صدر قبل بضعة أشهر عن دار كنعان بدمشق، الجزء الثالث، والأخير من مذكرات الكاتب والناقد الفلسطيني الكبير يوسف سامي اليوسف والتي حملت اسم «تلك الأيام». لقد أراد الكاتب من مذكراته، بأجزائها الثلاثة أن تكون «رسالة يرسلها الزمن الراهن إلى الزمن الآتي ليعرف القادمون الجدد إلى عالمنا هذا، بعد عشرات أو مئات السنين، ماذا حل ذات يوم، وذات مؤامرة بالشعب الفلسطيني. هذا الشعب البسيط والمحب للحياة من نكبات وتقتيل عندما كان على أرضه، ومن ذلك وهوان عندما دفع قسراً، وتحت تهديد قوة غاشمة، لا قبل له بها، إلى التشرد في رحلة عذاب قل نظيرها فيما سمعناه وقرأناه من نكبات حلت بالشعوب والأمم المستضعفة. كرس يوسف اليوسف الجزء الأول من سيرته لاستحضار لوبيا، المكان الذي ولد فيه وأمضى السنين العشرة الأولى من حياته في ربوعه حيث «الندرة والبساطة القادرة على إنتاج الطمأنينة في النفس» ولأن الصهاينة لم يكتفوا بطرد سكان قريته مع مئات الألوف ممن طرد من سكان فلسطين، بل عمدوا إلى تدمير القرية وإزالة أي معلم يشي بأنها كانت ذات يوم وادعة بأهلها وجيرتها، شأنهم مع مئات القرى الأخرى التي حولوها إلى موجودات، لا تمت بصلة إلى ماضيها، لذا فقد عمد الكاتب، مما وعاه الطفل الذي كانه وما سمعه من حكايا الكبار، ومن نزر يسير، عن لوبيا، في كتب البلدانيات، والتاريخ، وكتب الرحالة، إلى رسم قريته كما كانت، ببيوتها، وبساتينها، وكل حجر فيها، وكل تفصيل مهما خلته صغيراً، فإن الكاتب يراه ضرورياً ابتغاء تخليد قريته «وتزويدها بالمناعة التي تصد عنها أمواج الزمان» لكنه وعبر لغته التي تتخلق عن وصف مدهش وغض، قد انتزع قريته من يد الأعداء، وأعاد لها البهاء الذي تعيه الذاكرة.ومع اللغة، التي تبعث الأشياء وهي تصفها، يختلط المكان بالزمان والحنين بالأسى، وتتحول القرية إلى ما يشبه «الفردوس المفقود» وبقدر ما ترق اللغة وتعذب وهي تصف الحقول، والأزهار، والنسائم، وبقدر ما تستبطن من مدلولات وجدانية يبعثها تذكر حجر من حجارة القرية، وهو «حجر الغمارات» الطافح بكل الحياء والخفر المتأصل في حياة آبائنا وأجدادنا، بقدر ما تكون ساخطة وحاقدة وأزدرائية ضد الذين سلبوا أرض الفلسطينيين وضد الذين ساعدوا العدو على فعلته النكراء.والواقع فإن «تلك الأيام» بأجزائها الثلاثة تفيض بالحقد، واللعنات على الذين تسببوا في نكبة الفلسطينيين، وتشريدهم على ذلك النحو المروع الذي لا يعرف حقيقته إلا من كابده، وتكاد أحياناً لا تمر صفحة، أو صفحتين، إلا وهي تحمل الشتائم والحقد على اليهود الذين ما أقاموا كيانهم الغاصب فوق أرضنا إلا بغية امتصاص، ونهب ثروات المنطقة، يساعدهم في ذلك الاستعمار الأوروبي الأميركي الذي ما ارتضى أن يكون خادماً للصهاينة، إلا لأنه في الأصل ليس أكثر من مصاص لدماء البشر. ولأن حضارة الغرب قامت أصلاًَ كما يرى المؤلف على القرصنة، فقد توجوا سجلهم المديد في سرقة الشعوب واجتثاثها من أوطانها بسرقة وطن الفلسطينيين ومنحه هبة رخيصة للذين لا يتقنون في هذه الدنيا إلا فن الربا.