بإدمان البصبصة والنهش، أصيب بوعشرين بفيروس "الحمى القلاعية". وقد ظل هذا الفيروس خاملا، أي غير نشيط (في فترة حضانة) في جسمه إلى أن توفر له الظرف المواتي للمرور إلى مرحلة الحيوية والنشاط. ولم يكن الظرف الذي جعل الفيروس يخرج من مرحلة الخمول إلى مرحلة النشاط، سوى استعادة الاتحاد الاشتراكي لمقعديه البرلمانيين بكل من "جرسيف" و"الناظور". وبما أن بوعشرين يعاني من عقدة مستعصية اسمها الاتحاد الاشتراكي، فقد أصيب بنوبة قوية بسبب تفاعل فيروس "الحمى القلاعية" مع أعراض العقدة المستحكمة فيه، فاشتدت به الحمى وأصبح يهذي. وفي هذيانه، استرجع المحموم وعاش، من جديد، مرارة ما سمي ب"البلوكاج" الذي قذف بسيده وولي نعمته خارج الحكومة، فطلع علينا بمقال سماه "الكفيل السياسي"(موقع "اليوم 24″، شقيق يومية "أخبار اليوم"، وذلك بتاريخ 6 يناير 2018). وللحقيقية والواقع، فليس بوعشرين وحده من صُدم بالخبر وليس بوعشرين وحده من انتابته رعشة حمى قوية من الحقد والغضب والحسرة… بسبب خيبة الأمل التي شكلها – بالنسبة للذين يستعجلون وفاة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية – فوزه بالمقعدين البرلمانيين في جرسيفوالناظور. لقد كانت الصدمة قوية لكل هؤلاء؛ خاصة، وأنهم كانوا يتأهبون ويستعدون للاحتفال بفقد الحزب لفريقه البرلماني؛ وذلك، إيذانا بالشروع في تحضير مراسيم تأبين هذا الكائن "الأسطوري" الذي يزعج خصومه وأعداءه بتاريخه الحافل وبمواقفه التاريخية وزعمائه الأفذاذ وبمناضلاته ومناضليه الأقوياء الأوفياء. فهو يشكل عقدة لكل من له ماض غير مشرف (تذكروا مذكرات عرشان ومذكرات أحرضان، مثلا) أو ليس له ماض أصلا. لذلك، يتوقون إلى الإعلان الرسمي لوفاته. وبما أن الفرحة لم تكتمل والانتشاء بفقدان الفريق تم وأده في المهد، فقد كان لا بد من "الاجتهاد"، من جهة، في تبخيس مجهود المرشحين والأجهزة الحزبية والمناضلين والمساندين…؛ ومن جهة أخرى، تصفية الحسابات مع الحليف السياسي للاتحاد في هذه المرحلة، التجمع الوطني للأحرار، بسبب احترامه لهذا التحالف. وسوف يتكلف بهذه المهمة الصحافي المعروف، بين زملائه ولدى الرأي العام، بالارتزاق والابتزاز والنصب والاحتيال والكذب والافتراء والبهتان وغيرها من الصفات القذرة التي تشكل السمات البارزة في شخصيته المنبوذة بين أصحاب الرأي والفكر والمبادئ والأخلاق… لقد كان عاديا، من الناحية السياسية، أن يحضر الأستاذ محمد أوجار، وزير العدل باسم التجمع الوطني لأحرار، إلى جانب الأستاذ محمد بن عبد القادر، الوزير الاتحادي المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة وبالوظيفة العمومية، في مهرجان خطابي بمناسبة الحلمة الانتخابية، تعبيرا عن المساندة لحزب حليف في الحكومة وفي مجموعة الأربعة، ما دام حزبه ليس له مرشح بنفس الدائرة. لكن بوعشرين (لسان حال الحاقدين والشامتين…) سيجعل من هذه المساندة العلنية، وإن لم يشر إليها في ثنايا مقاله، مناسبة للنيل من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومن التجمع الوطني للأحرار. وبدون شك أن كل من اطلع على هذا المقال، قد لا حظ، من خلال أسلوبه المتحامل، مدى الضغينة التي تملأ قلب هذا الأفاك تجاه الاتحاد الاشتراكي. وسوف لن أخوض في تفاصيل هذا المقال المهزوز شكلا ومضمونا؛ إذ لو أردت فعل ذلك، فسوف أجد نفسي أمام صفحات وصفحات تناقش الأسلوب الركيك والتركيب المهلهل واللغة الرديئة. وبوعشرين لا يستحق مثل هذا المجهود. فموضوعه، لا هو بتحليل ولا هو