانطباق بحر الأحدية عليهم، وانكشاف خط بحر الوجود الحقيقي لديهم، فقدوا من يشار إليه ب"هو" إلا "هو"، لأن المشار إليه، لما كان واحداً، كانت الإشارة مطلقة، لا تكون إلا إليه، لفقد ما سواه في شعورهم لفنائهم عن الرسوم، والبشرية بالكلية، وغيبتهم عن وجودهم وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية، وذلك غاية في التوحيد والإعظام...([20]). وقد أفاض محمد المهدي الفاسي في ترجمة عبد الرحمن الفاسي الأول، في كتابه "ممتع الأسماع" وينقل شهادات عن شقيقه وشيخه أبي المحاسن المترجم له في "المرآة"، في حقه وفي وصف أحواله: "إنه تولّه، ويكون من جملة المتولهين المغلوبين على أنفسهم المقتطعين عن حسهم"([21]). أما عبد الرحمن الفاسي، فكان يقول متحدثاً عن الكينونة الصوفية التي توحد بين ذاته وذات شيخه أبي المحاسن: "إنه وشيخه أبو المحاسن خُلقا كرةً واحدة من نورٍ، فقسمت بينهما"([22]). ولا شك أن هذا الصوفي، عبد الرحمن الفاسي، قد غرق في بحران التصوف، بعد أن أتقن علوم الظاهر والشريعة. "فطلع له فجر الحقيقة طلوع الفجر المبين، وتحقق بمقامات اليقين، وتفجرت ينابيع المعرفة من قلبه على لسانه تفجر الماء المعين"([23]). ولا ينبغي أن ننسى أن كتاب "مرآة المحاسن" لمحمد العربي الفاسي، قد جمع المادة الصوفية الغزيرة، من أخبار ومكاتبات ومشافهات وأشعار، وبلغة استجمعت أدوات الخطاب الصوفي. وهو وثيقة مرجعية احتفظت لنا بجزء كبير مما يمكن اعتماده في رسم المناخ الصوفي خلال فترة سيمتد تأثيرها إلى العصر العلوي. فصاحب "المرآة" يأتي في سياق تراجمه بأهم المصادر الصوفية التي كانت تقرأ بحضور الشيخ أبي المحاسن([24]). وكتاب "مرآة المحاسن" يبين بجلاء أن التجربة الصوفية في المغرب على عهد العصر السعدي الثاني، قد استوت واكتملت في بنائها الفكري واللغوي؛ وأن صانع "المرآة" بدوره قد استوت الطينة الصوفية بين يديه. وبين يدينا إحدى قصائده التي تصور المناخ المعرفي لفترة ما بعد السعديين([25]). وسنعود إليها، في القسم المخصص للشعر الصوفي في مغرب القرن الحادي عشر (البدايات). أما هنا، فسنكتفي بالوقوف على هذا التسجيل المكتوب والمنقوش في "المرآة"، لأنه يعكس المرحلة الصوفية التي يمر بها كل طارق لباب القوم. ومن ثم، فهي تسجيل أيضاً لنضج الخطاب العرفاني خلال هذه الفترة. يقول محمد العربي الفاسي، صاحب "المرآة": ووجدت فصلاً من كتاب كتبه الشيخ أبو المحاسن لبعض الأكابر في عصره، قال فيه: "كنت في صغري مستغرق الأوقات في تعلم علم الظاهر، حتى حصلت منه ما يسر الله سبحانه وحصل لي به في بلادي صيتٌ عظيم وجاه في الخلق. ثم إن الله تعالى أخذني إليه وغسل من قلبي الأكوان، ولم تقف همتي على شيء دونه، وحبّبني فيه، ورفع همتي إليه، وشغلني به عما سواه، واستوى عندي منه العز والذل، والفقر والغنى، وغير ذلك من الأضداد، فكل ما يفعله بي أستحليه وأتلذذ به. وهذا كله على سبيل الاضطرار لا على سبيل الاختيار، ثم كنس وجودي، وأفناني عن شهودي، لغيبتي في مشهودي، تارةً بكشف صفاته، وتارة بمشاهدة آثار عظمة ذاته، واستوى على باطني أمر الحق تعالى، وتقدس حتى لم يبق هاجس ولا وسواس، وكادت تستولي علي الغيبة عن الإحساس، ثم ردني للوجود، وأبقاني به لبعض مصالح معاده، فأنا مع الخلق بالحق، نشاهد الجمع في بساط الفرق".([26]). ولا شك أن مثل هذه التجربة، في انتقالها من مرحلة علم الظاهر إلى مرحلة عرفان الباطن، تذكرنا بتجارب سابقة في تراثنا الفلسفي الإسلامي. وأبرز هذه التجارب ما صورته مقدمة "المنقذ من الضلال" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، أو عند كلامه عن "طرق الصوفية". وكلا الرجلين قد اغترف من المعين، وغرف من البحران، باضطرار لا باختيار. يقول الغزالي: "ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له..."