ما من شك أن المغرب، وعلى غرار كل الدول التي خضعت للاستعمار الأجنبي في الوطن العربي، كان يريد أن يبني دولة قوية بعد استنزاف ممنهج لمختلف موارده خلال الفترة الامبريالية، وذلك من خلال تنظيم إداري يعتمد على مؤسسات قادرة على النهوض بتنمية الأرض والبشر، اعتمادا على فلسفة تروم بالأساس دعم القدرات الذاتية وتشجيعها على الانخراط في مشروع مجتمعي يؤمن بكسر كل الحواجز والأوهام الثقافية والمادية التي حاول المستعمر استنباتها على أرض المغرب، بالرغم من أن العديد من المحاولات في هذا الشأن أصبحت تفرض ذاتها كواقع معاش لا محيد عنه، لا سيما أن التعليم الذي اعتبر معاصرا حينئذ، وتم تلقينه للأجيال في تلك المرحلة كان قد بدأ يعطي ثماره، مما زاد من تعقيد مسألة مغربة البرامج المعتمدة على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال. وتعتبر مسألة التنظيم الإداري إحدى أهم الركائز التي جسدت هذا التأثر الذي بات يرهن الواقع المؤسساتي المغربي منذ فجر الاستقلال. وتدخل مسألة اللا مركزية تحديدا ضمن أهم المنعطفات الأساسية التي شدت انتباهنا بخصوص تنظيم مغرب ما بعد سنة 1956، تاريخ حصول المغرب على استقلاله. إننا وكباقي المتتبعين، نعي تمام الوعي الصعوبة المنهجية الكامنة في إعادة التأسيس لاختيار الدولة المغربية لنموذجها الإداري، ولاستمرار حضور النموذج الفرنسي في العديد من تفاصيل الإدارة المحلية التي يتفهم الدارس المختص إرهاصاتها الأولى، ويتجاوزها إلى تفكيك نتائجها كواقع. وهو ما يستفز إدراكنا له من خلال حقل علم السياسة الذي يضطرنا لاحتضان جزء بسيط من الظواهر المؤطرة لهذا الامتداد التنظيمي في حياة الإدارة المغربية عموما، وجانبها اللا ممركز بالتحديد، بالرغم كذلك من مجموع القطائع التي تفرض ذاتها علينا ونحن نسائل هذه اللامركزية وما أفرزته خلال أزيد من نصف قرن. لذلك اخترنا المدن التي وحدت الدولة مجالسها نهاية التسعينيات، متجاوزة بذلك نمط التسيير السابق المعتمد على مجالس المقاطعات التي كانت كل واحدة منها تسير جزءا من تراب المدينة. لكن ما يهمنا في هذه التجربة، هي علاقة الوصاية الممارسة من طرف الدولة التي وجهت عمل الجماعات المحلية عموما، ومجالس المدن كجماعات حضرية على وجه الخصوص، من خلال اقتراح أساليب تدبيرية مستحدثة، كان أقواها تأثيرا قانون التدبير المفوض كتقنية ساهمت في السماح لشركات اقتصادية عالمية بتدبير أهم المرافق العمومية المحلية المحددة لملامح مدننا الكبيرة. وإذا كنا ننأى بأنفسنا بتحفظ عن الخوض في كل ما هو إيجابي في التجربة التي تحتاج إلى تقييم وطني عام وشامل، وهو ما لم يتم إلى حدود الساعة. فإننا نعتقد أن ذلك لا يعفي من اعتبار هذا الوجه المعولم في تدبير مدننا مدعاة حقيقية لإعادة التنبيه إلى الإشكالات الموضوعية الشائكة التي يطرحها هذا الموضوع، لاسيما أن الدولة المغربية، بانخراطها في مسلسل تحديث التسيير الإداري من هذا المنطلق قد جعلت من هذه التجربة قيمة في حد ذاتها، على حساب جوهرها السيادي والاستراتيجي الذي كان ولازال يجب أن يتأسس على قيم دعم القدرات الذاتية وخلق نموذج أصيل للتدبير يحترم خصوصيات الإنسان المغربي وقدرته على إبداع وخلق مسالكه الخاصة في التنمية والتحضر، وعلما كذلك أن قرار توحيد مجالس المدن، باعتماده