شكل موضوع صياغة رؤى للعمل الثقافي العربي محور الملتقى الذي نظمته على مدى يومين بالدار البيضاء، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بشراكة مع وزارة الثقافة المغربية. في الجلسة الافتتاحية، دعا المدير العام للمنظمة سعود الحربي إلى أن الضرورة باتت ملحة لإعادة صياغة ثقافية عربية جديدة في ظل غياب التوازن في المواقف واختلاف زوايا الرؤية التي تطبع مشهدنا الثقافي، مذكرا بأن الهدف من هذا الملتقى هو إنجاز أعمال تشاركية بين الحكومات والمجتمع المدني، يكون مرتكزها الأساسي هو الإيمان بقيمة الإنسان بعيدا عن التقسيمات الطائفية والدينية والعرقية، وإبراز قدرات الأمة العربية والاعتزاز بالعروبة مع الانفتاح على الآخر. وأنه لأجل بلوغ هذا المبتغى، لا بد من الإيمان بأهمية الثقافة وبأنها حق من حقوق الإنسان. وجاء في كلمة وزارة الثقافة التي ألقاها كاتبها العام محمد القاسمي، أن تنظيم هذا الملتقى يعبر عن الانخراط في العمل العربي المشترك، مذكرا بأهمية الثقافة باعتبارها قاطرة للتنمية الشاملة وآلية أساسية لتعزيز الروابط بين الأفراد والشعوب، وأن الدستور المغربي الأخير، أولى الثقافة مكانة لائقة، بتنوعها وتعددها في ظل الوحدة الوطنية. واعتبر الكاتب العام للوزارة أن الظروف الصعبة التي تمر منها حاليا الدول العربية، بات يستدعي التعجيل باتخاذ تدابير لتوفير شروط السلام والأمان. كما لم يفت المتدخل أن يذكر بأهمية هذا الملتقى في ما يخص حماية اللغة العربية والحفاظ على التراث العربي والإسلامي وتعزيز التعاون العربي القائم على أسس الحوار والتعايش. وأن كل هذا يتطلب وضع خارطة طريق للعمل الثقافي العربي المشترك. وتناولت مداخلة المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم التي ألقاها بالنيابة عنه الأستاذ عبد الإله بن عرفة، أن القضية الثقافية بكل تشعباتها تستوجب العناية السياسية على أعلى المستويات، وبالتالي فإن بحث قضاياها والتخطيط للارتقاء بها يستدعي أن تطرح في قمة عربية وإسلامية، باعتبار الثقافة العربية مرتكز الثقافة في العالم الإسلامي. وتم في هذه المداخلة التعبير عن الأسف على تراجع الاهتمام بالثقافة في السياسات العمومية، وهو ما سيكون له تأثيرات سلبية على الوعي الثقافي العام وعلى تحديث المجتمعات وتطويرها والنهوض بها في كافة الميادين. وبالتالي من الضروري أن تتصدر جدول الأعمال للحكومات باعتبارها قطاعا استراتيجيا. وتم التشديد على أهمية عقد قمة عربية ثقافية تمهد لانطلاقة ثقافية نهضوية، تعيد للثقافة قيمتها التي سلبت منها وتعزز تأثيرها الفاعل على الحياة العامة. وتأسيسا على ذلك، فإن صياغة رؤى متطورة للعمل الثقافي العربي، تتوقف على مدى الوعي بالأدوار التي تنهض بها الثقافة في تطوير المجتمعات، وفي الحفاظ على الهوية الوطنية، وفي اكتساب المناعة لحماية الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية. وجاء في كلمة الأستاذ هنري العويط، بصفته ممثلا لمؤسسة الفكر العربي، أن عقد قمة ثقافية عربية، يعد أمرا ملحا لصياغة رؤية مستقبلية، بالنظر إلى أن الثقافة تعد فضاء لاحتضان غنى تعددنا ولاستقطاب مشاريع مشتركة، في مواجهة مظاهر التطرف والتكفير والانغلاق والإرهاب وكافة الانحرافات، نحو بناء الاستقرار وترسيخ قيم السلام والتسامح والتعايش والاعتدال. وأنه لأجل تحقيق هذه الأهداف، يتعين على