” انكسار السّراب ” مجموعة قصصية للقاصة زكية الحداد. تضم سبعين نصاً متناهياً في القصر، من منشورات: رونق / الرّاصد الوطني للنّشر والقراءة. مطبعة سليكي أخوين/ طنجة. المجموعة يضمّها غلاف أنيق، الوجه الأوّل تزينه لوحة غروب على الشّاطي ويتوسطه العنوان بالأحمر، يعلوه اسم القاصّة وفي الأسفل تجنيس المجموعة: قصص قصيرة جداً. وفي عمق الصّورة شبح امرأة تبتعد عن الماء في اتّجاه الشّاطئ. أمّا في ظهر الغلاف امتداد صورة الشّاطئ و قولة استفتحت بها القاصّة مجموعتها: “حين جمعت دفاتري و أحرقتها.. اعتقدت أنّي قتلت كلّ حروفي. حروف خطّها قلمي لأجلك .. ما ظننت دخانها يصافح السّماء. لتصير غيمة فوق خيالاتك الجرداء، وتمطرك بالكلمات. حروف كأحلامي لا تموت.” من خلال هذا التّصدير تُشعر القاصّة بطريقة رمزية/ لغوية..أنّ كلّ كتاباتها السّابقة للآخر، أحرقتها و تخلّصت منها أو هكذا اعتقدت، بيد أنّ دخانها تصاعد إلى السّماء فتكثّف غيوماً من حروف، أمطرت خيالاتها الجرداء بكلمات. فأقرّت أنّ حروفها لا تموت فهي كأحلامها .. إيماناً بالكتابة، وصدقها ودوامها واستمرارها. ومن تمّ كان العنوان “انكسار السّراب” جملة اسمية، مجازية تفيد أنّ شيئاً ما تكسر وتحطّم، فماذا لو كان هذا الشيء هو “السّراب”؟ فلغوياً السّراب: ” ظاهرة طبيعية تُرى كمسطّحات الماء تلصق بالأرض عن بعد، تنشأ عن انكسار الضّوء في طبقات الجو عند اشتداد الحرّ، وتكثر بخاصّة في الصّحراء” (معجم المعاني). فهذا الذي ينشأ عن انكسار الضّوء أصبح هو نفسه يعاني الانكسار. صورة ذهنية، أو تجل رؤيويّ حلميّ، لأنّ واقع الأمر أنّ السّراب ينجلي، وينقشع، ويزول كلّما اقتربنا منه، وعنوان المَجموعة ليس وارداً كعنوان لنص ما، وإن كان هناك نص تحت عنوان “انكسار” ص/7 ونص آخر تحت عنوان “السّراب” ص/59 من حيث عناوين النّصوص السّبعين، فقد جاء أغلبها كلمة مفردة منها ثمانية مُعرّفة: [ الناقد، الحذاء، الأبرياء، الرّهان، الثّمن، الشّاه، العقاب، السّراب] والباقي نكرة. أمّا العناوين المركبة فخمسة: [ رقصة الجمر، رهين المحبسين، نران صديقة، أرض الملح، نساء الملح] وفضلا عن هذا فكلّها اسمية. إذ تحاشت القاصّة العناوين ذات الصّيغة الفعلية. البناء القصصي في مجموعة “انكسار السّراب” من حيث الحجم فنصوص المجموعة قصيرة جداً (توترية) في معدل ثلاثة أسطر إلى أربعة، وقد يتقلص الحجم كثيراً فيصبح في سطر واحد، من جملتين، كما هو الشّأن في نص براءة ص/58 الذي يندرج في إطار الشّذرة: ( أمعن النظر في عينيها. رأى انعكاس صور عشيقاته…) تبدو المجموعة من خلال نصوصها، ثائرة، متمرّدة على المألوف والمعتاد في كتابة القصّة القصيرة جداً. فلا توجد كتابة أفقية متتالية من خلالها يبنى الحدث، وتتَّضح الفكرة، أو تصبح ماثلة للتّأويل والاستنتاج. فالقارئ يُفاجأ بجمل ملغّمة، تكتنز دلالات على غير ما تُظهر، على شكل لوحات أو مشاهد، وكأنّ السّارد كلّما تجاوز الفاصلة رفع مشهداُ للقراءة الذّهنية. لأنّ الجمل