أكيدٌ أن المُقدِم على أي عمل ما يعرف كنهَهُ، من حيث صوابُه مقصدا وسلامته أسلوبا ونجاعتُه أثرا. ولهذا، فالأعمال بالنيات في ميزان الشرع، وعلى أساسها تصنف عملا صالحا مأجورا متصل النفع ما تعاقبت الأجيال، أو خطيئة ووِزرا يثقل صحيفة صاحبه بالآثام ما عُمل أو "اقتُدي" به إلى يوم الدين؛ والأعمال بعواقبها وخواتمها في ميزان أهل الدنيا الذين لا اعتبار في تصورهم لليوم الآخر، يوم الحساب، حيث لا تُجدي الديماغوجية أصحابَها، وإنما يفيدُ الصواب. يقول جل سلطانه: "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ." (سورة البقرة. الآية:30) هل ما زال المُشير السيسي يعتبر قيادته للمخطط الانقلابي عملا صوابا؟ وإذا كان كذلك من حيث الدوافع، هل الانقلاب أو ما يُعتبر إنقاذا في اعتقاد الغاضبين على تدبير الرئيس محمد مرسي سليمٌ من حيث الأسلوب؟ وهل هو سليم صوابٌ من حيث مآلاته وعواقبه: أرواح أزهقت، آلاف اعتقلت ونُكِّل بها وسيمت أسوأ ألوان العذاب، وما تزال، طائفية ليس على الأساس الديني فقط وتفرقة صدعت التماسك والتعايش المجتمعيين وأصابته في مقتل، أوضاع اجتماعية تفاقمت وستزداد في ظل ما يُصطلح عليه "برنامج اللا بربامج"؟ في كلمة واحدة، وقياسا لصواب ما اقترفته الماكينة العسكرية بالتواطؤ مع قوى إقليمية ودولية وبتسخير فئات مجتمعية ضُلّل بعضها وغُرِّر أغلبُها، هل يقبل المُشير السيسي أن يُنقلب عليه ويُختطف من مقر الرئاسة ويُزجَّ به في المعتقل، بل ويدان بالتآمر على استقرار الوطن ويتابع بتهمة الإبادة الجماعية، وتشن عليه حرب إعلامية شعواء فاشية تمتد للنيل من شخصه قبل أدائه ومهامه الرئاسية؟ هل يقبل بذلك، أم أنه مطمئن مقتنع بتصريح/فتوى نائب رئيس الحزب السلفي المنخرط في المخطط الانقلابي بعدم جواز الخروج/الانقلاب على المُشير السيسي بدعوى أن شرعيته مستمدة من صناديق الاقتراع؟ وكأن محمد مرسي اغتصب السلطة وفرض نفسه على المصريين رئيسا بالحديد والنار؟ إنها سنة الله لا تجامل ولا تحابي: كما دِنت تدان. وعلى نفسها جنت براقش. كما يقول المثل العربي. إنما ما اقترفه العسكر مهما كانت المبررات والمسوغات قائمة انقلاب مكتمل الأركان، بلغة القانونيين، ولا تُسقِط عنه الصفة الانقلابية الإجراءاتُ التجميلية لتبييضه وشرعنته، فما بُني على باطل لا يصح ولا يستقيم إلا بتصحيح المنطلقات. فالإوزة تبقى إوزة كما شبه السيناتور الأمريكي الانقلاب متحدثا من القاهرة، وعليه، فلا الدستور ولا الانتخابات الفاقدة للشرعية الشعبية تحيل الانقلاب نظاما سياسيا سليما، ولا تأييد جهات دولية لمسار الانقلاب بدعوى سلامة الانتخابات الرئاسية قانونيا، كما جاء في تصريح البيت الأبيض الذي تجاهل ما نقله مراسلو إعلامه من عزوف شعبي منقطع النظير للمهزلة الانتخابية، مثلما تجاهل تقرير الاتحاد الأوروبي الخروقات التي شابت عملية الاقتراع وأسقطت شرعيته. وإذا كان سطْوُ العسكر في مصر على الحكم بات تقليدا، حتى أنه يروج أن مصر لا يمكن أن يحكمها مدَنيٌّ، وهذه قمة الإهانة للذكاء الشعبي والتحجير على فاعليه السياسيين؛ فإن انقلاب 3 يوليوز2013 يختلف عما سبقه من حيث الكلفة البشرية والمآلات. لقد حطم الانقلاب السيسويُّ كل الأرقام في حصد الأرواح، وستبقى مجزرة ميداني رابعة والنهضة خالدة في الذاكرة البشرية وليس المصرية أو العربية فقط، وسيبقى اسم المشير السيسي مقترنا بالمذبحة، وسيبقى "الإنجاز" العسكري الذي رشحه لأن يتبوأ رتبة المشير هو قيادته لحرب على فئات واسعة من الشعب المصري بالميدانين المذكورين. ألا فأبشر يا سيسي! ولا بأس أن يشاركك في هذا "الإنجاز" من جوّز لك الخروج على رئيسك الذي أقسمت بين يديه يوما أن تبقى مخلصا له، ومن وفّر لك