أصحاب القرار بلورة التزام لدعم العمل الثقافي العربي المشترك، وإعداد قائمة للمشاريع الثقافية القابلة للتنفيذ. وتناولت مداخلة المنسق العام لهذا الملتقى مراد الريفي، تحت عنوان «العمل الثقافي العربي في عالم متغير»، التطور الذي طرأ على البنيات الثقافية، من حيث تغير علاقة الإنسان بالمجال الترابي نتيجة العولمة، فالعلاقات الإنسانية صارت تبنى على مساحات افتراضية، وهو ما يتطلب تحديد المفاهيم، وإعادة تشكيل علاقات اجتماعية وفق شبكة خرائطية جديدة. فالثقافة العربية إنتاج حضاري منبثق من الجماعات وطرائق عيشها وتمثلها للعالم من حولها، وأن هناك سمات روحية ومادية مشتركة بين الشعوب العربية، وبالتالي لا ينبغي تحويل الخصوصية الثقافية إلى ذريعة للتقوقع على الذات ورفض الآخر. وأبرز المتدخل كذلك أن مهمة العمل الثقافي هو إبراز المشترك بين الشعوب وتقوية الجبهة الحضارية، مع الأخذ بعين الاعتبار تجديد رؤية العمل والتفاعل مع المتغيرات الجارفة. أمام هذه التحولات – يضيف المتدخل- أضحت للثقافة أدوار جديدة، تقوم على أساس تحقيق الانسجام الاجتماعي وتحصين الهوية الوطنية. وهو ما يستدعي خلق سوق ثقافية عربية وتسهيل ترويج هذا المنتوج بمضامينه العربية. العلاقات الثقافية العربية البينية والتثاقف العربي – العالمي: وتمحورت عروض الجلسة الفكرية الأولى حول العلاقات الثقافية العربية البينية والتثاقف العربي – العالمي، وفي تأطيره لهذه الجلسة، ذكر الأستاذ أحمد عيدون أن الحديث عن الثقافة في عصرنا الحالي يكاد لا ينفصل عن وسائل إنتاجها وطرق ترويجها وقد طالها المنطق الصناعي كما طال معظم مجالات النشاط الإنساني، وحتى تستطيع المنطقة العربية مواكبة الحركة الثقافية والفنية المعاصرة، يجب الاهتمام بالصناعات الثقافية والإبداعية، لأن النشاط في هذا المجال يسهم لدى العديد من الدول ليس فقط في إعادة تأهيل القطاع الثقافي، بل كذلك في إعطاء دفعة لدينامية الاقتصاد خصوصا عبر ثورة المعلومات وعبر المدن المبدعة والذكية. وتطرق الأستاذ عثمان الغامدي في مداخلته إلى سبل تعزيز إنتاج المحتوى الثقافي العربي في الدول العربية، مذكرا بأن الشبكة المعلوماتية شكلت ثورة كبيرة في عالم المعرفة والتقنية والاتصال، حيث دخلت في كل تفاصيل الحياة البشرية، لكن مع ذلك لا يشكل المحتوى الرقمي العربي إلا نسبة ضئيلة من المحتوى الرقمي العالمي، وهو ما لا يعكس ما لدى الدول العربية من ثقافة واسعة وتراث ممتدة جذوره في عمق التاريخ. واعتبر أنه بالرغم من وجود مبادرات في بعض الدول العربية، فإن المحتوى الرقمي العربي، بشكل عام، يشكو من القصور والضعف، نتيجة لممارسات غير منظمة، وجهود متفرقة بعيدا عن التخطيط الاستراتيجي والتعاون والتنسيق العربيين. ويرى المتدخل أن من أهم سبل تعزيز المحتوى الرقمي العربي، هو الاهتمام والتركيز على جودة ذلك المحتوى، من حيث اللغة ووفرة البيانات ووضع تشريعات لحماية الملكية الفكرية، إلى غير ذلك، بشكل يسمح له بأن ينافس المحتوى الرقمي العالمي، خاصة وأن الشباب يمثلون نسبة عالية في المجتمع العربي، فاستهدافهم وتشجيعهم على الابتكار، كفيل بأن يوفر لنا محتوى يلبي الحاجة العربية المعاصرة، ويؤهلنا للمنافسة في الفضاء الرقمي، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على مجتمعاتنا. وبحث الأستاذ فيصل طالب في سبل استثمار المحتوى الرقمي في فضاء