كان ليوم 18 نونبر 1959 أن يكون عاديا في الحقل الإعلامي الوطني، لولا خروج وكالة المغرب العربي للأنباء إلى الوجود لتفتح حقبة جديدة في تناول قضايا ومشاغل المواطنين داخليا وخارجيا، شعارها كما وضعه جلالة المغفور له محمد الخامس "الخبر مقدس والتعليق حر". وكان الهدف من إنشائها أن تكون قطبا رئيسيا لجمع وتوزيع الأخبار محليا ودوليا وعكس صورة حقيقية لواقع المغرب في مرحلة هامة من مراحل تطوره. ولست هنا من محترفي لغة التهجم والتجريم أو ممن يضعون أنفسهم على رأس قائمة المصلحين يحاسبون الجميع، ويحاولون صياغة الوعي على مزاجهم بما يكرس التضليل ويغذي الكراهية بين أفراد المهنة الواحدة : الصحافة. فعقدة اللسان تصيبني على الفور كلما حاولت الاقتراب من مربع التجريم القائم على اختلاق المبررات بغرض شرعنة الكذب أو التزوير. غير أن ما يعيشه الجسم الإعلامي الوكالاتي من حالة توتر واختناق غير مسبوقبين بسبب القرارات الارتجالية والرؤية القاصرة للسيد خليل الهاشمي، مدير وكالة المغرب العربي للأنباء، يستدعي نوعا من المحاسبة ضمن المعالجة التحليلية الهادئة التي ترجح الانفتاح على التعصب وتحول نقط الخلاف إلى مادة للتحاور. لست الوحيد من يجزم بأن الجسم الوكالاتي لم يشهد في تاريخه حالة انحطاط وتراجع مثل ما شهده مع قدوم خليل الهاشمي الذي دشن سنته الأولى بلمسات تحريرية مثيرة للسخرية، ضمن رؤية أحادية تكرس القطيعة بشكل تام مع الخبر المتحرر والمستوعب لتطلعات المواطن من خلال التفاعل مع مشاغله وقضاياه اليومية. اللمسات الأولى للمدير الهاشمي جاءت على شكل ما يشبه دورات تدريبية عاجلة للصحفيين لضمان حصولهم على التأهيل "الهاشمي" المقتبس شكلا من فهم سطحي لصحافة الوكالة وتقنيات التحرير بها، والمستوحى مضمونا من تجربته في الصحافة المستقلة في الثمانينات والتسعينات التي كانت آنذاك صحافة هاوية تعتقد أن القارئ بحاجة دائمة إلى أقراص ديماغوجية لتنشيط جانبه المخيالي، فتعمد إلى شرح الأحداث والوقائع لا من زاوية المعالجة القائمة على التوعية والتنوير، ولكن بنيّة شحنه وتأجيج مشاعره. ومثل هذه الصحافة التي تمرس السيد خليل الهاشمي فيها قرابة ثلاثة عقود، لم تكن لديها قناعة فكرية بعينها، أو منظومة مبادئ تدافع عنها، فهي تتغير بسرعة قياسية كلما اقتضت مصلحتها ذلك. تلك هي المدرسة التي تشبع بها خليلي الهاشمي من خلال اشتغاله بها نحو ثلاثة عقود، فأضحى يشرف شخصيا على الدورات التأهيلية الاستعجالية لصحفيي الوكالة عبر جولة هاتفية لمكاتبها الدولية والجهوية بلغة تفتقر في معظم الأحيان إلى أبسط أدبيات التوقير والاحترام، وبقرارا ت تعسفية تشمل انتقالات ظالمة تزيد من حدة التوتر والاحتقان. ويغيب هنا عن أذهان السيد المدير، بأن صحفيي الوكالة ليسوا بحاجة إلى أقراص تكوينية لاستكمال تأهيلهم، بقدر حاجتهم إلى التحرر من القيود التحريرية والتخلص من سطوة القرارات التعسفية "المزروبة" التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تفشي ثقافة التأزم والتصادم، على اعتبار أن القرار الإداري، سلبيا كان أم إيجابيا، لا تكتمل حقيقته إلا في التفاعل مع المناخ العام الذي نشأ فيه وتولد عنه. والعلاقة بين المدير والصحفي يجب أن تكون علاقة تحاور وتكامل وليست علاقة رقابة وتعسفات. ثم إن الخبرات التحريرية التي راكمتها الوكالة على مدى سنوات طويلة شهدت تحولا إعلاميا كبيرا قبل مجيء الصحفي الهاشمي، حيث تفخر وكالة المهدي بنونة بأنها كانت رائدة من حيث الخدمات الإخبارية ومن حيث النهج الضامن للدقة والصدقية والحياد والسرعة في إيصال الخبر. وبذلك قادت أجيال من صحفييها الوكالة إلى طليعة المؤسسات الإعلامية