أحياناً تغرق في انزياح Ecart، لا يمكن إدراك وفهم دلالتها إلا ذهنياً أو خيالياُ.. كالذي نجده مثلا في ” رقصة الجمر” ص/5 “ألقى عود كبريت على خشبها الجاف، تصاعد خيط دخان، برقت عيناه بوجبة شواء.. لملمت فحمها في كيس وعادت لتحتفل بانتصار أنوثتها المقبورة.” نلاحظ الاحتفاء بالجمل الفعلية، وهي خاصية تعمّ جميع النّصوص: [ألقى.. تصاعد.. برقت.. لملمت.. عادت ..] كما نلاحظ ما يشبه استقلالية الجمل من حيث الدّلالة و المعنى و كأنّها غير مرتبطة بنسق عضويّ يحقق التّسلسل المَفهوميّ، أو المنطق الاتّجاهي.. ما يجعل المُتلقي يراها في صورة انفصال Disjonction الشّيء الذي دعانا أن نشبهها بلوحات تصويرية ، وبخاصّة مع انعدام أدوات الرّبط، وإن كان هذا من خصائص الكتابة الومضية: [ألقى عود كبريت على خشبها الجاف]،[تصاعد خيط دخان ]، [ برقت عيناه بوجبة شواء]، [لملمت فحمها في كيس ]، [عادت لتحتفل بانتصار أنوثتها المقبورة ] . فالنّص لا ينبغي أن يُقرأ أفقياً، أو سطحياً كما اتّفق. لأنّ كتابته المجازية/الاستعارية ، تحمل على التّأويل، ما دام كلّ جملة حاملة لعامل فاعل Actant بل كلّ جملة بدلالتها وتركيبها تحقّق مقطعاً Séquence ولكن في النّهاية هناك خيط رابط كالحبل السّريّ يجعل الوصلة أو الاتّصال ممكناً، وهذا رهين بنوعية القراءة والقارئ أيضاً. كما أنّ القاصّة لم تعتمد هذا الأسلوب في كلّ النّصوص، بل كانت تراوح بين هذا وبين التّرابط والتّسلسل الاعتيادي كما هو الشّأن في نص “نزوة ” ص/14 كما تثير جمالية القفلة انتباه القارئ، في نصوص مختلفة من المجموعة. ففي نص ” خيبة” ص/26 ظلّت البطلة لوقت استغرق النّهار لتنهي عملها وسط أكوام من الورق. ثمّ غادرت مسرعة إلى بيتها، حيث تنتظرها مهام أخرى.. وهي تُسرع الخطى لاحظت أنّ خطى أخرى تسرع وراءها، و كأنّها تحاول اللّحاق بها، ما شكّل لديها لا ريب هاجساً من الخوف، و بخاصّة بعد انتشارعملية سرقة النّساء، والتّحرش بهن.. و لكن فجأة انتْهى إليها سماع اسمها ، ما جعلها تلتفت. و إذا بزميلها في العمل يلوح بسلسلة مفاتيحها ، التي كانت قد نَسيتها. كما نلاحظ جمال تصوير الحدث ، دون مباشرة أو تقرير.. كالذي نجده في نص : ” شرَه” ص/28 ” استنزف خيراتها حتّى لاحت بوادر الخريف.رحل إلى ربيع آخر. مخلفاً وراءه خراباً و فزّاعة .” في أربعة عشر كلمة ، و أربع جمل ، لخّصت القصّةُ حياةً زوجية، انْبنت أساساً على الخديعة و عدم الوفاء، و لعب فيها العمر، مرحلة جذب واستغلال، و مرحلة نفور ورحيل. و لنتأمل فنّية التّصوير: ● الزّوجة في بداية الشّباب ← استنزف خيراتها. ● الزّوجة أواخر العمر ← لاحت بوادر الخريف . ● نتيجة عدم الوفاء ← رحل إلى ربيع آخر . ● أثر الرحيل وعدم الوفاء ← مخلفاً وراءه خراباً و فزّاعة . و قد ننتهي إلى ملاحظة عامّة في كلّ النّصوص. ذلك أنّ الشّخصيات كلّها ضمائر، فلا اسم يميز، ولا صفة تحدّد المَلامح، إلا قليلا كما هو في نص “هدية” ص/13 أمّا في أغلب النّصوص، تبدو الشّخصيات مجرّدة. كما هو في النّص أعلاه فقط [ هو ] ألقى..