في منتصف أكتوبر 2009م، تم اعتقال شيخ طاعن في السن في دمشق لأنه دعا إلى بناء دولة القانون وتقليم أظافر التنين الأمني، بتسعة عشر رأسا مثل زبانية سقر، وما أدراك ما سقر، عليها تسعة عشر!! واليوم، فإن سبعين في المائة من المعتقلين السياسيين في العالم مكانهم في السجون العربية، وثمانين في المائة من الإعدامات السياسية والمشنوقين والمخنوقين والمفلوقين، تتم في غرف تعذيب أقبية مباحث أرض العروبة، مع أن عدد العرب خمسة في المائة من الأنام. مع هذا، فإن هذه الكارثة تعتبر، عند وزير الثقافة في بلد ثوري عربي، الدليل القاطع على حيوية الشارع العربي! فالاعتقالات دليل دامغ على حيوية الشعب العربي في مقاومة الاستبداد!؟ وهو ما يعني، بالتالي، أن الدليل على خمول شعب ما هو قلة المعتقلين فيه. وتحت هذا التعريف (الثوري) يصبح الشعب الألماني سيد الأمم في الكسل، والشعب الكندي أبو التنابل والعطالين والعيارين في الكون لعدم وجود معتقلين! وهو يذكر بالقصة التي تروى عن المجنون حينما سئل لأي غرض صنع الجسر، حيث أجاب: كي يمرّ النهر من تحته؟! ومشكلة المسيح عليه السلام كانت مع طائفتين من الناس: «الكتبة» و«الفريسيين»، فأما «الكتبة» فهم المتشددون الذين يقرؤون النصوص بعيون الموتى، وأما الفريسيون فهم «مثقفو السلطة» الخبثاء الذين لا ينقصهم ذكاء، ويجيدون تزوير الحقائق باللعب بالكلمات. ولكن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وبقدر ذكاء الشيطان بقدر اللعنة التي تلبسته، وتاب الله على آدم لاعترافه بالخطأ؛ فهذا هو الفرق بين طريق آدم وسبيل الشيطان.. وساء قرينا. والكثير من الانتخابات تتم في العالم العربي زورا وسرقة وبطرا ورئاء الناس، تحت هتاف الشباب الحزبيين بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم.. والنتيجة معروفة، والكل يكذب، والكل يرقص في الاحتفالات، والكل يمارس كوميديا يقودها ساحر كبير في المسرح. مذكرا بقصة سحرة فرعون.. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم.. وفي ليبيا، مثلا، تم دفع الجزية عن يد وهم صاغرون، عن طائرة لوكربي بمبلغ ب2.7 مليار دولار، مع الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للحادث، وهو تأكيد على أيام السحر التي يعيشها العرب. وقبل فترة في لبنان، هجم الناس على التلفزيون من أجل مطرب تافه، وهم يهتفون بالروح بالدم نفديك يا ملحم، كما اعتاد العرب الهتاف للديكتاتوريين في بلادهم. والطبيب يعرف حرارة المريض بميزان الحرارة والهذيان، فيفهم لماذا يهذي من وطأة الحمى. وإذا كان المتربعون على عرش التوجيه هم الرقاصات والطبَّالون فتودع من الأمة. وصدام المصدوم استبيح دمه وشنق بأيدي العراقيين، مع أخيه برزان في يوم الكريسماس وعيد الأضحى، فضحي به مثل كبش أملح، في الوقت الذي تطوعت فيه محطات عربية لنشر خطاباته الميتة ومقابلات ابنته رغداء بدون رغد. والقرآن علمنا قاعدة ألا نفرق كثيرا بين أحد منهم، فهناك (صداديم) كثر، ولكن لا أحد يتكلم عنهم ولا يتجرأ، وإن فقد أحدنا عقله وكتب ما نشر. والمشكلة أن صدام موجود في قلب كل واحد منا ينتظر فرصته للانقضاض، وما يحجمه هو عدم التمكن فقط. وأول سورة نزلت من القرآن عالجت مشكلة الطغيان. وتكررت كلمة (الطاغوت) في المصحف ست مرات، و(الطاغية) مرة واحدة، أما مشتقات (الطغيان) فجاءت في ثلاثين موضعا. وفي مكان، مزج الجبت مع الطاغوت أي السياسي مع الديني. وفي مكان، اعتبر عبيد السياسة نظراء القردة والخنازير. واعتبر القرآن أن المشكلة ليست في صدام ونيرون وهتلر وستالين وترومان وجوبيتر وبول بوت وأشباههم، بل هي مشكلة (إنسانية) مختبئة