الاستخفاف لم يقتصر على فرعون الذي ورد عنه في القرآن الكريم: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، بل تواصل عبر العصور والأزمنة وتجلّى في أشكال كثيرة وصور مختلفة. وقد أعطى علماء التفسير معاني متعددة ل "استخف قومه"، حيث فسرها إبن الأعرابي أنه إستجهل قومه " فأطاعوه " لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، وقيل: استفزهم بالقوم فأطاعوه على التكذيب، وقيل استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول، وهذا لا يدلّ على أنه يجب أين يطيعوه، فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه، وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى أتبعوه، يقال: إستخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه... مما يلاحظ أنه يوجد قاسم مشترك بين كل المعاني التي حاول علماء الدين والتفسير الإحاطة بها، ويتمثل في استصغار القوم إلى درجة عمياء سواء لخلل فيهم أو لمدى تجبر الحكام، وقد دفعهم ذلك للطاعة العمياء والتسليم المطلق المذل إلى هذا الطاغية المتجبر الذي لم يشهد له عبر العصور مثيل. ومنه نستطيع أن نلج إلى الراهن الذي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية، حيث يستخف بها الحكام إلى درجة لا يمكن وصفها، فتجدهم يتلاعبون بمستقبلهم وتاريخهم وماضيهم وقيمهم وعاداتهم، ووفق منظور سيء للغاية لا يمكن أن يحقق أدنى مطلب ولا يصل بهم إلا للذلّ والهوان، وبالرغم من كل ذلك لم نر شعبا قد تجرأ على إسقاط حاكمه كما فعل القرغيزيون، أو أن الشعوب قالت كلمتها بالفعل وعبر نضال سلمي وحدث ما يمكن أن يشيد به التاريخ. فالشعوب العربية مهانة ومستصغر شأنها ولكنها راضخة إلى حد لا يمكن تخيله من العبث واللامبالاة، ولا نجد أغاني النصر وأناشيد العبقرية وطقوس الفحولة إلا في شعارات براقة لا تسمن ولا تغني من جوع. أليس من الاستصغار أن تعيش الشعوب في مأساة من الفقر والجوع والحكام يتبجحون ببهتان واقع مزيف لا يظهر إلا في الإقامات الأمنية التي تصرف عليها الملايير من خزائن الشعوب وليس من أجلهم بل من أجل أمنهم وأمن بناتهم إن كان لهن شرف يذكر؟! أليس من الاستخفاف أن نرى ونسمع أموالنا تنهب من طرف الحكام وذويهم وأذنابهم ونصمت من دون أي موقف يعيد لنا كرامتنا؟! أليس من الذل أن نرى الحكام يبيعون قضايانا المصيرية في أسواق النخاسة العربية ولما ينطق أحدهم بشعار ما فيه نوع من الانتصار نصفق له جميعا ونهلل خاشعين في محاريب زعيم ماضيه كله دموي وأسود؟! أليس من العار أن نسمع يوميا عن عائلات ماتت جوعا وأخرى ينهشها المرض المزمن وبعدها نصدق الحكام الذين يزعمون أن الشعوب تجري من تحتها الأنهار؟! أليس من الهوان أن نقاطع الانتخابات ولا نذهب لصناديق الاقتراع وبالرغم من كل ذلك تعلن نتائج نحن على يقين أنها مزورة وبالرغم من كل ذلك لا أحد يتحرك ويكتفي بعظم يرمى له عبر نشرات أخبار تترصد مواعيد الزعيم حتى في أداء شؤونه الطبيعية؟! أليس من السخف أن تتبجح تلفزيوناتنا الرسمية بأخبار عن عملية إسكان حي قصديري ثم تفتح المجال لهذه العائلات التي ضاقت الأمرين ليشكروا الزعيم الذي تفضل عليهم بهذا الخير بالرغم من أنه من حقهم القانوني والدستوري ومن واجبه الذي كلف به ويقبض على إثره الملايير؟! أليس من الدياثة أن تنهب أموالنا ليغدق بها الحكام على لياليهم الحمراء في أحضان العاهرات أو يسافر بها أبناؤهم وبناتهم مع عشاقهم وعشاقهن للمتعة الجنسية بين باريس ولندن، في حين الشريفات العفيفات لا يجدن ما يسد به رمق صغارهن؟! أليس