بنقد ولا هو بمقال رأي…وإنما هو، من جهة، تفريغ لشحنة من الغل والحقد والضغينة… ضد الاتحاد الاشتراكي؛ ومن جهة أخرى، تعبير عن الرغبة في الانتقام من التجمع الوطني للأحرار في شخص رئيسه السيد عزيز أخنوش، بسبب احترامه لاتفاق مجموعة الأربعة؛ الشيء الذي وضع بنكيران أمام خيارين، لا ثالث لهما؛ والباقي معروف. وبدل أن يعترف الملفِّق الكبير بالغباء السياسي الذي أبان عنه صاحبه، راح يبحث له عن مبرر فيما أسماه ب"الكفالة السياسية"؛ وذلك بهدف، من جهة، الانتقاص من قيمة الاتحاد الاشتراكي (الذي يزعجه ويزعج من يتحدث باسمهم) بجعله مجرد تابع وليس حليفا للسيد أخنوش؛ ومن جهة أخرى، تبرئة سيده من تهمة البلوكاج وإلصاقها بالحزبين معا، ليجعل من بنكيران ضحية ل"الكفالة السياسية" المزعومة. ويبدو أن أتباع بنكيران، و أولهم بوعشرين (كناطق رسمي وممثل إعلامي لهم)، لا يدركون بأن السياسة ليست هي التهريج والشطحات البهلوانية، وليست هي المزايدة والابتزاز السياسي وليست هي المصالح الضيقة الشخصية والحزبية (الكعكة) وليست هي أن تكون في الأغلبية وتمارس المعارضة (كما كان يفعل بنكيران)…؛ وإنما هي أخذ وعطاء وحسابات وموازن قوى. ولهذا سُنت المشاورات والمفاوضات والتحالفات…التي يتطلب نجاحها حنكة سياسية (وليس عنترية وعنجهية)؛ ويتطلب هذا النجاح، أيضا، ذكاء وقدرة على تحليل الوضع السياسي ومعطياته وتشابكاته. وهذا ليس متاحا إلا للسياسيين الكبار، أصحاب الرؤية البعيدة والنظرة الثاقبة. فحين يزعم بوعشرين بأن حزب الأحرار أعطى للاتحاد الاشتراكي "رئاسة مجلس النواب ضد إرادة الحزب الأول في البرلمان"، فإنما يعطي الدليل على عدم قدرته على قراءة وفهم معطيات الخريطة السياسية التي أفرزتها انتخابات 7 أكتوبر 2018. وإلا، فعليه أن يفسر لنا، سياسيا وليس بخشيبات الحزب الأول والحزب الأخير، كيف استطاع حزب التجمع الوطني للأحرار أن يعطي الرئاسة للاتحاد، وحِلفه (أي مجموعة الأربعة) لم يكن يلوي حتى على ثلث مقاعد البرلمان؛ بل بالكاد، يتجاوز الربع. وعليه أن يوضح لنا، أيضا، سر ترشيح الحبيب المالكي لوحده. فلماذا لم يقدم الحزب الأول (وعدد مقاعده لوحده يفوق عدد مقاعد مجموعة الأربعة) مرشحا لمنافسة المالكي؟…لكن، من أين للأفاك أن يفهم مثل هذه المعادلات ويستوعبها؟ وما بوعشرين إلا واحدا من بين الكثيرين الذين لا يزالون يتحدثون عن طرد بنكيران من رئاسة الحكومة (وكأن منصب رئيس الحكومة وظيفة إدارية وليس مهمة انتدابية، يحكمها أسمى قانون في البلاد؛ أي الدستور)، رغم كل التوضيحات الدستورية التي قدمت في الموضوع ورغم كل المبررات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا يحتاج إدراكها إلى ذكاء ولا إلى فطنة. لنساير بوعشرين في هذيانه ولنعتبر أن التجمع الوطني للأحرار "أهدى" للاتحاد الاشتراكي رئاسة البرلمان. فهل من المقبول ومن المعقول، سياسيا ومنطقيا، بعد انتخاب المالكي رئيسا لمجلس النواب، أن لا يكون حزبه ضمن الأغلبية الحكومية؟ فهذا الأمر يبدو من باب تحصيل الحاصل؛ أي من البديهيات.أما حديث الأفَّاك عن تعطيل الاتحاد لولادة الحكومة، فإنما هو محاولة لتبرئة ولي نعمته من تهمة البلوكاج، الذي تسبب، بعناد غبي ومزاجي، في تعطيل مصالح البلاد والعباد لمدة تفوق نصف سنة. فماذا كان ينتظر من يتحدثون عن طرد بنكيران بعد إعفائه من المهمة التي فشل فيها؟ هل كانوا يريدون أن يستمر تعطيل مصالح البلاد، إرضاء ل"زعيمهم"؟ هل كانوا يعتقدون أن الملك (رئيس الدولة) لن يتدخل لتصحيح الوضع، طبقا للدستور، بعد أن استمرأ رئيس الحكومة المعين المكوث في بيته، في استرخاء مستفز ومقزز، وكأن أمور البلاد والعباد لا قيمة ولا أهمية لها، ولا تعنيه في شيء؟ لن تنطلي حيلة من حِرفته الأولى هي النصب (ملف جنحي 22/757/10) على المناضلات والمناضلين، إلا من له حاجة في نفسه، حين يعمد إلى محاولة دغدغة عواطفهم من خلال حديثه عن "تحول حزب إداري إلى كفيل لحزب وطني ديمقراطي.. حزب كبير عانى الكثير في سنوات الرصاص". فليس الأفاك بوعشرين من له أن يحدث الاتحادي والاتحادية عن مصطلح "الحزب الإداري" الذي نحتته الأدبيات الاتحادية (التي أغنت القاموس السياسي المغربي بمصطلحات سياسية حقيقية، وليس بالتماسيح والعفاريت) بمرارة خلال المعارك الانتخابية التي كان فيها التزوير لصالح أحزاب الإدارة سيد الموقف. وليس الأفاك بوعشرين الذي له أن يذكر الاتحاديات والاتحاديين بما يعرفونه عن حزبهم من كونه "حزب وطني ديمقراطي.. حزب كبير عانى الكثير في سنوات الرصاص". فالاتحاديات والاتحاديون يعرفون جيدا تاريخ وماضي الأحزاب السياسية ببلادهم (بمن فيهم حزبهم، الاتحاد) ويعرفون ظروف نشأة كل حزب. ويعرفون قصد بوعشرين أيضا. ولا بأس أن أذكره، بالمناسبة، بأن الحزبين الكبيرين في التجربة الحالية (حزبه المفضل وغريمه)، هما وجهان لعملة واحدة (وقد قالها الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بوضوح وبدون مواربة). فكلاهما نشأ تحت مظلة الدولة، في شخص كل من المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس حزب العدالة والتنمية، والسيد فؤاد عالي الهمة، المستشار الملكي الحالي والوزير المنتدب السابق في الداخلية، مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة. ومنذ انخراط الاتحاد الاشتراكي في تدبير الشأن العام بقيادة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي (حكومة التناوب التوافقي)، لم يعد الانتماء للأحزاب الإدارية يشكل مانعا من التحالف والتعاون والعمل سويا، طبقا لبرنامج متوافق عليه. والاتحاد الاشتراكي، رغم ما اعترى التعددية الحزبية من تمييع ومن تشويه، فإنه يتعامل بواقعية مع الوضع السياسي. ولا بأس أن أحيل تلفيق بوعشرين على موقف شخصي من هذه المسألة، عبرت عنها في مقال بعنوان "التعددية الحزبية بين ‘خطيئة' النشأة و'شرعية' الواقع" ("الاتحاد الاشتراكي"، 29 نونبر 6216). ولن تخفى، أيضا، أهداف الأفاك بوعشرين، من وراء مقاله الأخير("وردة على القبر المهجور"، موقع "اليوم 24" بتاريخ 10 يناير 2018) حول القائد الوطني الكبير، الفقيد عبد الرحيم بوعبيد، إلا على من لا يعرف من هو بوعشرين. ولو كان القائد الاتحادي الفذ لا يزال على قيد الحياة، لما قبل من شخص مثل بوعشرين أن يدلي في حقه بشهادة. فرجل الأخلاق والمبادئ والالتزام والصرامة في المواقف، ما كان ليستسيغ هذه الشهادة من شخص معروف بكونه إما مُبَصْبِصا أو ناهشا. فهو يبصبص لأولياء نعمته ويجتهد في تلميع صورتهم حتى وإن كانوا من أرذل الناس، وينهش في لحم خصومهم الذين هم خصومه بالتبعية، حتى وإن كانوا من أنبل الناس وأشرفهم خُلقا وأعلاهم أدبا. وأختم كلامي عن هذا الذي احترف النصب والكذب والارتزاق… بالمثل العربي المصري "يموت الزمَّار وصوابعه بتلعب". فبوعشرين جُبِل على كل ما هو دنيء، ومنه البصبصة والنهش. وحتى البصبصة قد يستعملها للنهش. ولا أجد من تفسير"للغيرة"التي انتابته، فجأة، على القائد الوطني الكبير، عبد الرحيم بوعبيد، غير هذا. مكناس في 12 يناير 2018