تجارب الشركات الأجنبية في التدبير بدل استغلاله لعقول وسواعد أبناء الوطن في خلق نموذجه الخاص به، يضرب في العمق مبدأ توسيع قاعدة المشاركة السياسية التي تتأسس عليها عملية التدبير اللامركزية ذاتها، ويفرمل المجهود الذاتي في خلق تنمية كفيلة بخلق أرباح تتقاسمها المجالات الترابية من أجل بناء المشروع المجتمعي التعاقدي وتطويره، بدل نسف الطموح المشروع في بناء قيم منبثقة من قناعات المجتمع، وتكريس صيغ معقدة من التبعية الاقتصادية والسياسية المنتجة للانكسار المؤدي إلى المزيد من التشتت والتشرذم اللذين عانت منهما ولا تزال جل الأوطان العربية التي توزعتها النوائب والمصائب في نماذجها الإدارية والاقتصادية والسياسية، كما في المجالات الأخرى بكل تلويناتها. نأمل من خلال إعادة تناولنا لهذا الموضوع أن نفلح ولو بشكل نسبي في إثارة انتباه الفاعل الاستراتيجي والمواطن على حد سواء، من التفكير في البدائل التي يمكن أن يتيحها التدبير المعتمد على القدرات الذاتية، لاسيما أن فكرة قبول المجتمع لتدبير مرافقه الحيوية بواسطة أطراف خارجية أضحت فكرة مبتذلة، لا يقبلها لا التفكير السليم ولا المعطى المرتبط بالثقافة السياسية التي تؤطرها مجالات المعتقد والتراث بشكل أضحى يرتبط بتجربة الإسلاميين الحكومية في أكثر من قطر عربي. وفي الوقت ذاته تعيد استحضار التجارب السابقة التي دشنتها الجماعات الحضرية عن طريق الوكالات الحضرية التي تم استحداثها في السابق كمؤسسة محلية رائدة لم تخضع لأي محاولات جادة من أجل تطويرها من طرف الدولة. إننا لا ندافع عن تجربة بعينها بقدر ما نعبر عن نبذنا للطرح القائل بتطوير أداء الخدمات بغض النظر عن آثار ذلك على سلوك المجتمع الذي يفترض أن ينبني على مواطنة حقيقية تحفظ حقوقه، وتشركه في صناعة المصير الذي يجب أن يرتبط بالخصوصية الحضارية والتحديثية التي تنتصر لمبدأ التشارك وكل المقاربات التي ما فتئت تنادي بها الدولة في سياساتها العمومية. تمهيد: لا شك أن قضية المواطنة كانت ولا زالت تشكل موضوعا ذو راهنية كبيرة، إذ لا يمكن الحديث عن السياسة في المجتمعات الحديثة دون إثارة مسألة المواطنة، لأنها تبقى غاية ووسيلة في نفس الوقت لتحقيق حد أدنى من الديمقراطية التي ينشدها المغرب. وبهذا المعنى يعتبر نظام وحدة المدينة الذي بدأ العمل به أواخر التسعينات بالمغرب، قرارا سياسيا داخليا أعاد طرح مسألة المواطنة في ارتباطها بالسيادة المعنوية من جديد، كما ساءل واقع تدبير المدينة على أكثر من مستوى، وذلك لسببين اثنين، أولهما يرتبط بما هو سياسي من خلال إعادة التأكيد على دور صناديق الاقتراع في فرز نخبة محلية تتحكم في مجالس المدن كصيغة تم اعتمادها على مستوى المدن الكبرى بدل نظام البلديات الذي كان يعمل به المغرب في الستينيات كإرث فرنسي واسباني بالتحديد. وثانيهما على مستوى التنظيم الإداري والاقتصادي، بحيث وضع المشرع آليات قانونية جديدة ساعدت على فتح المجال أمام فاعلين اقتصاديين جدد، تقاسموا الأرباح مع هذه المدن،دون أن يفلحوا في ترسيخ تقليد ناجح على مستوى التدبير، إن لم تكن قد ساهمت في تفاقم العديد من المشاكل، لا سيما في غياب أي تقييم لتجارب هذه الشركات التي أضحى وجودها يثير حفيظة الشارع ويدعو إلى الاحتجاج، مما ساعد على تشكل مشهد سياسي داخلي تابع