التبادل الثقافي بين الوطن العربي والعالم، مذكرا بأن التفاعل مع الثورة الإلكترونية، يفرض إعادة صياغة منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية داخل مجتمعاتنا، بحيث تسهم هذه الثورة في إنشاء صناعة ثقافية ذات جدوى اقتصادية وإعادة تشكيل الشخصية الثقافية العربية دون ازدواج في الفكر والانتماء. وخلص المتدخل إلى أن الوعي بأهمية التفاعل مع عصر المعلومات، باعتبارنا منتجين لا مستهلكين فقط، يشكل ركيزة أساسية لاقتصاد المعرفة في سبيل التنمية المستدامة في مجتمعاتنا. وتركزت مداخلة الأستاذ محمد بهضوض على دور السياحة الثقافية في تعزيز العلاقات العربية – العربية والعربية العالمية. مذكرا بأن السياحة الثقافية شهدت في السنين الأخيرة، تحولات كبرى جعلتها تتحول من مجرد التنقل من مكان إلى آخر، إلى صناعة قائمة الذات. وأن العديد من الدول العربية بنت خططها التنموية على ازدهار السياحة، وهو ما مكنها من تحقيق تقدم، غير أن هذا التقدم يظل محدودا بالنظر إلى محدودية تدفق السياح الذين زاروا المنطقة العربية، وكذا تفاوت هذا التدفق بين دولة عربية وأخرى. وتطرق الأستاذ نزار بن سعد، إلى موضوع التبادل الثقافي بين الدول العربية، باعتباره أهم قنوات التقارب والتعارف وأداة فاعلة للارتقاء بالمستويات المعرفية والفكرية لشعوب هذه الدول. وتحدث عن إسهامات بلده تونس في تعزيز هذا التعاون، من خلال المشاركة والحضور الفاعل في مختلف التظاهرات التي تحتضنها البلدان العربية، وإبرام اتفاقيات مع هذه البلدان، والحرص على تنفيذ بنودها وتحيينها وتسخير الإمكانيات التي تتطلب إنجازها. وتناولت مداخلة رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد التي تلاها نيابة عنه الناشر بسام الكردي، صناعة النشر باعتبارها إحدى الصناعات الثقافية ودورها في تعزيز التواصل الثقافي العربي، مذكرا بأن التحديات التي تواجه صناعة النشر العربي كثيرة متشعبة، وأن إيجاد حلول لقضاياها رهين بالتعاون الوثيق بين الحكومات العربية مع اتحاد الناشرين العرب. وأنه لأجل تفعيل دور الصناعات الثقافية العربية في التواصل والتعاون الثقافي العربي، لا بد من اعتماد اتحاد الناشرين العرب الممثل الرسمي للناشرين العرب، وتطبيق اتفاقية تيسير انتقال الإنتاج الثقافي، وتوفير حرية التعبير ووضع برامج قومية لتشجيع القراءة، والتوسع في إنشاء المكتبات العامة. السياسات الثقافية العربية في ضوء التحديات الراهنة: تمحورت عروض الجلسة الفكرية الثانية حول «السياسات الثقافية العربية في ضوء التحديات الراهنة». وتطرقت مداخلة الأستاذ عبد الإله بنعرفة إلى طبيعة السياسة الثقافية التي يجب أن تعتمدها المدينة العربية الخلاقة، وحددها في أربعة عناصر: مشروع ثقافي متين، وتصميم معماري متميز، وتخطيط حضري مندمج، ومشروع سياحي ملائم، معتبرا أن العنصر الأول يعد القاطرة التي ترسم معالم سياسة المدن الخلاقة ضمن استراتيجية حضرية وحكامة ترابية تحقق التنمية المستدامة، مع الأخذ بعين الاعتبار القيام باستشارة واسعة مع كل الفاعلين: سلطات محلية ومركزية ومجتمع مدني وعامة المواطنين، بحيث يشارك الجميع في رسم معالم السياسة الثقافية للمدينة، وتسير هذه السياسة في اتجاهين متكاملين: إعادة الاعتبار للموروث الثقافي، واعتماد تدبير ثقافي للمدينة يحافظ على حقوق الأجيال المقبلة في امتلاك رأسمال ثقافي. وتوقف