ولا يستثنى يوسف اليوسف من حقده وشتائمه العالم العربي الرسمي، عالم الحكومات المتآمرة مع الغرب ضد شعوبها، بل أنه يرى أن «إسهام العرب الرسميين في بناء الغيتو الصهيوني هو أكبر بكثير من إسهام أوروبا وأمريكا مجتمعتين» أنه لا يسمى ما جرى بين العرب و«إٍسرائيل» حروباً بل مناوشات، ولو أن ما جرى كان حروباً لما ظلت «إسرائيل» موجودة حتى الآن. ورغم تشاؤمه من حالة العرب الراهنة، وحالتهم في المدى المنظور، إلا أنه يؤمن بالمستقبل، فالتغيير «هو أبدى صفات الواقع، وأن الزمان مفتوح إلى الأبد، وأن إغلاقه هو المحال عينه، فأين يهربون؟» لذلك فإنه وفي رسمه لمعالم قريته، التي أزالها الصهاينة تماماًُ عن خارطة الوجود، يدشن «حركة الاسترداد التي سوف تنتصر حتى ولو بعد مئات السنين».يبدأ الجزء الثاني من «تلك الأيام» باستقرار يوسف اليوسف وعائلته في بعلبك، مدنية الشمس، عام 1950، ويتواصل حتى العام 1975، وفي اختيار هذا العالم لإنهاء الجزء الثاني من مذكراته يعدد الكاتب أسباباً كثيرة منها أن العام 1975 شهد نشر أول كتبه «مقالات في الشعر الجاهلي» ومنها أن الدنيا كانت حتى ذلك التاريخ «لم تزل تحتفظ بالكثير من البكارة والطهارة أي أن الحياة كانت معجونة بالرونق والعذوبة» وفيه كانت الهزيمة من حصة الإمبريالية. وبعد ذلك التاريخ ابتدأت الطفرة النفطية وابتدأ معها ما يسميه يوسف اليوسف «الطور اليرقاني المحموم» الذي ما يزال مستمراً حتى يوم الناس هذا.والواقع أن هذا الجزء الثاني، يكتظ بمرارات المنفى والتشرد، حيث تحصيل لقيمات قليلة من أجل البقاء على قيد الحياة فيه من المتاعب، وذل النفس، ما تعافه النفوس الكبيرة، وما لا تقدر عليه الأجساد الطفلة فكيف يوسف اليوسف، الذي أخذ يشب في هذه الدنيا، وما له من زوادة، تعينه على قساوة العيش إلا جسد مهزول، يقربه من عالم الأموات، بأكثر مما يضعه مع الأحياء، الذين عليهم أن يكونوا أصحاء تماماً، كي يجابهوا شظف العيش، وأشقياء المدن، وفي هذا الجزء الذي أراه أشد تعذيباً لأعصابنا، وامتحاناً لبقائنا ضمن بني البشر، نرى ولادة الإنسان، في رقعة الشقاء الفسيح، ونرى المأساة وهي تشحذ الفلسطيني فتجعله أكثر مضاء وأكثر استعداداً لإثبات موجوديته في هذا العالم.ويشهد العام 1954 نزوعاً زاخراً من يوسف اليوسف باتجاه المعرفة التي راحت تغوص يوماً بعد يوم في أعماق الأدب والفلسفة والتاريخ، وفي مغلقاتها. وقد انضافت آلاف الكتب التي لم يقرأها فحسب بل وعاها وحفظ جل مكنوناتها إلى ما راح يتخلق في داخله من طاقات ومواهب وأنوار» فخلق منه واحداً من أهم النقاد الفلسطينيين والعرب. ومنذ البداية أمسك بسر الكتابة، وسر الكتابة هو اللغة، التي على الكاتب أن يجيدها. ويغوص في أعمق أعماقها، ليخلق من قلبها اللغة التي يريد، بعد أن يعطيها الكثير من روحه؛ التي من دونها تبقى أشبه بحجارة صماء. في هذا الجزء الثاني إذاً دهشة الاتصال بالعالم، الذي يعطيك لذاذاته التي ستكون حتى ذلك الوقت على حد تعبيره «تعبيراً لوعي الثمالة، وليس لوعي الدلالة» وكما أن الروح في هذا الطور قد راحت تشق طريقها في الدرب المُعَّذب، اللائب دوماً عن الحقيقة، فإن الجسد ومع تجربة التطوع في الكتيبة 68- كتيبة الفدائيين – «قد نال نصيباً من الجدوى، جراء تلك التجربة العسكرية الخصيبة، إذا صار رشيقاً وخفيف الحركة، وسريعاً في المشي، ومنتصباً كالرمح». وكما أنهى انتسابُه لكتيبة الفدائيين طفولَتَه ومراهَقتَه, ووضعه في لجة الشباب والرجولة، فإن التسرح من تلك الكتيبة، بعد أربعة أعوام على الانتساب لها قد جعله يشعر بأنه قد شاخ إلى حد الهرم. وفي هذا الجزء من المذكرات نرى اليأس من الحياة، إلى حد محاولة الخلاص منها، ونرى أيضاً الفرح بما كل مبهج في هذه الحياة، من الحقول والأزهار والعمائر التاريخية، وفي المخلصين من الأصدقاء على قلتهم وفي قصص الحب الأول، التي ليست الفتيات فيها تجسيداً لا تصاع الجسد تجاه الشهوات، بل هن سُمُوُّ الروح إلى المثل الأعلى الذي يكاد لا يدرك. مهما طاولته الأفكار والخيالات، والرؤى، ومهما حاولت اللغة، والشعر كشكل أصفى من أشكال تخلقها لأنه كالسراب الذي ما إن تظن أنك وصلت إليه، حتى تجده كمثل غيره. أما الجزء الثالث والأخير من المذكرات، والذي تلقفناه طازجاً قبل أسابيع. فقد جاء كما يقول المؤلف-« ليكون بمثابة سرد أفكار بالدرجة الأولى.»وهي أفكار من الصنف الوجداني أو الذاتي الصادر عن التحسس أكثر مما هو صادر عن التذهن أو التفكر». وكثير من الأفكار التي عالجها يوسف اليوسف في هذا الجزء كان سبق أن تعرض لها؛ بالتفصيل في مؤلفاته السابقة، ولكنها تأتي هنا ضمن نسق كلي يحدد موقفه من الحياة والموت، ومن البشر ومآلهم في هذا العالم الذي يهمش المبدعين «ويقيم الأعراس للخصيان»، العالم المليء باللاجدوى، واللماذا: ورغم أن «اللماذا» تحضر في الجزء الثاني من المذكرات إلا أنها في هذا الجزء الأخير تكاد تكون المهيمنة. إنها السؤال الذي يجعل الحياة والموت سيان، لا بل إن الموت قد يغدو في كثير من الأحيان هو المشتهى لاسيما للنفوس الحساسة التي لا ترضى بالحياة كما قُسِمت لها، بل تكابد اغتراباً عن كل ما يحيط بها، بل وحتى عن حالها التي تراها أحياناً جانحة إلى التسليم بما يُنْصَبُ لها من فخاخ، أكان من البشر، أم من صبابات الحياة التي لا يتنكر الجسد لها. ورغم رحلته في الأفكار مفنداً الفلسفة الأوروبية، ومعيداً كل ما هو خالب، وجميل فيها، إلى أصوله الشرقية، إلا أنه يظل من حين إلى آخر يتذكر بلدته في فلسطين، لوبيا، التي ستظل وحتى الشيخوخة التي تركت الجسد نهباً للأمراض، تمثل «وحدة المكان والزمان ومصباً من مصبات الحنين الغالية على فؤادي، أو قل إنها الثالث الذي لا هو زمان ولا مكان، وإنما هوية من شأنها أن تتجاوز جميع الهويات». وأحسب أن الفصل الرابع وهو بعنوان «الشعور والتجربة» والذي اقتطفت منه قبل قليل ذلك المقطع عن لوبيا، هو واحد من الفصول التي لا يمل الإنسان من قراءتها، بل التي كلما قرأها، كلما غاص في أعماق لم يكن قد بلغها في القراءة السابقة. إن البشر يسرحون قليلاً في أعماقهم فلا يستيقظ فيهم إلا الغرائز، فيهرعون لإشباعها، أما أن يصل الإنسان إلى استبطان نفسه، فيرى أن في داخله إنساناً، أعظم منه، يستحثه دوماً على الكمال، فذلك هو ما يصنع العظمة في النفس، وفي الكتابة. وكما أعاد يوسف اليوسف في الجزء