ومتأثر بما تقرره مجالس إدارات هذه الشركات التي يجهل المواطن العادي القسط الكبير من الإيديولوجيات الموجهة لها. هذا القرار أصبح مسؤولا عن الكثير من الحيثيات التي تخص المعيش اليومي للمواطن، إذا علمنا أن أكثر المرافق حساسية بالمدينة أصبحت تدار من طرف وبرؤوس أموال مستثمرة، تراعي توازنات الدول التي تنحدر منها هذه الكائنات الاقتصادية، مشكلة بذلك مشهدا سياسيا خارجيا لا تقل فيه نسب القلق على مستقبل المدينة المغربية التي بدأت تتحلى بالزي الحداثي المرتبط بالمظاهر، مودعة للكثير من ملامحها الأصيلة، ومتجاوزة بقفزها العشوائي للعديد من القيم الحضارية والثقافية والفنية التي نشأت مع دول الغرب ذات التدبير المشابه. فهل تستحق المدينة استقلالها من خلال هذا القرار الذي زكته نخبة محلية في طور التشكل؟، أم أن ما ربحته على مستوى التنظير القانوني خسرته على مستوى التطبيق الفعلي من خلال الحدود التي رسمتها مسبقا سلطات الوصاية؟ وما القيمة المضافة التي أنتجها هذا القرار على مستوى تدبير مشاكل المدينة وحاجياتها؟ وكيف تتموقع قوى الاقتصاد الأجنبية التي دخلت على الخط على إثر تفعيل وحدة المدينة؟ وبالتالي إلى أي حد ساهم هذا القرار في حماية وتنامي الوعي بالتحرر المادي والمعنوي لصالح ديمقراطية فتية لمجالس هذه المدن ؟ I. مجلس المدينة كاختيار لتدبير المجتمع: فرز ديمقراطي لنخبة محلية أم صناعة خريطة لمنتخبين على المقاس: إن العوامل الداخلية المرتبطة بوتيرة التغيير الاجتماعي التي عرفها المغرب بعد سنوات الستينات (1960)، جعلته يعتمد الجماعة كوسيلة لتنظيم المجتمع (م.بنطلحة الدكالي) ، هذا الأسلوب الإداري ترجع جذوره إلى التنظيم الإداري والسياسي الذي نصت عليه دساتير الدولة منذ فجر الاستقلال، كما يؤكد تأثر المغرب بالتجربة الفرنسية التي امتدت لتشمل كل مناحي الحياة القانونية،بدءا بالدستور ووصولا إلى مختلف النصوص القانونية التي تهم مختلف المجالات. هذا الاختيار الذي شكل مطلب الديمقراطية المحلية (محمد حيمود) ، كان لا بد أن تجد له الدولة قالبا لتنزيله، ولم تكن هذه الصيغة سوى انتخابات محلية، من خلال مدونة يتم التوافق عليها من طرف كل الفاعلين السياسيين، يتبارى فيها مرشحات ومرشحون تقدمهم أحزاب سياسية للتدافع عبر صناديق اقتراع تسفر عن فرز مجلس محلي لكل جماعة. هذه المجالس كانت منذ البداية منقسمة إلى قروية تهدف إلى تأطير وتسيير المجالس المتواجدة في البوادي والقرى الموزعة على عدد من الأقاليم التي تتبع بدورها لتقسيم الجهات، وأخرى حضرية كانت تهم المقاطعات الحضرية التي تتقاسم تراب المدينة، قبل أن تختار الدولة توحيدها، من خلال قرار سياسي هم كبريات المدن، وذلك في أفق توحيد ميزانياتها، التي أصبحت قوية بدل حالة التشتت التي كانت تعرفها خلال النظام القديم. فمجالس المقاطعات لازالت موجودة، وهي التي تكون مجلس المدينة الذي يقوم باتخاذ كافة الإجراءات القانونية المرتبطة بالتنمية، من خلال التقرير في مصير المدينة، وذلك باتخاذ القرارات التي تصدر عن مداولات المجلس التي يتم التحضير لها من خلال دورات مفتوحة على الساكنة، في حين تتكفل إدارات مجالس المقاطعات،إضافة إلى إدارة مجلس المدينة، بتنفيذ ما تم تقريره على مستوى الدورات العادية والاستثنائية التي يرأسها العمدة