لعل من يجول في المغرب من ذوي هوايات الإستكشاف و التنقيب عن التنوع الثقافي و الأيديولوجي, و حب الإستطلاع يجد ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب إنسان سليم الفطرة محايد الرأي و عادل التحكيم. حيث يلتبس مفهوم الحدود و مواصفات الدولة الديموقراطية, و يصير لغز تحديد سياج العدالة مبهما و يستحيل التفريق بين المشترك غامضا حتى ليشك العاقل في مفاهيم طالما صدعت آذان الأطفال في المدارس ترمي في مجملها إلى غياهب جب النفاق الإجتماعي, و تزيين القبيح و تلميع الصدئ. إن كلمة المغرب كلمة مشتركة بين مناطقه و أقاليمه حيث تطلق على جل ترابه الوطني لغة فقط لا استفادة من ثرواته و اقتساما لخيراته بين أفراده, حيث تنفرد ثلة ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على السفهاء بجل الثروات و الخيرات الوطنية, و يكتفي السفهاء و المساكين بمجرد النظر إلى شهوات الأوصياء و متعهم من السيارات الفارهة و الفيلات الفخمة و موائدهم المزينة بأشهى و ألذ أنواع المأكولات, و قصورهم التي تعد بمسيرة متعبة لحد أبعادها القاصية, فلا تستنكروا ذلك فهو نعمة أنعم بها الأوصياء على المساكن و الفقراء لأجل تنمية خيالهم و توسيع مجال أحلامهم, حتى لا يتجرعوا مرارة أحلام النهار دون تجسيد. في مدن المغرب نجد حقبتين متزامنتين رغم تباعد الظروف الإقتصادية و المناخية, أما الحقبة الأولى فهي المتعلقة بطبقة الأوصياء الذين جادوا على أنفسهم من أموال الطبقة الكادحة باستغلال مناصبهم و معارفهم, فهيؤوا لأنفسهم ظروف العيش الرغيد, ببناء القصور و الفيلات التي لم يخلق مثلها في البلاد فتصدروا الواجهات و حصنوا أنفسهم بقوانين تجعل أبناء الشعب في شراك الجرم و ترميهم خلف القضبان, بينما هم يترنحون و يتفاخرون بأحلى الثياب و ألذ الأطباق و يستمتعون بامتطاء أفضل المراكب و أحدثها, و لا يكتفون بذلك بل تمتد أياديهم إلى أرزاق العباد لمشاركتهم فيها, و سلبهم إياها أحيانا, حتى أنه في أحيان كثيرة يجد المسكين و يكد حتى يهيئ لنفسه و ولده لقمة عيش من فضلات الأسياد فيأتي أحدهم لأخذها فيكتفي بلعق أصابعه عله يستفيد مما علق بها إن لم يتساقط حين يهتز جراء الرعشات التي تصيبه إثر حضور سيد من أسياده. أما الحقبة الثانية فتلك المجاورة لزمن الأسياد, و يتميز مواطن هذه الحقبة بحالته المزرية و ملابسه المتسخة و قلة أكله مع كثرة شقائه, فهو نائم رغم صحوه, و ميت رغم حياته, فلا رأي له ولا مكان له بين الأسياد, حين يتكلم فلا مصغي لحديثه و حين يشارك برأيه فلا تقييم له و لا يحسب ضمن العقلاء, فقد صنف في خانة المعذورين الذين لم يجر قلم الحساب عليهم بعد, معانات نفسية و جسدية يقاسيها أصحاب هذه الحقبة, فلم تصلهم بركات الإستقلال و ما علموا طعمه بعد بل هم في سبات منذ سنين خلت, و حين يستفيق أحدهم من نوم طويل إبتدأ منذ زمن شباب الأجداد الذين أفنوا أعمارهم في الدفاع عن إستقلال رأوا فيه نورا لنا و مدركين بل مصدقين غاية التصديق أن ذلك كنز مفقود فشمروا عن سواعدهم و حاربوا بجدية حتى أتاهم الموت و تحقق النصر عند ظنهم و هو ما أرادوه و ماتوا على ذلك, حين يستفقون تجرهم