الأول من مذكراته وصف قريته حجراً حجراً، وحارةً حارة، فإنه يعيد في الجزء الثالث لغوطة دمشق البهاء الذي كان لها في الخمسينيات والستينيات وحتى أوائل السبعينيات، عندما كان بالإمكان القول حينها إنك أن أردت أن تستحضر صورة للفردوس السماوي، فإنك لن تجد مثالاً أشد قرباً والتصاقاً، كما الغوطة حينها.. وأخيراً فإن يوسف اليوسف لا يخشى، أبداً، من الحدة التي يبديها تجاه من سلبوه أرضه، ومن ساعدهم في ذلك السلب. إذ، وكما يقول في الجزء الثاني من المذكرات، «ما من عاقل سوف يلوم الفلسطينيين لو أنهم فكروا بإطفاء الشمس أو استئصال الكينونة من جذورها، ولو كان ذلك أمرا ميسورا لما فكرت بشيء سواه ولقد حتم علينا التاريخ كما يقول في الجزء الثالث أن تكون ساخطين حاقدين، أنا والكثير من أبناء جيلي الذين شردهم الصهاينة بقوة السلاح والمجزرة والعدوان»: إنه الأمر الذي حدا بالبعض إلى اعتباره ازدرائيا ومتعالياً، مع أنه في أعماقه، محب كبير للإنسان. ورغم إيمانه الجازم بأنه ما ساق أفكاره عن كل شيء من أشياء هذه الدنيا، من البشر، إلى العقائد والفلسفات، والآثار المتبقية من القرون الخالية، إلا وهو راسخ الإيمان بأنها الصواب عينه، فإنه ينصح قارئه بالتمحيص والتثبت والتفتيش «وذلك لكي يتبين الرشد من الغير».. وبالإضافة إلى استبطانه العميق لِكُنْهِ الأشياء، ومآلها النهائي، فإنه حريص على أن يسوق ذلك بلغة عالية، فيها كل بهاء العربية، وقدرتها الفائقة على القول، بحيث، ومع يوسف اليوسف فقط يمكن القول بأنك تقرأ اللغة، فتعرف صاحبها، من قاموسه الذي نحته، بأزميل عقل متوقد، رافضاً سهولة المألوف، وباحثاً دوماً عن طريقته الخاصة في تخليق اللغة، وبعثها حية، وملأى بالدلالات. وأحسب أنه وكما أعرفه وقد غرس هذه الثلاثية في حديقة النبت الأدبي الخصيب تواق بالمثل، لرؤية ما هو أصيل، وخلاق لدى الآخرين، وقد أخذ مكانه اللائق، في هذا الأبد، الذي لا مفر لنا من العيش فيه، وحسبي في هذه العجالة أن أكون قد أضأت بعضاً مما أراد المؤلف قوله، في عمل استغرق سنين طويلة من عمره. إنها دعوة لقراءة هذه المذكرات. ولكن، حذار، فإنها لم تكتب للهواة، وللذين هم في عجلة من أمرهم، بل للذين لديهم الوقت المديد. لإعطاء عقولهم فرصة لأن تعمل، وتكد. من... تلك الأيام بالإذن اللطيف من مؤلف العمل الصديق يوسف سامي اليوسف، ومن ناشره الصديق سعيد البرغوثي، اقتطف من «تلك الأيام» هذا المقطع:حين أحاول أن أستبطن نفسي، فإنني كثيرا ما أشعر بأن في باطني، وعلى مسافة سحيقة غائرة، يستتب، بشكل كامن أو مضمر، إنسان أحسبه جد عظيم، أو قل إنه أعظم مني بكثير. ذاك هو الإنسان الصرف الذي يحوز عل العنصر الشامل، والذي لا يسمح للكمال بأن يتخارج إلا على أقساط بينها فواصل زمنية ليست بالقصيرة، ولكن وجود هذا الأنا المحض في سيرتي المكتومة هو إشارة نصف صريحة إلى أنني متجذر في ماهيتي، أو في باطني الخاص.