في تضاعيف نفس كل إنسان. لا يختلف في هذا العربي عن الأمريكي. وكلمة الإنسان في سورة العلق معرّفة (الإنسان) وليست نكرة؛ فتشمل كل إنسان، والطغيان بذلك موجود (كمونيا) في قلب كل واحد. ومنه وجب ألا نثق بأي إنسان أو نراهن على الطيبة عنده، فأي منا إذا وضع يده على (القوة) تحول، مثل قصة التحول عند كافكا، إلى وحش كاسر بأظافر وأنياب... ما لم يفرمل. وهذا لا علاقة له بالفرد والطيابة والسذاجة بقدر امتلاك الفرد للقوة. وحين راهن الفرنسيون على نابليون الثالث الأهبل، فتح سجن جزيرة الشيطان في مستعمرة غوايانا الفرنسية، وشحن لها خلال سبع وخمسين عاما عشرات الآلاف من المقرودين. ولولا معرفة الرأي العام العالمي بصورة فضيحة، لربما بقيت تعمل بكامل الطاقة حتى اليوم. وهو ما حصل مع سجن تازمامارت في المغرب، فكتب عنه بنجلون تلك العتمة الباهرة؟؟ ولا يمكن لأي سيارة أن تصنَّع في أي مكان في العالم بدون فرامل إلا في العالم العربي، فكل السيارات السياسية في العالم العربي تمشي بدون فرامل؛ فنحن في سلسلة من الكوارث من بغداد إلى البليدة، ومن عامودة إلى حلايب ونواكشوط. ولو أن أي (معارضة) وضعت يدها على (القوة) ما كان في يد صدام، لفعلت ما فعله صدام؛ فهذا قانون وجودي مثل تمدد المعادن بالحرارة، وتغير لون الوسط الحامضي إلى الأحمر في الكيمياء، والانشطار النووي في علم الذرة، وتّي إن تي (TNT) في تفتيت الجبال الراسيات. ولو افترضنا خيالا أن صدام شحن إلى فرنسا ليحل محل ساركوزي الحالي، وحملت الألمانية ميركل إلى مصر أيام عبد الناصر، وراقبنا ما يحدث في هذه التجربة المثيرة؛ فسوف نفاجأ، بعد زمن ليس بالطويل، بصدام ديمقراطي مهذب بدون شوارب. وميركل والجماهير تهتف بحياتها وتندب وتنتحر في مماتها، كما حصل لقطيع الجنون مع موت الطاغية، مع أنه قاد العرب إلى كارثة عاد وثمود وفشل في الامتحان. ولكن العرب عندهم قدرة سحرية على تحويل الهزائم والكوارث في غبار الكلمات إلى انتصارات. وهذا يكشف الغطاء عن المعادلة الاجتماعية والثقافية للإنسان وأن المجتمع يشكل الإنسان فيمنحه الجينات والدين واللغة؛ ولكن الأخطر هو الثقافة، فبوش لم يخرج من بطن أمه (باربارا) ديمقراطيا، بل خرج كما خرج (بيبي الثاني) من رحم امرأة فرعونية؛ فأما بوش فشكلته الثقافة الأمريكية، وأما صدام والفرعون بيبي الثاني فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين. والثقافة يمكن أن تشكل الإنسان بأشد من مصانع الفولاذ لخام الحديد، فتخرج سيارة مرسيدس أو حاوية قمامات. ومن يخرج عن الثقافة يطحن بأشد من البسكويت. وفي عالم الأرانب والدجاج يعالج المجروح من رفاقه ليس بالضماد والمطهرات، بل بالنقر والعض في مكان الدم حتى الموت. ويذكر برتراند راسل عن حماره الذي علق في الزريبة واشتعلت فيه النيران، أنهم عجزوا عن إقناعه بالخروج وهو يحترق حتى تم شده بالسلاسل والحبال. وفي البلدان الثورية، يضعون في السجن من يقوم بثرثرة الأنترنيت فيتناقل مقالة للمعارضة مع آخرين ويسمى حاقدا على النظام، وهو أمر مضحك لولا أن صاحبها يبكي في أقبية المخابرات. وأنه أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا. ويبدو أن العالم الذي نعيش فيه أصبح شمالياً غربيا يضم الأعضاء النبيلة ومراكز الفهم، وجنوبيا سفليا ومنه عالم العرب يضم الأمعاء والأقدام. وتريد المخابرات مكافحة انتشار المعلومات مثل ساحرات العصور الوسطى، بمكانس من قش لإسقاط أطباق طائرة تمر فوق رؤوسهم بسرعة الضوء. وقد يتعجب المرء أحيانا حينما يكتشف الغول المرعب الذي يختبئ في صدر كل واحد منا، حينما يتولى مقاليد الأمور، حتى لو