المنتخب، والذي يتقاسم في بعض الحالات اختصاصاته مع السلطات المحلية، كما هو الشأن في مدينة الرباط التي يعتبر والي الجهة فيها هو الآمر بالصرف والمسؤول لأكثر من ميزانية وعلى رأسها ميزانية المجلس الحضري. ونحن نحاول ملامسة الموضوع، نعتقد أنه لا بد من إشارة منهجية بسيطة، فنحن عندما اخترنا التحدث عن هذه التجربة فإننا قمنا بذلك لتتبع وجها من أوجه الغموض الذي يلفها، وليس للإشادة بأوجه التفوق والتطور والنجاح الذي عرفته هذه التجربة على اختلاف وتباين كل حالة عن الأخرى فيها، وبالرغم من تعقيد تفاصيلها، والتي يمكن تأكيدها بالأرقام. فتجربة مجالس المدن حققت العديد من الإنجازات التي كان يصعب تحقيقها في النظام السابق لتشتت الميزانية التي لم تكن تسعف في إقامة مشاريع هيكلية كبرى. فلا يمكننا أن نطعن في المشروع، لأنه عرف الكثير من المخاضات وقطع العديد من المراحل، ولا زال يعول عليه في العديد من المدن لتسريع وتيرة نموه من أجل حل الكثير من المشاكل الحضرية العالقة، خاصة مع تبني الدولة لمشروع جهوية موسعة، تدعم هذا التدبير اللا ممركز وتهدف إلى دمج أقاليمها في الصحراء، من خلال دعم مشروع الحكم الذاتي كاقتراح مغربي حديث وواعد لفض نزاع الصحراء، لأن هذه الجهوية ستلعب دور الأداة والحاضن القانوني لمناطق الجنوب. ولا سيما كذلك أن الدول الديمقراطية التي قطعت أشواطا كبيرة في التدبير المحلي قامت بتطوير العديد من تقنيات التدبير من أجل ربح رهان التنمية، خصوصا مع تنامي دعم العلوم وتوجيهها إلى خدمة القضايا الداخلية والاقتصادية، وتطوير العديد من التوجهات العلمية كاقتصاد المعرفة الذي أصبح مسلكا علميا بامتياز، تمخض على إثر القمة الاقتصادية والاجتماعية الاروبية المنعقدة بلشبونة في مارس 2000، التي حددت دول الاتحاد الاروبي من خلالها هدفا استراتيجيا يتعلق بمستقبل اقتصاد المعرفة، من أجل دعم التنافسية وتحقيق نسبة نمو تراعي الجانب الكمي والكيفي، وتحقق انسجاما اجتماعيا فائقا. باستحضار مثل هذه المسارات العلمية، نعتقد أن التساؤل حول كيفية صنع القرار السياسي في المغرب لا يختلف عن التساؤل عن من يحكمه، كما أن الحاكم قبل أن يتخذ قراره السياسي، يقتضي الأمر أن يكون قد اطلع على مجموعة من الدراسات والأبحاث والتقارير التي ترشده إلى اتخاذ القرار الصائب والمناسب في معالجة الإشكالية التي يفرضها الوضع ، هذا الكلام نسوقه للتدليل على أن قرارا من هذا النوع لا يمكن أن يكون قرارا ارتجاليا، لأن الباحث السياسي كما أشار إلى ذلك هارولد لاسويل، بحاجة إلى فحص الشخصية السياسية لصانع القرار السياسي، وهدا يبرز من خلال مقارنة بسيطة لشخصية صانع القرار مع محتوى هذا الأخير. فقرار توحيد مجالس المدن الذي نحن بصدد دراسته، كان يوازيه التفكير في اختيار عمدة منتخب يرأس مجلس المدينة، وتبين فيما بعد وبالملموس أنه كلما كانت المدينة أكبر، كلما كان اختيار هذا العمدة أصعب، ولم يكن من الممكن وضع شخصيات ليس لها وزنها السياسي وشرعيتها الحزبية للاتفاق والتوافق على هذا المنصب الذي تراعى فيه العديد من معايير التسويق الداخلي ليكون عنصر التوازن داخل المجلس، والتسويق الخارجي لكسب الرهانات التي يمكن أن تربحها هذه المدينة أو تلك، لاسيما مع تكثيف التعاون الدولي والقيام بالتوأمات وغيرها من