ولكن أهم ما في الأمر أن ذلك الكائن حصرا هو الذي يحن إلى الأعالي ويشتاق إلى الحضرة الماورائية. ويتذوق الجمال ويتصل به على الدوام. وكثيرا ما أسمعه وهو يحثني على الالتزام بإنسانية الإنسان وشرفه وكرامته الرفيعة المقام، ولاسيما في هذا الزمن المهدور الكرامة والمطلول الدماء. ولكن الوعي الذهني البارد (الذي يطرح علي هذا السؤال باستمرار: لماذا تتعب نفسك؟) كثيرا ما يلجمه ويقلص شوطه أو مسافة خياله ويؤوب به إلى ساحة الواقع الماحل. أو الخالي من كل ما يملأ وينعش. وهذا يعني أن وعي الدلالة يشكم وعي الثمالة ويجبره على الضمور بل حتى على التلاشي، أو على الاستحالة إلى هلام. وهذه واحدة من الرذائل الكبرى لعصرنا الراهن.كما أشعر بأن الأنا الآخر الكامن العميق، إذا حضر أحسنت، وإذا حضر ذوبني فأزالني بحمض كثيف. ولا مراء عندي في أنه هو الذي يكتب حين أمارس فعل الكتابة. وحين أدرك أنني لا املك أن أقنع أحدا (مع أنني كثيرا ما أرى بعض الأردياء والسفهاء والأغرار وهم يهيمنون على ألباب الناس ويجذبونهم إليهم بيسر وسهولة)، عندئذ أقتنع بأن صاحبي الباطني الراخم في جوفي المجرد قد تخلى عني لسبب لا أدريه. وكثيرا ما حاولت أن أتعرف عليه من نقطة الكثب، ولكنني لم أفلح إلا قليلا وحسب. وعلى أية حال، فإنني اثنان على الأقل، وربما كنت أكثر من ذلك بكثير.إن انشطاري إلى كائنين، أولهما ينتسب إلى الثمالة وثانيهما إلى الدلالة (وأنا احترم الشيئين معا، وعلى قدم المساواة) هو ما أهلني لأكتشف أنني متناقض إلى حد لا أصدقه أنا نفسي. ففي بعض الأحيان أرى الدنيا جذابة، يانعة، رائعة، وفي أحيان أخرى أتمنى زوال هذه الأرض التي «توارثها الجدوب» على حد قول عبيد بن الأبرص، والتي تبدو لي في بعض الأوقات أنها ذاوية ذواء لا اخضرار بعده ولا ازهرار. ومع هذا الموقف المسرف في التشاؤم. فإن الجمال مازال يبغتني ويخلب لبي أو يتيمني ويخطفني إلى البعيد حتى في طوري الشائخ هذا. وفضلا عن ذلك فإن عقلي كثيرا ما يلجمني ويصدني عن كل تطرف أو إفراط، فأنا أو من أيما إيمان بهذا المبدأ: كلما كبر العقل صغرت الأشياء.حقا إنني مزيج من الفطنة وعطالة الذهن، إذ كثيرا ما تنطلي علي الحيل فأكون سهل الاستدراج نحو المزالق الخطيرة، بل ينطلي عليّ الخبثاء الماكرون، فلا أشعر بأنني فريسة لحيلة دنيئة إلا بعد فوات الأوان، وقلما أدرك في الوقت المناسب أن ثمة مطبا ينتظرني وأنني سوف أتردى فيه عما قليل. ولأعترف بأن ذهني كثيرا ما يغيب عند شدة حاجتي إليه، ولاسيما إذا باغتني الخبيث اللئيم بهجمة فجائية، فأصاب بالبهوت وانكسار الإرادة. ومما يسوؤني كثيرا أنني، في بعض الأحيان، أقول عكس ما أريد أن أقول وأفعل عكس ما أريد أن أفعل.أجل إن ذهني يخذلني أحيانا فلا يعود له وجود بتاتا، بحيث لا أدري ما ينبغي أن أفعل، ولاسيما في برهة الأزمة وعندما يثوب إلي رشدي فإنني أستهجن كيف حدث ما حدث، ولماذا لم أفطن إلى أكثر الأسئلة بداهة في برهة النشوب أو الاحتدام. أن تصير فريسة لأوغاد أخساء، يستبيحون حريتك ويعبثون بمصيرك، ذاك شيء من شأنه أن يخلق أمضّ شعور يمكن لك أن تعرفه طوال حياتك.