الأستاذ الصادقي مجتبي عند ملامح الخطة الشاملة للثقافة العربية، التي تبرز من خلال اكتشاف الذات العربية والارتكاز على إرثنا الحضاري، مع العمل على تحديث مضامين الفكر العربي القديم. وربط العمل الثقافي بالهوية العربية لتحصينها ضد المؤثرات الخارجية التي تستهدف تدميرها، فضلا عن إتاحة الفكر الديمقراطي. وانصبت مداخلة الأستاذ مازن الشريف على السياسة الثقافية العربية التي ينبغي اعتمادها في مواجهة التطرف الذي وجد ضالته في مكمنين: ثورة تكنولوجية، وترهل الخطاب الديني، وهو ما يتطلب تنفيذ مشاريع ثقافية مضادة، وشدد في هذا الإطار على ضرورة الإنصات إلى الشباب واستقطابهم لثقافة الحياة ومحبة السلام والتعايش. وتطرق الأستاذ غسان سليمان إلى دور المجتمع المدني في النهوض بالثقافة في الدول العربية، متخذا بلده الأردن نموذجا، حيث جاء الدستور منسجما مع مبادئ الحرية والعدالة واحترام التعددية، وهو ما عزز الأشكال التعبيرية ومكن الأفراد والجماعات من التعبير عن أفكارها وقيمها وتبادلها مع الآخرين التفاعل مع المستجدات التكنولوجية لخدمة الفعل الثقافي، والاستفادة من اتفاقيات التبادل الثقافي مع الدول العربية. وتركزت مداخلة الأستاذ أسامة عبد الوارث على التأكيد على دور التراث الثقافي المادي وغير المادي في خدمة التنمية المستدامة، وهو ما يتطلب متاحف ذات هيكل أكبر وأوضح مما هو موجود حاليا، يتلاءم مع حضارة المجتمع ومواكبة الاحتياجات الحضارية والاجتماعية، وعيا بأن المتاحف ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي مصدر للترقي. نحو استراتيجية لحماية اللغة العربية وتوسيع مجالات استخدامها وانتشارها: في محور خاص بحماية اللغة العربية وتوسيع مجالات استخدامها وانتشارها، تركزت مداخلة الأستاذ فؤاد أبو علي على دور المجتمع المدني في النهوض باللغة العربية، مذكرا بأنه أحد مظاهر الديمقراطية الحديثة، وأنه يشمل مختلف الجهود والأعمال الصادرة عن أفراد وهيئات ومؤسسات يتسم عملها بخاصية التطوع والتضامن والاستقلالية عن الدولة. واعتبر قضية اللغة جانبا بارزا من قضايا المجتمع، باعتبار أنها ترتبط بقضايا تطور الأمم وإنتاجها المعرفي في علاقته بعجلة الاقتصاد والتنمية، مذكرا بتضاعف معاناة اللغة العربية بسبب عدد من الالتباسات التي خلقتها تراكمات امتدت من الاستقلال إلى يومنا هذا، وهو ما سمح لسيادة اللغات الأجنبية في القطاعات الحيوية، إضافة إلى محاولات فرض اللهجات في غير مجالها الوظيفي. وراهن المتدخل على أن المجتمع بإمكانه أن يلعب دوره في تغيير هذا الوضع غير الطبيعي، ليس فقط عن طريق صناعة الوعي به، بل كذلك عبر فرض قرارات لإعادة الاعتبار لهذه اللغة على مستوى التخطيط والممارسة والترافع. وانصبت مداخلة الأستاذ محمد بن سالم على المجتمع المدني الخليجي ودوره في التمكين للغة العربية، فبعد أن ذكر التحولات التي حدثت في هذه المنطقة نتيجة التنمية وتأثيرات ذلك على الوضع اللغوي، قدم مجموعة من المقترحات للتمكين للغة العربية من خلال طرح مبادرات ومشاريع يقوم بها المجتمع المدني الخليجي، اعتمادا على استغلال طاقات الشباب والأعضاء الفاعلين في مؤسسات المجتمع المدني وإنشاء جمعيات لترسيخ اللغة العربية بالداخل بين الجاليات العمالية والسعي لدعم انتشارها بالخارج بين الأقليات المسلمة والراغبين في تعلم العربية والمهتمين بالإسلام وحضارته.