الاختصاصات، كعناصر إضافية بات يدعمها الإطار القانوني الجديد للمجالس المنتخبة، والمعتبر بمثابة ميثاق جماعي. وبالرغم كذلك من أن تفعيل العديد من مقتضيات هذا الميثاق لم يتم تفعيلها بالشكل السليم والناجع، لغياب منتخبين ذوي رؤى استشرافية راقية، وهذا مرده إلى النموذج السائد في منح التزكيات من طرف الأحزاب التي تكاثرت بشكل أعاد وبإلحاح ضرورة التفكير في البناء الحزبي والظاهرة الحزبية إلى الفضاء العمومي للسياسة، وهي الظاهرة التي دفعت ثلة من الباحثين إلى نعتها بالدكاكين الانتخابية، لأن منها من لا ينشط إلا في مرحلة هذه الانتخابات المحلية. الأمر الذي يفوت على مجالس المدن، وعلى الديمقراطية الناشئة بكل أعطابها بشكل عام، فرصة حقيقية للنهوض بواقع المدن. و على كل حال فهذا المشكل يرتبط بشكل أساسي بطبيعة النظام السياسي الذي منع في وقت مبكر إقامة الحزب الوحيد، وأقر بدله نظام التعددية الحزبية التي تحولت إلى آفة حقيقية، وآلية يستعملها النظام لمنع فرز أي قوة حقيقية ضاغطة. وبالتالي فالنخبة المحلية الحالية ليست سوى انعكاسا للواقع السياسي الحزبي بشكل عام. وهذا الاستنتاج ينسحب على باقي الجوانب السياسية الأخرى التي تؤكد هيمنة المركز على مشروع مستقبل البناء الترابي، بالرغم من الشعارات التي لم تتحرر من تدويخ المجتمع الذي لازال يرزح تحت نير نسبة كبيرة من الأمية والفقر ونقص في التعليم والصحة والعدالة، الشيء الذي يدفعنا لتوصيف هذه الديمقراطية المحلية بالشكلية والملتبسة. II. مجلس المدينة بين مفهوم الشريك للدولة ومفهوم الوحدة الإدارية الخاضعة لوصاية الدولة: على هذا المستوى الذي يهم الوصاية والشراكة، يصعب على باحث في علم السياسة أن يقفز على الهواجس التي تحكمت في عدم منح الدولة للجماعات المحلية استقلالها الكامل، على غرار النموذج الفرنسي الذي كان المغرب ولازال يستلهم منه تجاربه ويحذو حذوه، إن هذا الاعتقاد يقودنا إلى إعادة البحث في مفهوم الحكومة المحلية الذي كان يعني في النموذج الأمريكي مجموعة معينة تنظم نفسها، بحيث وصف علم السياسة الأمريكي في عدد كبير من المؤلفات سلطة العمدة الذي يفرض نفوذه الخاص على “جماعة السلطة المحلية”،(معجم علوم السياسة والمؤسسات السياسية) ، هذا النموذج كان من الصعب توفره في بداية التجربة في فرنسا، وعلى غراره لم يكن من الممكن توفره في المغرب الذي لا زال يحبو على درب الديمقراطية المحلية، الأمر الذي دفع العديد من الفاعلين للمطالبة بأنماط جديدة للتنظيم المحلي، ترتكز على منح استقلالية ومسؤولية أعمق تتوخى الرفع من القدرات التدبيرية للجماعات الترابية والانتقال من المقاربة التسييرية الضيقة إلى المقاربة التدبيرية الحديثة(كريم لحرش) ،علما أن الحكامة كمصطلح طفا على السطح خلال سنوات التسعينات، كما أن حمولته كانت ثقافية وسياسية قبل أن تتطور إلى تفسيرات تقنية متكاملة أحيانا، ومتباينة أحيانا أخرى. وبذلك، أمكن القول إجمالا أن مفهوم الشريك غير مضبوط وغير ذي جدوى في علاقة الدولة بمجالس المدن على الأقل في المرحلة الراهنة. صحيح أن الدولة تعتبر هذه المجالس شركاء لها ، لكنها لا تمنحهم على أرض الممارسة لا الحرية الكاملة ولا الوسائل القمينة للقيام بدور الشريك. إن الدولة لا زالت تفرض وصايتها الإدارية والمالية على هذه