و[ هي ] لمْلمت.. وإن كنت أجد هذا من خصائص المسار الحداثي في هذا الجنس الذي يهتم بالإيجاز والاختزال، والتّكثيف اللّغوي، وفسح المجال للتّخييل، وإشراك المتلقي في الكتابة الذّهنية .. إلاّ أنّي أرى و من باب سرد النّص، وشعريته، وبنائه، ومراعاة لنوعيته ..لا بأس بِما يفيدُ الفكرة، ويدعمُ الحدث، ويقوي نسيج الحكي من وصف، وصفات مقتضبة. تحقّق بعض التّجانس، والمُلاءمة الخاصّة، والانسجام الأسلوبي ..كما هو في نص “هدية” ص/13 وفي أغلب نصوص مجموعة ” انكسار السّراب”، تستوقف القارئ بعض الإشارات الإيمائيةgesticulation التي تُبعدُ النّص عن المباشرة والتّقريرية، وتسمح بالقراءة الموازية، لما وراء اللّغة، بل بقراءات متعدّدة كما هو في نص “اعتداد” ص/ 12 والذي يتضمّن سخرية قاسية، لما آل إليه الوضع الثّقافي، بل الرّؤية الثّقافية حتّى بين المثقفين أنفسهم: ” سلّم مجموعتها القصصية إلى بائع التّرمس على ناصية حارتها.. اشترت زادها منه. أكلته، ولفّتِ القشور في مُقدمة كتابه النّقدي”. فلا النّاقد احترم الإبداع، ولا المبدعة وجدت في النّقد ما يَستحق الاحترام. وقُطبا المعادلة: الإبداع والنّقد أهينا، وازدري بهما. فحقّق النّص بذلك نقداً لاذعاً لوضع ثقافي مهترئ وذلك بمسحة بارودية، parodie قد تنطلي على قطاعات شتّى في مجال تأويلٍ موسّع. ومن مزايا مجموعة “انكسار السّراب” للقاصّة زكية الحداد أيضاً، أنّ أغلب النّصوص، تترك مساحة لذهنية المتلقي، وتأمّلاته، وتساؤلاته.. وذلك يعود لتقنيتي: الحذف والإضمار تارة، وتارة أخرى، لجودة الصّياغة، وملء الدّلالة، وسعة التّخييل. بعيداً عن التّقريرية. فالمتلقي ليس مُستهلكاً فحسب، بل مُنتجاً أيضاً، في تعامله مع نصوص المجموعة، إذ يجد نفسه أمام حيرة السّؤال، وبياض الفراغ، وكثرة نقط الحذف، والجمل التي تحتاج إلى جمل لنتأمل نصّ “ديكتاتور”ص/52 ” أدى رسالته بأمانة… استلم بلاغ تقاعده، و عاد به إلى البيت. يزفّ لها الخبر السّعيد … بكت بحرقة على مساحة حريتها و هي تضيق أكثر فأكثر…” تبدو المفارقة غريبة بين الزّوجين! الزّوج عاد سعيداً، وقد تسلّم بلاغ تقاعده.. بعد سنوات من الكدّ والعمل الدّؤوب، أضنته، وأخذت من أيّامه، وصحّته، وشبابه، الشيء الكثير .. فابتهج للرّاحة، والتّفرّغ لبيته، وشؤونه الخاصّة التي طالما أجّلها بسبب العمل. وبالمُقابل تلقّت الزّوجة الخبر بحزن وتعاسة، لدرجة البكاء .. لا لأنّ الزّوج تقاعد عن العمل، ولكن لأنّه سيمكث معها في البيت، ويتدخل بفضول في كلّ شيء، ويتحكّم في أمور كثيرة، كانت تحت إمرتها، وتصرّفها، وفي ذلك تقليص لحريتها التي ألفتها منذ سنوات طويلة. طبعاً النّص لم يقل كلّ هذا. ولكن المُتلقي، سيستنبط من تلافيف النّص أشياء لم تذكر بوضوح وصراحة. ومن حيث الأفكار، فقد تجرّأت مجموعة ” انكسار السّراب” أن تكسّر الصّمت حول بعض المَسكوت عنه le non dit بعض الطابوهات، التي ظلّ الحديث في شأنها من المحرّمات، لدواعي العادات والتّقاليد، وصرامة المجتمع المحافظ، ومن ذلك زِنى المحارم، وقد عبّرت عنه قصّة ” ورم” ص/24 “اقتلعها بُرعماً من حضن والدتها عناداً وجوراً.. وغرسها في حجر مدلل جدها المراهق.. أقام الدّنيا عليها ولم يقعدها مع بزوغ الثّّمرة المحرمة للنّسب العريق”. فالجدّ الذي يُفترض أن يكون ملجأ الأمان والحبّ والحنان..