وإنك لتتحسر، ولكن بعد فوات الأوان، على أنك كنت أضحية لأنذال ثعلبيين أو ماكرين، خدعوك بإتقان وانتصروا عليك بخبثهم الغالب لبراءتك وبياضك الناصع كالثلج النقي. وكثر هم الذين خدعوني وابتزوا مني ما يريدون ودون أن أفطن لخداعه في الوقت المناسب. فما كان للحياة أن تتقيح إلا بسبب المراوغة والغش والخداع والكذب. ولكنني أستهجن إلى حد الذهول كيف يقبل أي امرئ أن يفترس امرءا آخر، أو أن يتخذه وسيلة إلى غاية، حتى وإن تكن غاية نفيسة. فليتنا نعرف نتيجة أي فعل قبل أن نمارسه. وهذا ما عبر عنه أحد الشعراء القدامى حين قال: ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين والغايات بعد المذاهبويلوح لي أن الانقسام على الذات صفة كونية لا مفر من مقاساتها. ولكم أجاد البحتري حين رأى الدنيا كلها وهي تعاني انشطارها، أو اتصافها بصفتين متناقضتين، وذلك حين وصفها بقوله:تراها عيانا وهي صنعة واحد فتحسبها صنعي حكيم وأخرق، ولكنني شديد الإعجاب بالبيت الذي يسبق هذا البيت الأخير، ولا سيما بشطره الثاني، وهو:ولن ترى كالدنيا عشيقة وامق محث، متى تُحَسن بعينيه تطلقوهذه هي المانوية أو المثنوية حصرا، وهي مذهب موضوعي تماما لأن ذلك هو حال الأشياء. ومما يستحق أن يعرف أن هذا المذهب القائل بوحدة الأضداد واندماجها داخل بنية واحدة، هو في الأصل مذهب بابلي، أو من جنوب العراق حصرا.ومع أنني أومن بالعقل وأمجده حتى درجة التقديس، فإنني أشعر ولو في قليل من الأحيان، بأن عصبة من الأشباح والكائنات الخرافية تعشعش في فضاء نفسي وتتكلم وتتحرك على نحو عشوائي شديد الاضطراب. إن هذه الحقيقة هي ما ينبغي أن أؤكد عليها ما دمت في معرض تشريح الذات، أو نبش محتويات الأنا وعرضها على الملأ. وإنني أتمنى أن أنجح في هذا الاستبار بحيث أغرف الكثير من العناصر المكتومة أو المستورة في الأعماق.وعلى أية حال، فإنني ما برحت أشعر، حتى في هذه السن العالية بأن بعض إنجازات الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية مازالت تجتذبني وبأن جل أغاني فيروز لها القدرة الكافية على أن تجعل النفس تبزغ من الداخل كما تبزغ شمس الصباح النيّرة، وبأن الدبكة اللبنانية استطاعت أن تحيل الجسد البشري إلى قصيدة أو إلى رشاقة مرئية بالعين، وجعلت منه استحضارا للخفة والحركة المنغومة، وبذلك أكدت أنها انتصار حاسم أحرزته الروح على المادة. ولهذا فإنها تستجيب لنازع تسريح النفس وتحريرها من قوانين الثقل الباهظ البليد، وإحالتها إلى أثير أو إلى شيء يشبه الأثير. وبذلك يتبدى الفن الأصيل، وهو المنتسب إلى وعي الثمالة، وكأنه قوة تحرير رائعة. ومما هو حق، أو هكذا يخيل إلي، أن كل تحرير للباطن هو جهد أخلاقي جليل.ولعل من شأن هذه المفاهيم كلها أن تؤكد ما فحواه أنني قلق. أو مضطرب ومتوتر، أكثر مما أنا كئيب.وعندي أن ثمة عنصر انخطاف أثيري في كل فن أصيل، وأن الانخطاف، أو عرام النشوة، هو أعلى برهة تبلغها الذات حين تخرج من ضيق حدودها لتطفر إلى خارج الزمان بحثا عما يغاير الرتوب. وهذا التجاوز الذي أراه يصدر عن اللامشروط، هو هدف من أكبر أهداف الفن. ولعل من شأنه أن يحتم هذا المعيار النقدي المبدئي: كل فن لا يبلغ سويداء الفؤاد هو من الدرجة الثانية، في أحسن الأحوال.