الجماعات، وبالتالي لا يمكن للمنتخب أن يبادر من أجل الدفاع عن حقوق من انتخبوه إلا بالقدر الذي ترتضيه الإدارة المركزية، الأمر الذي يتجلى بوضوح في ممارسة الاختصاصات الممنوحة لمجالس المدن، ومن بينها وأخطرها التدبير المفوض كتقنية إدارية وقانونية تبنتها الدولة، وكانت السبب الرئيسي وراء دخول العديد من الشركات العملاقة لتدبير المرافق العمومية الحساسة بالمدن الكبيرة، مما شجع على فتح الباب على مصراعيه على عولمة من نوع آخر، تحيلنا على إمعان النظر مرة أخرى في ديناميكية النماذج الرأسمالية التي أضحت تؤكد ملامح جغرافية مالية عالمية ، هذا علما أنه بالعودة إلى تعريف النزاعات السياسية، نجد أن هذه الأخيرة تضع المجموعات، بالمعنى الأعم للمصطلح، في مواجهة بعضها البعض ، وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر على السلطات ومجالس المدن، ليحسم الأمر دائما لفائدة الأولى (السلطات المركزية) نكالا في ديموقراطية محلية هي المشتل الحقيقي للمواطنة كما يؤكد على ذلك منظرو ومحللو ال.بلدان الغربية وعلى رأسهم المحلل السياسي بيير روزنفالون الفرنسي. III. شركات ذات جنسيات أجنبية : أثر سياسي وأرباح اقتصادية: تعتبر العولمة الابنة الشرعية للعالم الغربي الرأسمالي، وهي وليدة نوايا الإنسان الغربي الذي كان يريد منذ بداية نهضته أن يخضع بقية العالم لطموحاته، ومن بين أهم الخصائص التي تميز هذه العولمة أنها لا تتجاوز مشاكل الماضي والتي ليست سوى معطيات تاريخية لا يمكن أن تنساها الأمم، بل تتذكرها الشعوب عبر الطبقات والأجيال، ونتذكر من خلالها بداية الأطماع والاختلالات التي وضعت ثروات العالم تحت المراقبة ، علما أن عولمة الشركات والمقاولات أقدم من التبادل الذي يميز العولمة، كفضاء عالمي للتنافس، لهذه الأسباب حاولنا اختيار أحد الفاعلين الرئيسيين فيها، فالشركات العالمية التي بدأت تسير المرافق العمومية للمدن المغربية، تعتبر إلى جانب الأشخاص والدول مؤشرا حقيقيا على تطور الديناميكية المعقدة للعولمة. لقد اخترنا العولمة طريقا ومدخلا إلى فهم الأثر السياسي والاجتماعي لهذه الشركات العملاقة لأن التركيز على الجانبين الاقتصادي والقانوني لا يغدوان في حقيقة الأمر عدا ذريعة لتواجدها. فبغض النظر عن تماسك وقوة تنظيم هذه الشركات وقدرتها على مباشرة أعمالها بشكل يراعي مضمون الاتفاقيات ودفاتر التحملات التي وضعتها الدولة، أو ساهمت فيها لفائدة مجالس المدن، فإن الهدف الحقيقي لهذه المؤسسات الاقتصادية يبقى هو الربح وتسجيل تواجدها كقوة اقتصادية تابعة لدول تربطها علاقات على أكثر من مستوى مع الدولة المغربية، ناهيكم عن حجم المبادلات الذي يخضع لتبعية مدعومة بالتبني أحيانا، وبالدفاع عن مصالح مشتركة بين الطرفين أحيانا أخرى. اخترنا هذا الجانب المعولم من تدبير مجالس المدن كذلك، لكون جون ماري دانكان، في كتابه “علم السياسة”، يقدم نصيحة للطلاب الباحثين الذين يتطرقون لدراسة علم السياسة، والذين ليس لديهم مثل الأغلبية الكبرى من المواطنين الإمكانية لمقارنة الحقيقة السياسية مع الصورة التي تعطيها عنها وسائل الإعلام، بحيث يقول أنه يجب على هؤلاء الباحثين أن يحفظوا هذا الوضع حاضرا في الذهن، وعليهم أن لا ينسوا مطلقا أن متطلبات المعرفة العلمية للظواهر السياسية يجب باستمرار