قوانين المخزن الإضافية إلى غياهب السجون و ظلمات الذل. لكن الحقيقة أن الأحفاد لم ينعموا بالإستقلال قط, بل الأسياد هم من إستقل بالثروات بعد أن كانوا يقتسمونها مع الأجانب الغاشمين. مغرب الحقب لا ينتهي هنا بل هناك زمن العصور الوسطى خارج المدن حيث يصبح الموت غير بعيد من سكان الجبال فلا تفصله بينهم و بينه سوى موجة برد أو موسم ثلج, أو جفاف, إنه مغرب القرون الغابرة, حيث يعيش أقوام خارج الزمن, لا يجدون ما ينفقون حتى لتوفير الضروريات, أما الكماليات فلا حديث عنها حتى في الأحلام, تعلو وجوههم بسمة الأمل و سمات البراءة, ملابسهم أقمشة لستر العورة و تأجيل الموت لأيام و ربما لشهور, حيث تتباين فترات حلول الموت الذي لا يرضى بشخص واحد كقربان و إنما يحصد أرواح أطفال في عمر الزهر و نساء في أوج الشباب, لقد همش الموت حياتهم و صارت بلا معنى, ذلك أن الزواج أولى خطوات الهلاك للنساء, حيث يودع أغلبهن الأقارب و الأحباب بمجرد الحمل الذي ينبئ المرأة بدنو أجلها خاصة في فصل الشتاء, حيث تنعدم المستشفيات و تغلق أبواب المستوصفات –هذا إن وجدت أصلا- فلا طبيب و لا دواء, غير حبر الإمام الذي يخط خطوطا و يأمر بشربها في الماء جاهلا مضاعفات ذلك حين يتفاعل الحبر مع الماء لتكوين محلول متجانس يعلم الله تعالى أضراره أو منافعه. رغم قساوة الطبيعة يحافظ هؤلاء المساكين على بسمة الإستقبال و سمة البراءة التي تطغى على أعينهم و تصرفات الحشمة التي تسود أخلاقهم, إنهم أقوام ربوا أنفسهم فأحسنوا ذلك, و تركوا غبار الذل يلاحق أسيادهم الذين تجبروا و عاثوا في الأرض فسادا, فأكلوا أموالهم بغير حق و قسموها قسمة ضيزى, فأخذوا حصة الأسد و تصدقوا على ذوي الحقوق بما يعود به المخيط إذا أدخل الماء, لقد تقطعت بهم السبل وسط تضاريس وعرة في زمن يسود المخادعون ممالكه و تقنص كلمات الحق بدعاوى باطلة و دسائس المكر و الخديعة, فنهجوا سبل التجهيل و قطعوا وسائل الإتصال بالعالم الخارجي حتى أن أغلبهم يجهل أي سنة نعيش و أي ملك يحكم. إن من يرى هذه الأصناف التي تكون قطعة واحدة هي المغرب يشك أنها دولة واحدة, بمؤسساتها و إداراتها, و حكومتها, حيث تتبادر إلى الأذهان تساؤلات جوهرية تفتقد عناصر الإجابة الحقة, و تنعدم قوانين العدالة السمحة, هذه التساؤلات تقود إلى التشكيك في عدد الحكام, و مدى أهليتهم لتحمل مسؤولية أناس طالما عاشوا قساوة القهر المخزني و تذوقوا مرارة خزي الإحتقار و الذل, فهؤلاء شباب أفنوا أعمارهم في دراسة الحرف و علومه و لا يحصلون على لقمة العيش إلا تحت وطأة أحذية الأسياد, و أولئك ما نسجوا علاقة مع الحرف من قبل و لا علموا عنه و لا عن حجرات التحصيل شيئا, فهم يتنعمون آناء الليل و أطراف النهار, أية عدالة ينادون و هم غير عادلين أم أن مفهوم العدالة عندهم يتجسد فيما هم فيه من كذب و سرقة أموال الشعب بغير حق و تكفلوا بالفقير فما أعطوا حقه و أخذوا زمام تحمل المسؤولية فما رعوها حق رعايتها. فهل يا ترى تم اكتشاف هؤلاء السكان الذين يعيشون في أقاصي الجبال؟ أم أن الأسياد ظنوا المكان خلاء فوفروا عناء الإكتشاف للأجيال القادمة؟ مصطفى أيتوعدي [email protected]