قدمت الفرقة المسرحية التابعة لجمعية امتدادا المسرح بدمنات مساء يوم السبت 9 يونيو 2012 مسرحيتها الجديدة "بوغطاط" في عرضها الأول بفضاء قاعة دار الشباب الزرقطوني بدمنات بحضور جمهور نوعي متميز تجاوب بشكل "أنتلجنسي" مع فصول ومشاهد المسرحية التي زاوج فيها الكاتب والمخرج نور الدين الغلام بين بلاغة الصورة الشعرية المجسدة في نصوص الزجال المغربي المعروف أحمد لمسيح من خلال ديوانه "خيال لما" من جهة وكتابة ركحية زاخرة بالعلامات والأيقونات من جهة ثانية؛ عبر صنعة سينوغرافية أضفت على أركان الخشبة أبعادا حضارية وفنية وذلك بتوظيف تقنيات درامية وأدوات بصرية صقيلة كاللون والضوء والظل والعتمة والشم والشكل والحركة وغيرها من المؤثرات الفرجوية المتناسقة في مشهد حي يحتفي بزواج إبداعي بين الشعر والجسد . وقد نجح الأستاذ الغلام ايضا في تأثيث فضاء الركح بديكور محايد متحرك، سهل وممتنع. بالإضافة إلى محاولته ردم الهوة بين مفارقة النص الشعري المثقل بالترميز والعرض المشهدي الطافح بالفرجة، حيث قدمت النصوص الشعرية ذات العمق الفكري والإبداعي المركب في قالب مسرحي صقيل وسلس؛ الشيء الذي منح للعرض إمكانيات مشهدية ممتعة في حركية انسيابية ملئت ثقوب النص الكلامي الزجلي والفصيح وأضفت عليه بعدا دراميا، والذي استثمر فنيا لجذب اهتمام المتفرج اللبيب الذي صارا خيطا من خيوط الحكاية في نسيج العمل المسرحي ككل. حكاية حب قاسية وممتعة تروى على الركح بصيغة المؤنث؛ في شروط زمكانية متغيرة؛ اصيلة في بعدها الانساني والقيمي؛ تزهر تارة في السماء غيما وتارة أخرى تتساقط في الأرض دما؛ حب تراجيدي أزلي مفعم بروح وخصوبة الماء لكنه مخضب بالدماء، مشفوع بالحياة في نهاية المشوار. في عمق الكلام وبلسان"الكلايمية"، يسافر"بلعمان" في بحث كينونتي للقيم الكامنة في إنسانيته كإنسان، ويدخل في صراع ذاتي مونولوجي محفوف بالآخر؛ ضد الشر والكراهية والتصفية الجسدية؛ "نورة" هي الأخرى، تتيه في بحث أنثوي صرف عن الآخر الحاضر في "بلعمان" والغائب فيها؛ صراع بين الذات المحبة والآخر التائه في المجهول بين مكان وزمان حركيين؛ صراع بتناقضات مركبة وتقاطعات متداخلة؛ صراع بين الحياة والقتل؛ بين الحب والرغبة؛ مسرحية تحتفي بالسوائل الطهورة بالدماء والإحياء والنقاء في حضرة الماء. ولعل ما أثارأيضا الدهشة والانبهار والإعجاب في أداء الممثلين بين ثنايا فضاء الركح هو الحضور المثقل بالإيحاء للممثل المقتدر سعيد الدليمي الذي أضفى على مسار المسرحية بعدا سميوطيقيا محسوبا؛ في لمسة فرادة، ووخز بالإبر يحيي المشاهد وهي في طريق الانهمار حينا والانشطار أحايين أخرى؛ وينثر الماء ويفيض بالجسد كقصيدة لأحمد المسيح، كخيال للماء؛ حيث لعب أيضا دور التجسير بين الكلام والحركة عبر ملامح جسد راقي يكتب ويقرأ بلغة أخرى، لغة الجسد، من تخوم الجسد يكون المنطلق وإلى أقاصي الجسد يسعى إلى المنتهى عبر جسد موشوم كوسيط؛ متابعة جدلية فك من خلالها رموز المفارقة بين المنطوق والمرئي، بين اللون والشم والحركة. دون أن ننسى ايضا شجاعة الممثلات والممثلين الشباب في أداء أدوار مركبة نفسيا وتجسيديا لأول مرة. أما فيما يخص الجانب السمعي الموسيقي؛ فمن حين لآخر كانت تجوب الخشبة كسحابة ماطرة تقاسيم عود الفنان عمر أبوكاض، بشكل سيمفوني تكسر فراغات الصمت وتمنحه بعدا بلاغيا بهيا. بهذا العرض الشيق والهادف يكون الاستاذ نور الدين الغلام قد ربح الرهان في إخراج مدينة دمنات ولو لفترة "رمزية" مكثفة، من مساحة السبات الثقافي "البوغطاطي" القاتل إلى فسحة ضوء فنية درامية واعدة شارك في عنفوانها، في آن، طاقم المسرحية والجمهور الدمناتي المتعطش للمبادرات الجادة. تعليق جمال الأسعد [image] [image] [image]