من الشعوذة أن يأتي بعض ممن يعتقدون أنفسهم أوصياء على دين الله في الأرض من أجل تسيير شؤون الدول بالخرافات والأوهام وطقوس السحر، في حين نرى الغرب يبني دولته المدنية وينال الناس حقوقهم ومن غير أن نجد رجال الكنائس يصعدون فوق الأجراس ويقرعونها معلنين عن نهاية العالم المدني إن لم تخضع الحكومات للعالم اللاهوتي؟! أحس بالدوران الذي يهز أوصالي، عندما أرى واسمع أموال سوناطراك الجزائرية تنهب والشعب يتفرج ويصفق للرئيس الذي استشرى الفساد في عهده إلى حد لا يمكن تخيله، وطبعا ما خفي أعظم مما نسمع عبر وسائل الإعلام. أو لما أسمع بعائلات تموت جوعا في زمن العزة والكرامة وببلد الثورة التي أعادت مجد ما حسبناه يعود يوما، أتمنى أن يعجل الله قضاءه أهون من أن أكون شاهدا على هذا الخزي والمهانة. أشعر بالوهن وأنا أجد النظام الجزائري جيّش كل إمكانياته من أجل الانتصار للبوليساريو وبزعم مناصرة الشعوب لتقرير مصيرها، في حين يمنع حتى مجرد مسيرة لمناصرة شعب غزة الذي يباد بالفسفور الأبيض وتحرق جثث الرضع عبر شاشات الفضائيات. أحس بالقرف الشديد لما أسمع بأمراء العمائم يهرعون نحو مغرب الأحرار والخطابي وغيره، من أجل المتعة الجنسية وعلى حساب الشرف والعرض المغربي الذي كان رمزا في المنطقة المغاربية. أحس بالثورة لما أرى آل حسني مبارك وهم يعبثون بمستقبل مصر، وبالرغم من كل ما يحدث يطلع أحد الأبناء ممن أعف لساني عن ذكره ويقدم نفسه على أنه مواطن مصري بسيط، ثم يأتي الصحفي ويسترسل في التأكيد على أن هذا "المواطن" المصري بسيط كبقية خلق الله في حارات الفقر والميزيرية، وجاء يعبر عن رأيه ليس كنجل لرئيس الجمهورية ولا أنه رجل أعمال في ذمته الملايير من عرق المساكين ممن لم يجدوا ملاذا إلا في القبور. فهل يعقل أنه يوجد من سيصدق ذلك؟!! أحس بالضيق الشديد وأنا أتابع ما يجري في الخليج من عبث تمارسه الموساد، حيث تقتل وتختطف وتفجر السيارات المفخخة، وبالرغم من كل ذلك لما يأتي الأوروبيون إلى المطارات لا تفرض عليهم التأشيرة في حين الذين يأتون من بلاد العرب أو من المغرب الكبير الذي سيظل أمازيغيا فيخضعون لتفتيش دقيق كأنه يخشى تجنيدهم من الموساد. ينتابني غضب جامح وأنا أتابع ما يجري في العراق من موت وتفجيرات ومجاعة وهو بلد النفط والغاز ويمكن أن يعيش الشعب في رخاء مدى الدهر، وبدل أن تسهر الحكومة التي تنتمي إلى شيعة آل البيت الأبيض وليس بيت النبي (ص) كما تزعم في طقوسها الطائفية، نراها تشيد بالانتخابات وبصناديق الاقتراع، وفي وقت بثت فيه القنوات الأجنبية واحدة من بين ملايين جرائم القتل التي أقدم عليها الاحتلال وببرودة دم. "فتبا لديمقراطية تقتلني جوعا ودياثة ومرحبا بديكتاتورية تقطع لساني ولا تقطع رقبتي" كما علق لي أحد المواطنين من العراق المحتل والمختل الذي أقام أعراسا لسقوط نظام صدام حسين والآن صار يعد المآتم ببغداد ويعض أنامله ندما وحسرة. والله لو تتبعنا ما يحدث في أقطارنا التي تسمى العربية وأخرى الإسلامية ما كفتنا المجلدات، ولكن ما وجب قوله أن الفراعنة الجدد هم أخطر من أولئك الذين تجاوزهم التاريخ، وعقائد الاستخفاف ستتواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مادامت تجد من يقبل هذا الإحتقار ويشيد به إما بالولاء أو بالصمت. هذا إن لم نستفق من الغي ونقرر أنه لن نسمح مرة أخرى لأحد أن يستخف بنا، فالموت عند الكرماء أفضل من العيش تحت سياط الذل والهوان... وللحديث بقية. المقال القادم هل يمكن أن يعيد العرب مجدهم الراحل بالعويل في محاريب الإسلام؟ (03/05/2010)