الدعم السياسي وأغراك بملاييره، ومن رضي أن يكون سيفا مصلتا على رقاب العباد باسم القانون والقضاء ... أبشروا ياقوم، وأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، يوم تسأل الأرواح التي أزهقت والأجساد التي أحرقت بأي وزر وذنب استُهدفت؟!. هذه "الميزة" الأولى للانقلاب السيسوي، أما الثانية فتتجلى في استهداف التماسك والتعايش المجتمعيين، فالإخوان المسلمون ألفوا الاستهداف من حكام العسكر، واقتيدوا إلى المعتقلات، وحوكموا صوريا، وأعدم الشهيد السيد قطب، وصودرت ممتلكاتهم مرارا وأقصوا من الحياة السياسية، لكن ما أتاه الانقلاب السيسوي يرقى إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتأسيس لطائفية مقيتة تفرض على المجتمع بعد كابوس الانقلاب زمنا ليس قصيرا يلملم جراحه، فيما يُسمى المصالحة الوطنية. غير أنه ومن باب الإنصاف، فليس الانقلاب السيسوي شرا كله، فقد أسدى خدمة جليلة للمشروع التحرري الذي تستشرفه مصر الإباء رغم ما يُثخِنُ اليوم لحمتها الشعبية من جراح غائرة، خدمة جليلة تعتبر شرط وجوب لإسقاط أي استبداد، تتجلى في كشف شبكة الدولة العميقة التي تهيمن على مفاصل الدولة في مجالات عدة، في الإدارة والقضاء والإعلام والاقتصاد والفن ...، لقد أسدى الانقلاب السيسوي خدمة كبيرة بكشفه للمتآمرين على مصالحه وحقه في التحرر والانعتاق، ولم يعد اليوم خافيا أنه ما كان للانقلاب رغم امتلاك العسكر قوة الردع أن يتحقق لولا انخراط من لم يعودوا يخفون على القاصي وليس الداني فقط. وحيث إنه لا إسقاط للاستبداد إلا باجتثاث جذوره، فأحرار مصر "مَدِينون" على الأقل للانقلاب بهذه الجميل. أجل، وبقوة الواقع المشير السيسي أضحى رئيسا، وسنسلم افتراضا أن محمد مرسي لا يصلح رئيسا، وأن الإخوان المسلمين لا يستحقون الانتماء لمصر، لم يعودوا بعد التخلص من شوكتهم وتطهير دواليب الإدارة من "رجسهم" طرفا في المعادلة، فليُرِ "معالي" المشير الشعب مؤهلاته لتثبيت دعائم نظام تعددي الرؤى السياسية، يَضمن الحقوق والحريات العامة، تترجم معارضة حقيقية لما يقترح أو يعتمد من برامج وتدابير ترسخ التداول على السلطة وليس آلية سحب السلم بعد اعتلاء المشير كرسي الاتحادية. الانقلاب بات واقعا اعترف بشرعيته عمداء المجتمع الدولي تثبيتا للمصالح، فما هو برنامج أوْسَمِ رئيس عرفته مصر على حد توصيف أحد الأقباط؟ ما الحلول والبدائل التي يجب أن يكون فريق المشير اشتغل عليها خلال شهور الانقلاب؟ ما هي الخطط الاقتصادية التي ستكسب النظام الانقلابي شرعية واقعية وهي تتحول واقعا تنمويا ملموسا تعيد للمواطن المصري بعضا من كرامته؟ أم أن محاربة الإرهاب الوهمي والمفتعل ستبقى برنامج البرامج، وسيخير الشعب بين القبول بتردي الخِدْمات وسلب الحريات وبين إرهاب متحكم في توقيت انفجاراته ينتقى ضحاياه بعناية ممن يُشك في ولائهم للمخطط الانقلابي؟ لقد صدق المشير السيسي مخاطبيه الهائمين في وسامته، المقتنعين بمؤهلاته، الواثقين في قدرته لتتجاوز مصر النفق المظلم وتتنفس عبق الحرية والكرامة، صدقهم بإقراره أنه لا يملك حلولا للأزمات التي افتعل أغلبها لتكون محركا لغضب فئات شعبية تمّ تجييشُها وأنزلت الميادين مطالبة بإصلاح فسر من طرف المخططين للانقلاب أنه دعوة لتنحي الرئيس محمد مرسي مثلما تنحى الرئيس المخلوع حسني مبارك. وحيث إنه لا حلول لدى الانقلابيين، فسيخير الشعب بين ذل واستبداد ممنهجين وبين فوضى تحرق البلاد وترمي بها في أتون الاقتتال الداخلي حيث سيتم استدعاء النموذج السوري باستمرار. وإذا كان للانقلابيين رأي آخر، فالمجال فسيح والفرصة سانحة لتحقيق منجزات ملموسة على أرض الواقع. وكما يقول المثل المصري الشعبي: "المايّه تكذب الغطاس".