في إفريقيا والعالم العربي، وأكسبوا نشراتها ثقة واسعة النطاق لما تميزت به من تحري الدقة والموضوعية وفقا لأعلى المقاييس المهنية. خدمات الوكالة كانت تتطور بطريقة مدروسة لا يطبعها الارتجال، ولم ترتم يوما، كما حدث في عهد صديقنا الهاشمي، في أحضان الربح التجاري بمفهومه الضيق، وما نتج عن ذلك من سوء في التسيير وفي تدبير المال العام، من خلال إحداثه إذاعة وكالاتية كلفت ملايين الدراهم، ويستلذ بالاستماع إليها وحده، ثم أتبعها بتلفزة على الساتل غائب تأثيرها بالمرة في المشهد الإعلامي الوطني، ولا قيمة لوجودها سوى أنها شغلت الكثير من أطر وتقنيي الوكالة عن تنويع خدمات المؤسسة وتطوير الرصيد المهني الذي راكمته لأزيد من ستة عقود، تلبية لمتطلبات المرحلة المقبلة. فإحداث إذاعة وتلفزة تأثريهما الإعلامي والتثقيفي والتنويري بئيستين و هو مجازفة إعلامية خاسرة، وهدر سخيف للمال العام وأيضا توظيف غير مسئول للموارد البشرية. ثم إن التخطيط لعملية إعلامية تساير التطورات التكنولوجية، لا يتم من خلال سطونا على نماذج إعلامية للوكالات العالمية ومنها وكالة الأنباء الفرنسية، ونحاول تطبيقها وإن اختلفت المسالك والتطورات التكنولوجية، فنصاب بالخيبة حينما ندرك أن وكالتنا ابتعدت كثيرا عن واقع بيئتنا الإعلامية. فما فائدة تلفزتنا الوكالاتية بالنسبة للمتلقي وقد تعود على متابعة سيل جارف من القنوات العالمية بتبويباتها ونوافدها الإعلامية العديدة وتخصصاتها المختلفة، إذا لم يكن تبدير لمال الدولة يثير الشكوك. والملفت أن إحداث هذين الجهازين تم بمعزل عن الجسم الإعلامي (اللهم من أشخاص تم إقحامهم لتبييض الوجه)، ومن دون أية منهجية تشاركية أو تحاورية، بل بقرارات انفرادية لإدارة هذه المؤسسة الإعلامية التي حرصت على ألا يفهم أحد التأثيرات المالية المترتبة عن هذه العملية التي منحت لوكالتنا تسمية جديدة:" وكالة المغرب العربي للإذاعة والتلفزة". وفي هذا السياق اهتدى المدير "الكاتب"، إلى استغلال الإمكانات المادية والتقنية للمؤسسة لإصدار كتاب يسرد تفاصيل حياة إعلاميين بشكل ممجد لفئة من الصحفيين ومتهجم على أخرى وفق مقاسات تتماشى مع مزاجه ومصالحه. الكتاب الي صدر في طبعته الثانية على شكل بورطريهات بعنوان "وجوه إعلامية مغربية" ينم عن جهل تام أو مقصود لجنس البروفايل الصحفي أو ما يسمى بالبورطريه الذي يسعى لرسم المحطات والتفاصيل التي قادت الشخصية الإعلامية إلى المكانة التي وصلت إليها. فهو من جهة مزيج من التطبيل والمداهنة لأناس معينين بغرض المصلحة، ومن جهة أخرى تحامل مشحون بأمراض راكمها على أناس يكيل لهم التهم والشائعات. مما يضفي على الكتاب صبغة الهرولة والاسترزاق. ولا حاجة لتذكير السيد الهاتشمي الذي اختلط عليه بشكل مشبوه جنس البورطريه مع الأجناس النقدية والتحاملية، بأن الارتقاء بجودة المنتوج بالوكالة، يمر حتما عبر تدبير محكم للموارد البشرية، وحكامة جيدة، واستراتيجية واضحة للتأهيل، تأخذ من جهة بالحاجيات الحقيقية للطاقمين الصحفيي والتقني، وتتماشى من جهة ثانية مع التحولات العميقة التي تشهدها مهنة الصحافة ومستجدات المناخ العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تتحرك ضمنه وكالة المغرب العربي للأنباء على المستويات الوطنية والاقليمية والدولية. والآن وقد أنتجت بعض التحولات التي يعرفها المغرب، سياقا جديدا للتعامل مع المهنة، فإنه من غير الجائز أخلاقيا ومهنيا تغييب الوازع التشاوري والتشاركي الكفيل وحده بخلق مناخ سليم للمارسة الصحفية، مع فهم صحيح للتصورات المبتتكرة التي تساير التطورات التكنولوجية ولا تكتفي باقتناء آخر صيحاتها لتلميع الواجهة.