كانت تربية الأرانب. وفي المدارس يعتبر الأستاذ نفسه ربا على الطلبة المنكوبين، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. والقرآن استخدم كلمة (الرب) على لسان يوسف مع السجناء، فقال لمن سأله عن تفسير المنام: ارجع إلى (ربك؟). ويوسف هنا لم يقصد بهذه الكلمة رب السماوات والأرض وما بينهما، وخالق النبات ومرسل الرياح وفالق الإصباح ومخرج الحي من الميت، بل الرب الفعلي في حياة الناس: فرعون. وهناك من المثقفين من يشتري بالفكر ثمنا قليلا؛ فتقف واحدة شيوعية لتمدح أحد الجبارين بقولها: أنت رب القلم والسيف؟! فيكافئها (ربها) بإعادة توليتها منصبها السياسي في مكتب لا يزيد على ديكور. وتشبه الجيوش العربية مدارسها، مثل الضابط بالنسبة إلى الجنود، والجنرال بالنسبة إلى الضباط، والطاغية مقابل الجنرالات؛ فتختزل إرادة الجماعة في إرادة فرد. ويتم سحب الأبعاد الثلاثية للإنسان (التفكير والإرادة والاستقلالية) لينقلب إلى مسدس أو بوق للقتل أو الهتاف؟ وهل يمكن لجندي أن يفكر؟ أو يستقل؟ أو يعصي الأوامر؟ أو يراجع رئيسه أو يناقشه؟ هل إذا سرق إنسان سيارة قالت له من أنت؟ أم لو أمسك أحدنا عصا ففلق بها رأس آخر تقول له توقف؟ إنها نقلة الانسلاخ من الآدمية إلى رتبة الشيء المفعول به أليس كذلك؟؟ فيتحول الإنسان إلى بوق للنفخ، ومسدس المساعد عقا الذي ذبح محمد أعبابو، وحجر الشطرنج في لعب كسباروف.. ومنه عقم مناهج التدريس في العالم العربي؛ فهي الرحم الذي أوجد الجيش. والمشكلة ليست في تغيير فقرات في المناهج، بل في تغيير جو التعليم القاتل برمته؟ ونقله من موات (النقل) إلى حركة (النقد). في أمريكا أجروا تجربة على البشر أعطوا فريقا دور السجانين وآخرين دور المسجونين؛ فصدم الرأي العام، وتبين أن ثلثي البشر عندهم استعداد لأنْ يتحولوا إلى فراعنة. وتم إيقاف التجربة بعد ستة أيام، وكان مقررا لها أن تستمر مدة أسبوعين، وحُمل البعض في حالة انهيار عصبي إلى المشفى. وكما قمع الشاه الثورة الإيرانية؛ فإن الجمهورية (الإسلامية) قمعت الطلبة في صيف 2003م كما كان يفعل الشاه من قبل، ثم مرة أخرى عام 2009م، وتحالفت على نحو استراتيجي مع نظام البعث، وهو علماني يكافح حركات إسلامية محلية، بأشد من فيروس السارز وأنفلونزا الخنازير. أليس ذلك مضحكا مسليا عن سخف السياسة؟ ذهب برتراند راسل، الفيلسوف البريطاني، في كتابه «السلطان» إلى أن كل واحد منا لا مانع لديه من أن يصبح أحد آلهة الأوليمب. وأكد هذه الحقيقة أبو حامد الغزالي فاعتبر أن «أعظم اللذائذ الحكم»، وأن «آخر ما يخرج من قلوب الصالحين متعة الألوهية». وفي المثل العربي «يا حبذا الإمارة ولو كانت على الحجارة». وعندما وصىّ رسول الله (ص) أبا ذر قال له: نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها. ولو جلس الناس يوم تزوير الانتخابات في بيوتهم في بلاد الانتخابات المزورة، وقالوا سوف نشرب الشاي، هل سيدخل عليهم رجال المخابرات فيقتادونهم بقوة السلاح إلى صناديق التزوير؟ إننا نعيش عصر السحر العربي أليس كذلك؟ جاء في كتاب «الدين في شرك الاستبداد»، للرئيس الإٌيراني الأسبق خاتمي، أن رئيس العيارين أبو ليث الصفار زحف إلى بغداد للاستيلاء على الخلافة، فحذروه من العهد!! فطلب من أحد الأشقياء أن يأتي بعهد الخلافة ليقرأه على الناس! فما كان منه إلا أن أحضر سيفا ملفوفا بخرقة، فاستل أبو ليث السيف وصرخ في الحرافيش والزعر: هذا عهد الخلافة، وبهذا السيف ملك الرقاب! ونحن إن شاء الله سنملك الخلافة والرقاب والعباد بهذا العهد!! فهتف الجمهور: بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم!!