انتقل إلى عفو الله ورحمته بأحد المستشفيات بالرباط الصحفي ومدير الإعلام الأسبق بوكالة المغرب العربي للأنباء، عبد الكريم الموس، بعد معاناة طويلة مع المرض لم ينفع معها علاج. وبفقدانه يكون الجسم الإعلامي الوطني قد ودع أحد الوجوه البارزة في الصحافة الوطنية التي بصمت على مسار متميز من العطاء المتعدد في كل الأجناس الصحفية. ومن تزامن الصدف أن ودعنا المرحوم والجسم الإعلامي الدولي يحتفل باليوم العالمي لحرية الإعلام الذي يتيح لأبناء المهنة فرصة التوقف على قضايا حرية الصحافة وعلى الأخلاقيات المهنية التي وضعها الراحل في مقدمة أولويات العمل الصحفي حيث لم يثبت عليه أن أنجز عملا لا يتماشى مع كرامة المهنة، أو وقّع مقالا للإثناء المشبوه على مؤسسة عمومية أو منشأة خاصة، كما لم يستعمل منصبه أبدا بقصد مُغرض. وكان شديد الإصرار في معظم اجتماعاته اليومية مع قطاعات التحرير، على وجوب تجنب الخبر الهش المزاجي الفاقد للدقة والجدية، ويعتبره من أشنع أخطاء الصنعة لما يشكله من قطيعة مع الخبر المتحرر والمستوعب لتطلعات المواطن من خلال التفاعل مع مشاغله وقضاياه اليومية، في ظل حالة الاحتقان والتوتر التي كانت تميز الحياة السياسية المغربية آنذاك. والفقيد هو من الرعيل الأول في المشهد الإعلامي الوكالاتي الذي شهد في عهده تطورات متعددة وسريعة تحت تأثير تطور البنيات السياسية والمتطلبات الجديدة للعولمة الثقافية والإعلامية التي تريد تبضيع كل شيء حتى إنسانية الإنسان. كان عبد الكريم يؤمن بمقولة أننا "نولد صحفيين" on naît journalistes، ولا نتعلم الصحافة، وأن الدراسات العليا في المعاهد والمؤسسات الإعلامية هي دراسات تنظيرية وتثقيفية لا تكتمل قيمتها إلا بالعمل الميداني الحاضن لهموم الوطن والملتزم بقضاياه. ومن هنا يتحول العطاء إلى منجم للإبداع ومنبر للإشعاع الإعلامي والثقافي. كان باختصار شديد، متمسكا بالمهنية والحيادية الإعلامية، وبتجنيب وكالة المغرب العربي للأنباء الدخول في بؤر التحالفات والتحيز المشبوه لدوائر ومؤسسات على حساب أخرى. دافعه حب الانتماء إلى هذه المؤسسة الوطنية التي ظل التفاخر بالانتساب إليها ميزة توارثتها أجيال من الصحافيين. ومحركه أيضا فهمه الحقيقي للدور المنوط بالوكالة وحرصها المهني من خلال أنشطتها المتنوعة (تغطيات إخبارية، حوارات، تحقيقات، مقالات تحليلية...) على صناعة الخبر الموضوعي وتقديمه بصورة متساوية بين جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. ميزة أخرى ميزت مسيرة الراحل عبد الكريم المهنية وهي اعتباره المعارضة الحزبية والنقابية مكوّن أساسي من مكوّنات الحياة السياسية والاجتماعية المغربية تستوجب الحياد واحترام حقها في التعبير بكل حرية عن آرائها وعن مواقفها من السياسة الحكومية. وكان دائم التأكيد في هذا الباب على أن الدفاع عن إنجازات الحكومة والتعريف بأنشطتها المختلفة، هي مهمة أنشئت من أجلها الوكالة وفق منظور تشاركي يرقى إلى مستوى التطلعات والتحديات الداخلية والخارجية للبلاد. ولكن ذلك يجب أن يتم في سياق الانفتاح الكامل على المكونات السياسية والاجتماعية الأخرى تجاوبا مع التحولات العميقة التي تشهدها صحافة الوكالة، ومتغيرات المحيط العام السياسي والاقتصادي الذي يتحرك ضمنه هذا الصرح الإعلامي الكبير على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، وهو المحيط الذي شهد تحولات عميقة وجذرية على كافة المستويات، أدت إلى سيادة مناخ جديد في الممارسة الإعلامية. وبعبارة أخرى فإن تمجيد أنشطة الحكومة والدفاع عنها يدخلان في سياق الوظيفة الإعلامية التي حددها القانون المغربي للوكالة كقطب استراتيجي لمعالجة وجمع وتوزيع الأخبار محليا ودوليا وعكس صورة حقيقية لواقع المغرب في مرحلة هامة من مراحل تطوره. غير أن ذلك لا ينبغي، برأي الراحل عبد الكريم، أن يستثني أيا من المكونات الوطنية الأخرى شيوعية كانت أم اشتراكية أم غيرها، وإلا انزلقت العملية الإعلامية بالوكالة إلى أسفل المراتب وأبخس الخدمات، في تعارض تام مع رغبة المغفور له محمد الخامس الذي دشنها عام 1959 تحت شعار "الخبر مقدس والتعليق حر" لتكون شركة مساهمة خاصة، في وقت كانت غالبية وكالات أنباء العالم الثالث تابعة وموجهة من طرف الحكومات. لست هنا من المانحين لشهادة تقديرية عليا للفقيد الذي اعترضت مسيرته، هو الآخر، عثرات واختلالات كباقي كبار الإعلاميين الوطنيين والدوليين، ولكن واجب الانتماء لهذه المؤسسة كواحد من قدماء الصحفيين بها، يلزمني التأكيد على أن الجسم الإعلامي الوكالاتي عاش في عهد عبد الكريم فترة تماسك قوي بين أعضائه، ومعظمهم أوقفتهم اليوم تجاعيد العمر عن الممارسة، ويعتزون بأن جعلوا من وكالتهم إبان الاشتغال معه، مؤسسة رائدة من حيث الخدمات الإخبارية ومن حيث النهج الضامن للدقة والصدقية والحياد والسرعة. واليوم ينتاب صحفيو الوكالة القدامى وهم يذرفون دمعة وداع على رفيقهم عبد الكريم، مشاعر الأسف على الخطاب الإعلامي لمؤسستهم الذي أصبح وللأسف محفوفا بالغموض والتشكك، ومثيرا للانتقادات والمشاكسات بين مختلف مُكوِّنات الوطن السياسية والاجتماعية والثقافية.