أن تتجدد بيقظة مستمرة في نقد المصادر . من هذا المنطلق إذن أعيد التأكيد على أن دولة القانون ليست هي الدولة التي تحترم حقوق الأفراد، وحقوق الإنسان فحسب، كما تحاول بعض النظريات إقناعنا به، بل الدولة هي التي تحترم القانون كمعطى عام وغير شخصي، إذ لا يمكن احترام حقوق الأفراد في حين أن حقوق الدولة تهضم ويتم تجاوزها بشكل يومي . فالشركات العالمية التي تشتغل داخل الدول تحت أي ذريعة، إنما تبحث عن يد عاملة بتكلفة أقل، وهي بهذا المعنى تشوش على مهام الدولة التي أناطها المشرع بمهام أرقى وأقرب للعدالة والأمن منها ألى الظلم وتشتيت الجهود والثروات، وهذه الشركات لا تلغي سيادة الدولة المعنية، بل تحدد لها أدوارا جديدة بشكل مستمر،خاصة إذا استحضرنا مسألة قيام هذه الشركات بتنظيم مهامها بدل الدولة المعنية، وهذا ما يعتبر بالضبط، مصادرة لجانب تنظيمي وقانوني للدولة، وبالتالي نصبح أمام انتهاك أحد أهم مقومات السيادة ولو بشكل مستتر، وهي استقلالية التشريع في أحد أدق جوانبه التي تحتاج إلى مراجعة عميقة تنهل من فلسفة القانون التي أطرها الفكر السياسي على مدار التجربة الديموقراطية في البلدان الغربية التي فشلت في تصدير نموذجها الديمقراطي بأمانة إلى بلداننا العربية. وبالتالي فعدم استقرار أي جزء مهما كان بسيطا من مسؤوليات الدولة يدفعها إلى التبعية. ولسنا بحاجة، والحالة هذه، للتذكير بالنتيجة الحتمية لهذه العلاقة وهي أن كل دولة تابعة، تكون مراقبة بالضرورة، وهو تأكيد للفرضية التي طرحناها مند البداية. IV. خلاصة: انطلاقا مما سبق، يمكن أن نخلص إلى حقيقة أن الدولة المغربية عندما قررت الانتقال بشكل متدرج، من تدبير تقليدي للجماعات الحضرية، إلى تدبير حديث لهذه الوحدات الإدارية عبر قرار وحدت من خلاله مجالس المدن، إنما كانت تروم بذلك النهوض بأداء هذه المجالس والرقي بتدبيرها حتى تساهم في رفاهية الساكنة. وإذا كان نجاحها في ذلك يعد نسبيا، فلأن التجربة عانت ولازالت من أمرين اثنين: الأمر الأول يتعلق بعدم قدرة الأحزاب على فرز نخبة محلية في مستوى الوعي بالمستجدات والآليات المتحكمة في صنع القرار، وثانيا لكون الدولة لازالت لا تسمح لهذه المجالس باستقلالية تامة، وذلك لاعتبارات إستراتيجية تحتاج في تقديرنا إلى بحث مستقل. الأمر الذي جعل الدولة تحل محل مجالس المدن في العديد من المناسبات وهي الحالة التي لازالت مستمرة إلى حدود الساعة. ويعتبر نظام التدبير المفوض الذي تخلت من خلاله المدن، إما عجزا منها أو مكرهة، لشركات أجنبية (فيوليا، ريضال،ليديك،ألستروم،….)، من أجل تدبير المرافق العمومية الحساسة، أحد أهم نتائج هذه العلاقة الغير المتوازنة. ففي غياب تقييم حقيقي لنتائج عمل هذه الشركات، وأمام فشلها الغير المعلن في كبريات المدن، مثل الرباطوالدارالبيضاء وطنجة، إذ لازال النقل العمومي وجمع النفايات ومعالجتها، والماء والكهرباء، أسبابا رئيسية لحدوث العديد من القلاقل والاحتجاجات المرتبطة بالفواتير وغيرها، والتي وإن كانت متفرقة، فإنها ترهن استقرار العديد من مدننا، بتواطؤ مع الدولة كسلطة للوصاية، وقد كان هذا دافعا أساسيا ليوجهنا إلى البحث عن حدود استقلالية القرار في مجالس المدن وفي الدولة الراعية نفسها، على ضوء تجربة التدبير المفوض، مكتفين في ذلك بتسجيل الإشارات