أصبح الآثم المُعتدي، وأصبحت حفيدته حُبلى منه. وهي صورة من صور عدّة يُتَستَّر عنها، وتُطمس معالمها في إطار من التّكتم والسّرية.. خوفاً من الفضيحة والعار.. ويتكرّر هذا في نصي «خيانة” ص/32 و”إثارة ” مع اختلاف المواضيع، والصّورة السّردية، وكذلك ” لعنة ” ص/36 الذي يلمّح للخيانة الزّوجية، والإصابة بالزّهري. ونص “توبة ” ص/37 و يتعلّق الأمر بالزّنى.. كما أنّ موضوع عدم الوفاء، والغدر، استقطب اهتمام القاصّة بشكل لافت في عدّة نصوص منها:ضمير ص/38، حيث يكون البذل، و العطاء، و التّفاني..إلى أقصى حدّ.و يكون الجزاء نكراناً باسم الضّمير. ونص “جذور”ص/39 حيث لجأت القاصّة إلى صيغة التّشبيه و شبّهت البطلة المعطاء الطيبة كشجرة كستناء وارفة الظّلال ، يَستظل بأغصانها الآخرون ، إلى أن نما بجوارها لبلاب سام ، فحوّل المستظلين أعداء يكره بعضهم بعضاً ، فعبثوا بالأغصان التي كانت تظلهم، فأصبحوا ملتحفين العَراء.ونص”خريف” ص/40 وفيه أيضاً تشبيه للبطلة بالشّجرة التي أتاها مشرداً شتاءً فاحتمى بها.. رابضاُ إلى جانبها.. فأنعمت عليه بربيعها الزّاهي، و من غلال صيفها، و في نهاية المطاف استبدَلها بِبرعم تفتّح لتوّه، و تركها ورقة في مهبّ الرّيح .. ونص”ثعبان” ص/41 الذي يجسد استعادة صورة التّنكر و الغدر.. التي كلّما اسْتعيدَت بمرأى ومُشاهدة وجه الآخر، تثير في نفسها التَّقزّز والرّغبة في القيء، من شدّة الإحساس بالمَرارة و الألم. وتوالت مواضيع شتّى، في نصوص مختلفة، كالإدْمان في نص “عدوى” والشّره والاستغلال في نص” الشّاه” والرّغبة و الشّهوة في ” فاكهة”، و”حالمة ” والأرملة، وذكرى الزّوج في نص “مرافقة”، المعاناة من المرض العضال في نص”انغماس” التّحرش والشّذوذ في نص “شذوذ”. نخلص إلى أنّ مجموعة “انكسار السّراب” اعتمدت النّص القصير جداً، بفضل الإيجاز والحذف والإضمار، كما اعتمدت الجملة الفعلية، التي أحياناً تستقل على ما يليها فيبدو النّص في شكل لوحات معبّرة، كما أنّ النّصوص حافظت على ميزة الإدهاش والمُفاجأة فيما يخصُّ القفلة، وحسن تصوير الحدث، ما أثرى النّصوص بأدبية و تَخييل في معظمها. أمّا الشّخصيات، وكما هو متعارف عليه في هذا الجنس، جاءت على شكل ضمائر، تكاد تكون مجرّدة مما يُميّزها كوصف، وخصائص، ممّا جعلها علامات إيمائية، قابلة للتّأويل. وكلّ هذا كان لخدمة مواضيع مختلفة، في إطار صبغة اجتماعية، تشكّل صوراً لما هو يوميّ ومعيش. فالمجموعة من كلّ هذا، تعلن عن نفسها كمجموعة قصصية لقاصّة واعدة، متمكّنة من لغتها القصصية، ومبدعة في طرحها لقضايا متنوعة، في إطار فنّي قصصي هادف.