ولهذا، فلا ضير في أن أذهب إلى أن وعي الثمالة هو الذي دفعني، منذ عشرين سنة أو أكثر، إلى الاستئناس بمنهج روحي شفاف يتأسس على مبدأ التوسيم والزكانة، أو على مبدأ التفطن البديهي الساعي وراء الهيف والينع والدماثة، وذلك بدلا من التذهن والتحليل المنطقي الناشف، إذ لا يتيسر البلوغ إلى حيوية الموجود وحرارته أو وهجه إلا إذا أتى المرء إلى الأشياء من درب الألطاف الحسنى، أو قل من الدرب المسيجة بالياسمين. وهذا هو مبدأ الصوفية حقا. فاللطف أولا وقبل كل شيء. والجمال هو اللطف قبل أن يكون أي شيء آخر. ولئن كان الجمال هو الهيف فذلك بالضبط لأن الهيف شكل من أشكال اللطف. نعم، إنه اللطف الذي رأته الصوفية وهو يكتنف الإنسان من جميع جهاته وطوال حياته.بيد أنه من الحماقة والسخف أن يرفض المرء أيا من الوعيين ويتقبل الآخر. فلا ريب في أن كلا الجوهرين نفيس، وأن لكل منهما وظيفة من شأن غيابها أن يعطل الحياة. ولا أحسبني أجافي الرشد إذا ما صرّحت بأن وعي الدلالة نافع أو مفيد في تسيير شؤون العمل وما يعاش بالتجربة، وبأن وعي الثمالة من شأنه أن يجعل الأرض قصية غنائية منعشة. ولا تجسده في الأساطير أية شخصية سوى شخصية أورفيس الذي يعزف للجمادات فتسيل كما تسيل المياه. إن وعي الثمالة هو الملح الذي يضاف إلى الحياة فيضفي عليها المذاق الطيب الزكي.ويترتب الكثير على هذه الرغبة في التماس الغزلي مع اللطف الذي هو الاسم الآخر للأنس والجمال معا. فعندما أقرأ رواية جيدة أو قصيدة عظيمة، وعندما أشاهد مسرحية ناجحة، أو لوحة أنجزها امرؤ مرهف الإحساس، أراني أشعر بأن ثمة في باطني وقارا وجلالا عظيمين حقا. ويبدو أن الشعور يتشكل بتضافر الجهود الداخلية والخارجية معا. كما أراني أجنح إلى الاعتقاد بأن الشكل النبيل والتعبير الشريف الكريم من شأنهما أن يخلقا في النفس شعورا بالنبل والشرف والكرامة الذاتية وها هنا يتبدى الأساس الأخلاقي لكل فن وأدب عظيمين، أي لكل شعور إنساني أصيل.ومما هو قريب من هذا أن الأنس. أو الصدق الذي يدشن الأنس هو حاجة من أعمق حاجات الإنسان الداخلية. ولكن الأنس الحقيقي شعور لا ينجزه إلا الاتصال البالغ إلى الصميم. ومما هو صادق تماما على ما أظن أن الأنس يحتوي على الحب والصداقة معا. وقلما تكون هنالك أصالة لا يمازجها الحب بالدرجة الأولى. أما مثاله الممتاز فهو أنس الطفل الغرير بحضن أمه الرؤوم. وهذا يعني أن ثمة طرفين متفاعلين: من يؤنس ومن يأنس به. وأما الهناء فحسبه طرف واحد، لأن المرء قد يهنأ بوجبة طعام شهية، أو بمشهد طبيعي، أو بأغنية. ولكن الذين يستوطنون في الهناء هم الأنقياء أو الأبرياء وحدهم. ويبدو أن النقاء متعة أصلية، كالأنس والحب والصداقة. ومرة أخرى تلاقي الأساس الأخلاقي للشعور.ولكن عبثا يلوب الروح على الأنس أو على الحميم المفقود في هذه الأيام التي يعيشها المرء كما لو أنه يخوض في الوحول، وذلك على النقيض تماما مما كان عليه في تلك الأيام الموسومة بالينع ورونق الاخضلال. فالأشياء مقمطة بنواميسها، ولا يخرج منها إلا ما هو مركوز فيها سلفا. ولهذا فإن من طبيعة زماننا أن إنسانه قلما ينجح في مضمار الاتصال بالآخر كما أنه مصاب بالعجز عن الولاء لأي شيء جمعي.من الجزء الثالث والأخير من تلك الأيام.