الفرضية الأولى، التي مجرد القيام بمجهود بسيط لتمحيصها، كاف لتأكيدها بنحو أكثر تراجيدية. والنتيجة تدبير داخلي بأثر سياسي واقتصادي معولم، لم يخطئ ماركس، محققا سبقا في ذلك،عندما حلل في وقت مبكر نتائجه المرئية، بالرغم من أن نظرياته حول الدولة لم تكن بنفس قوة أفكاره الاقتصادية. وبهذا الاستنتاج القابل للتطوير والاستثمار من خلال تقعيد علمي يشرك عددا هائلا من التخصصات، وبشكل أكثر تجريدا كما كانت تريد التوجهات الفلسفية مند عقود، فإن التأكد من صحة الفرضيات التي طرحناها، تصبح كل المناهج قابلة لتعبيد المسالك نحوها بشكل ممهور وموضوعي ناجز. وعلى رأي جون جاك روسو، صاحب العقد الاجتماعي، الذي تحدث مرة موحيا بعدم قدرته على توضيح كلامه أمام من لا يريد الاستماع، فإننا بالنهاية نقول كما قال بالضبط:” لانملك أن أكون واضحا إزاء من لا يريد الإصغاء” .
قائمة المراجع المعتمدة العربية والاجنبية: محمد بن طلحة الدكالي، “النظام الجماعي المغربي: دراسة تحليلية للمكونات البشرية والمالية والوصائية”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق، الدارالبيضاء،19981999. محمد زين الدين، “التدبير الجماعي والديمقراطية التشاركية”، مجلة مسالك، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، عدد: 11 12، سنة 2009، ص:28. محمد حيمود،” الحكامة المحلية بالمغرب على ضوء الإصلاحات القانونية والمالية”، شبكة القانونيين المغاربيين، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2011،ص:28. ما هو النزاع السياسي؟، بقلم: باتريس كانيفير، ترجمة د. عدنان نجيب الدين. مجلة ” فلسفات معاصرة”، مجلة فصلية، العدد الثالث،سنة 2009، منشورات مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. معجم السياسة والمؤسسات السياسية، عربي فرنسي انجليزي، غي هرميه، بيار بير نبوم، برتراند بادي، فيليب برو، ترجمة: هيثم اللمع، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الاولى،2005م،1425ه. كريم لحرش، مغرب الحكامة: التطورات،المقاربات والرهانات، سلسلة اللا مركزية والإدارة المحلية، مطبعة طوب بريس، الطبعة الثانية 2011، ص: 194. تاريخ الأفكار السياسية المقارن، موريس روبان، ترجمة: د. دعد قناب عائدة، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 2004. علم السياسة، جون ماري دانكان، ترجمة: د. محمد عرب صاصيلا، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1997م، 1417ه. سعيد الوجاني، الحوار المتمدن، العدد:3419، بتاريخ:7 يوليوز2011، المحور: مواضيع وأبحاث سياسية.www.alhewar.org La mondialisation, Philipe Moreau Defarges, Que sais je ?, Presses Universitaires de France, Sixième édition, 2006. Géographie de la finance mondialisée, sous la direction de Claude Dupuy et Stéphanie Lavigne, préface de François Morin, La Documentation Française, Paris, 2009. La pensée politique, ouvrage coordonné par Eric Zernik, ellipses éditions Marketing,S.A., 2003. Jeux de gouvernance, Regards et réflexions sur un concept, Développements, IUED, Carthala, 2OO7. L'économie de la connaissance, Dominique Foray, Editions La decouverte et Syros, Paris, 2000.