ذنب هذه المخلوقة ٬ أنها خرساء ... حتى في زمن الصراخ ٬ و دائها أن خرسها اصطناعي. تقيد لسانها بالكلام الموزون و المستعار. لما هي خرساء لا تتكلم و إن جمعت أمهات الكتب٬ حتى أنها عادتني و أصبحت بدوري أخرسا ٬ لأنها لم تعد تمدني بما قد يفك عقدة لساني ... أنا أيضا من المستعارات لها . تغيرت طبيعتي٬ إزدادت الشهية ٬ متلهف ناهم ٬ باحث عن كل شيء ٬ أرتاد الخزائن كلها ... أستعير منها ما قد ينير هذه الظلمة و يفك الخرساء ... لا شيء ٬ جبت كل بقاع المعمور بحثا عن أصلها و مشيدها ٬ عدت إليها ٬ ناجيتها : - من الأجدر بك أن تنبشي عن أثر أقدامك و معمارك ٬ و أنت الخزانة قل روادك. أنا الوفي الوحيد لك و لركنك المعتاد في الزاوية القصية من مبناك \" تغمرت أوفكان\" أتذكر أول لحظة فيها صافحتك ٬ و أنت المسماة \" تاكفوت ن سوس\" ٬ إنشرح صدري ٬ علي أجد فيك ما يشفي الغليل . تخطيت العتبة ٬ كأني مالكك و الحق أني كذلك ٬ و انتابني شعور غريب – ناذرا ما أعيش كهذا – جالت عيني بنظرات هائم أرجاء المكان الشاسع ٬ و توجهت إلى مسؤول الرفوف ٬ دفعت الثمن المعلوم ٬ و أطلقت العنان للنهم ٬ و في كل زاوية أقف ٬ عناوين بارزة تناديني . في الجانب الأيمن ٬ رموز كثيرة ٬ و عنوان كبير \" تغمرت ن أورومي \" – زاوية أوروبا – مفروشة مجلدات و كتب تحكي عن أوروبا و رجالاتها في شتى المجالات ... غادرتها . شدني الحنين الى نفسي شدا ٬ و تلقفت الصورة الذهنية علامات أخرى و عناوين زوايا أخرى \" تغمرت ن لقبلت \" – زاوية الشرق \" جرني اليها قيد اكتشاف و استطلاع ٬ تصفحت الكتب فحكت لي عن الجاهلية و الاسلام و صدره و مرت على الأمويين و العباس و ما بعدهم ٬ ارتشفت منها ما يكفي. عدت إلى التجوال بين الزوايا و بين الحين و الأخر تعترضني العناوين و الزوايا \" زاوية التاريخ \" - \" زاوية الثقافة العامة \" .... و بعد هنيهة أحسست أني حاولت الكلام ... فتوقفت عند انتاج أول كلمة ... ماذا ... ؟ عدت الى حياتي الطبيعية .... لم أعد أخرسا ٬ و شرعت في السؤال تلو الأخر ... و استفسرت عن زاوية انسان ... انسان أخرس تكلم أخيرا ... كيف فكت العقدة ؟ في اية زاوية أبحث عن الوصفة و الدواء ٬ كنت قد أتيت على الزوايا كلها و ما فيها سوى واحدة في اقصى المبنى الأخرس كتب عليها \" زاوية انسان \" – \" تغمرت ن يان أوفكان \" تسالت قبل أن أتفحص ٬ من هذا الانسان ؟ أخدت أقلب وريقات بالية اعتلاها غبار قديم ٬ يعود الى الأزمنة الغابرة ٬ لعل الرغبة انتعشت من جديد ٬ في هذه الزاوية تحولت من رف الى رف ٬ ألتهم الوريقات التهاما ٬ رغم الأمراض المعدية ٬ و لولا أن أمي أكسبتي مناعة قوية لأصبحت ضحية عدوى في الحين ٬ و لن ينفعني معا علاج . و عند أخر ورقة ألتهمها ٬ اكتشفت أن لا فرق بين الزاوية الأخيرة في الركن القصي ٬ و الزاوية الأخرى ٬ غير أن الأخيرة علمت الانسان كيف يكون أخرسا ٬ لا يتقن الكلام ٬ لأني حتى حين حاولت أن أخرق العادة ٬ وجدت نفسي صارخا ٬ لا أسمع صوتي ٬ و كل من حولي في هرج و مرج ٬ و لا احد يعيرني اهتماما ٬ كأن الموجودات كلها صماء لا تسمع . خرجت من الخزانة كما دخلت ٬ لم استفد من شيء ٬ سوى من معلومة واحدة : أن داء الخزانة هاته لا دواء له ٬ و ستبقى خرساء ٬ و تصيب كل روادها بالداء ٬ و لو كان عاشقا لها ٬ كيف لا و انا الوفي الوحيد لها و للركن المعتاد في الزاوية القصية ٬ لم أعد على نطق و لو حرف واحد ...