إن تاريخ البشرية تاريخ صراع، و ما تزال اكتشافات علماء الآثار تخبرنا بما حدث منذ الأزمنة الغابرة من قتل ودمار وهلاك. ولأنك تدعي أن ما يحدث في سوريا لا يحله إلا العلمانية، فأعتقد أن كل دولة تنعم بالاستقرار منذ الأزمنة الغابرة مرد ذلك أنهم حكَّموا العلمانية!! و أن كل صراع دامٍ كان مرده الأديان السماوية منها والأرضية!! و أن الظلم الاجتماعي الذي تفرضه الطغمة الحاكمة في كوريا الشمالية وسيطرة الحاكم الواحد آت من الشريعة الإسلامية!! وأن الصراع بين التوتسي والهوتو في رواندا( تخلصت القبيلتان من هذا الانقسام بواسطة الزواج، لكن بلجيكا الاستعمارية أيقظت هذه الأحاسيس بأن جعت في بطاقة الهوية اسم القبيلة) ليس له أصول إثنية بل دينية!! و أن قتل الهنود الحمر أثناء اكتشاف أمريكا كان لأساب دينية وليست رغبة جامحة في السيطرة على الأرض الجديدة!! إنه لتحليل قاصر يحاول فيه أستاذنا فهم الصراعات كلها على أساس ديني. فلو صح ذلك لكان كل صراع فوق هذه الأرض سببه الدين، ولكن ذلك خاطئ لا محالة؛ فإذا قرأت التاريخ البشري علمت علم اليقين أن الصراعات تتعدد أسبابها. ولاشك أن الصراعات التي يتنبأ بها المتنبئون مستقبلا والتي ستكون أساسا حول مصادر المياه لربما سيجد لها صاحبنا علاقة بالتعصب الديني والفكر الغيبي!! إننا لا ننفي وجود صراعات على أساس ديني ومذهبي، ولكن هل يستطيع الأستاذ أن يوافقنا الرأي على أنه ليس كل صراع أساسه الدين. لا أعرف إذن كيف سيتم تحليل الصراع الدامي الذي احتدم في الاتحاد السوفياتي بين الطبقة الأولى الحاكمة؟ لا أظن أيضا كيف يستطيع السيد أحمد عصيد شرح العلاقة المتوترة في شبه جزيرة القرم بالصراع الديني أو المذهبي!! كما لا أعرف كيف يمكن رد الصراع بين جماعة " فارك" والنظام في كولومبيا إلى أصول دينية؟!! و الأمر نفسه بالنسبة لجماعة " إيتا " الباسكية!! و قضية الغجر في أوربا... يشير الدكتور في علم النفس الاجتماعي أحمد زايد في كتابه: "سيكولوجية العلاقات بين الجماعات" إلى تعدد أنواع التعصب، وليس التعصب الديني إلا واحدا منها. فقد " عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانا متباينة من التعصب، فحفظ لنا الشعر معلومات مهمة وقيمة عن التعصب القبلي، وسجل التاريخ – وما زال يسجل – حالات لا حصر لها من التعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات، وخاصة في عصرنا الحديث، ضروبا متعددة من التعصب العنصري أو العرقي. ويعتبر هذا النوع الأخير من التعصب من أكثر صور التعصب انتشارا." (ص84) لن نستطرد في الكلام في هذه المسألة، وإلا فإن هناك صفحات من المرجع السابق ذكره تتحفنا بهذا التعصب بدءا بالمكسيك والولايات المتحدة ومرورا بالصين واليابان والميز العنصري بجنوب إفريقيا وانتهاء بقوميات أوربا الشرقية. لكننا سنقتبس من كلامه فقط ما نقله عن Allport في كتابه :" طبيعة الأحكام المسبقة"(1958) حيث قال:" وقد كشفت دراسة مبكرة ل"ألبورت" أجريت حول هذا الموضوع أن دور الدين بالنسبة إلى التعصب دور متضارب – إلى حد ما – فقد يساعد الدين على ظهور التعصب، وقد يساعد أيضا على عدم ظهوره" ( المرجع السابق،ص88). وجب التنويه إذن إلى ضرورة البحث العميق في مسألة التعصب والعصبية، وألا نحاول دائما التسرع في إلصاقهما بالدين فقط. (للمزيد من المعلومات حول أنواع التعصب العرقي في أوربا طالعْ كتاب" أوديسا التعددية الثقافية" – ويل كيمليكا، ترجمة: د إمام عبد الفتاح إمام). و قد يدعي الأستاذ عصيد أنه لا يدعو إلى نبذ التعصب الديني فقط بل الأنواع كلها، من تمييز ديني وعرقي وجنسي و لغوي، قد يقول إن دعوته دفاع عن الإنسانية جمعاء ضد كل الأخطار التي تتهددها. فنقول له: لماذا تختص العلمانية بالمخاصمة مع الدين والغيبي دون غيرها من العصبيات الأخرى؟ إن وجود صراع على أسس دينية يبن السنة والشيعة، والحرب المتلاحقة والمستمرة بين المسلمين واليهود مجسدا في القضية الفلسطينية المنسية ...لا يعني أنه لا يمكن إيجاد صراعات أخرى قديمة وحديثة خارج سياق الدين والصراعات والمذهبية. ويتضح من ضحدنا لحجته نتيجة عقلية واحدة: أن الدين ليس هو الوحيد الذي يؤجج الصراعات، وأن الاحتكام إلى العلمانية لن يخلق عالما موحدا لا عصبية ولا تقاتل فيه. إن العلمانية تحلم حلما مثاليا مغرقا في المثالية؛ إن الحلم بعالم مختلف، عالم لا اختلاف فيه، عالم لا صراعات فيه ضرب من ضروب الخيال الذي لا يجوز إلا في مخيلة الشعراء. ولنسمع للباحثة الكندية "باربرا ويتم"ر تتحدث عن هذا الحلم واصفة إياه بما يأتي: " إن استئصال الاختلاف يحصل بعباءة حمل وديع يمثل تشريع حركة إنسانية تقدمية شاملة، أو تحت عباءة مركزية العقل، التي يرتديها ذئب " ( الأنماط الثقافية للعنف، ص 221).