([27]). وباختصار، فإن "المرآة" هو نموذج من كتب المناقب التي صنفت على العهد السعدي، في مرحلته الثانية. واقتصرنا عليه لما لأهميته، ولما لهذه الأسرة من تأثير في مرحلة لاحقة؛ وإلا فإن كتب المناقب الأخرى على عهده تساويه ولا تقف دونه. وقد أشار إليها الباحث محمد المنوني في حفرياته عن "المصادر المغربية لتاريخ المغرب" ([28]). وهناك كتابان دالان على رسوخ الظاهرة الصوفية في أدبيات هذه المرحلة هما: "شمس القلوب لكل مجذوب" لابن الفقير، محمد بن عبد الرحمن بن يوسف الزروالي الحسني؛ وكتاب "شمس المعرفة في سيرة الغوث المتصوفة" للحفناوي، قاسم بن أحمد بن محمد المراكشي([29]). وإن الأمر ليتداخل هنا بين السابق واللاّحق. ذلك بأن بعض الأعمال الصوفية لهذه الفترة ستكون مادة "منقبية" في كتابات صوفية على العهد الإسماعيلي. والإشارة هنا إلى أبي زيد عبد الرحمن الفاسي، الذي سينبت في تربة عصره "أزهار البستان في مناقب أبي عبد الرحمن"، العارف([30]) (الذي سبق ذكره)، تمييزاً له عن المؤلف الذي أصبح يعرف بسيوطي عصره. والحقيقة أنّ " أزهار البستان" قد أينعت، فسقيت بالينابيع الصوفية، وكان المترجم له "علامة" واضحة المعالم في المحيط الصوفي الذي سبق العصر العلوي، فيكاد يشكل وحده الإطار الفكري للظاهرة الصوفية والتي ستنمو على توالي العهود. فإذا كان الكتاب قد بناه المؤلف على أبواب عشرة، فإن بعضها هو الذي يؤرخ لثقافة العصر الصوفية، وما كان يروج في سوق المعرفة من مصادر " أصولية" في هذا الباب([31])، إضافة إلى ما كان يصدر عن الشيخ العارف من أقوال وشروح وانطباعات وتخريجات تستهدي بنور الحقيقة الصوفية في التأويل وفي التفسير. ------------------------------------------------ ([1]) التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق، 1984، ص. 41. ([2]) المصدر نفسه، ص. 40. ([3]) انظر مقدمة كتاب "التشوف" حول المحاولات التي سبقت كتاب التادلي، ككتاب "المستفاد" وإلى من ينسب؛ وانظر "مؤرخو الشرفاء"، تعريب عبد القادر الخلادي، الرباط، 1977، ص. 152. ([4]) انظر الخريطة التي أعدها محقق "التشوف" أحمد توفيق في آخر الكتاب. ([5]) المقصد الشريف، تحقيق سعيد أعراب، المكتبة الملكية، 1982، ص. 15. ([6]) المصدر نفسه، ص. 16. ([7]) أدب التستاوتي، ج 3، ص. 621. ([8]) المقصد الشريف، ص. 7. ([9]) أحمد الخطيب القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير، بعناية محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965. ([10]) أنس الفقير، المصدر نفسه، صص. 42، 63، 73 74. ([11]) المصدر نفسه. ([12]) المصدر نفسه، ص. 55، صص. 58 59. ([13]) انظر فهرس الفهارس، عبد الحي الكتاني، باعتناء عباس حسن، دار الغرب الإسلامي، ج 1، ص. 348؛ وانظر: مؤرخو الشرفاء، ص. 155. ([14]) من تأليف ابن عاشر الحافي السلوي، سمي المترجم له، والموسوم ب"تحفة الزائر"، تحقيق محمد بوشعرا، منشوارت الخزانة الصبيحية. ([15]) دوحة الناشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار الغرب الإسلامي، ص. 1. ([16]) انظر القسم الثالث منه، ص. 150 (تعريب الخلادي). ([17]) انظر كتاب: التاريخ وأدب المناقب، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، منشورات عكاظ. ([18]) محمد حجي، الحركة الفكرية في المغرب على عهد السعديين، ج 1، ص. 146. ([19]) انظر مؤلفات أحمد بن أبي القاسم الصومعي التادلي في ميدان التصوف من: نشر المثاني، ج 1، ص. 113. ([20]) شرح حزب البر، لعبد الرحمن بن محمد الفاسي، ص. 134، وطبع الكتاب بمصر، بتقديم عبد الحليم محمود، ص. 134. ([21]) محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، تحقيق عبد الحي العمراني وعبد الكريم مراد، صص. 141 142. ([22]) المصدر نفسه. ([23]) مرآة المحاسن، ص. 149. ([24]) المصدر نفسه، ص. 159 (الفصل السابع)، وحديث المؤلف عن دراسته والمصنفات التي قرأها على والده أبي المحاسن. وانظر: عبد العزيز بن عبد الله، »الفكر الصوفي والانتحالية في المغرب«، مجلة البينة عدد 7، سنة 1، ص. 28. وهو بحث مسلسل في ثلاثة أعداد (4، 5، 6). ([25]) والقصيدة من ديوانه، ضمن كناش، مخطوط مصور في ملك الصديق عبد الله المرابط الترغي. والقصيدة معالجة فكرية لمقولات فلسفية. ([26]) المرآة، ص. 24. ([27]) المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا، كامل عياد، ص. 60، 104. ([28]) المصادر العربية لتاريخ المغرب، ج 1، ص. 146. ([29]) المصدر نفسه. ([30]) في: مؤرخو الشرفاء، خلط بينه وبين المجذوب، ص. 187. ([31]) أزهار البستان، م. خ. خ. ع، تطوان، رقم 514، الأبواب التالية: 5، 7، 8، والخاتمة.