عندما قرر محمد بن ناصر، أحد مؤسسي الزاوية الناصرية في القرن السابع عشر الميلادي، إقامة خزانة علمية بتمكروت(جنوب زاكورة) وتزويدها بأمهات المخطوطات مهما غلى ثمنها، ووقفها على طلبة العلم ما قام الزمن، لم يخطر بباله أنها ستصبح بعد قرون قليلة شبه مهملة في هذا المبنى البسيط المنسي وسط كل هذا الغبار. وربما لولا «خليفة بلحسن (83سنة)،وللرجل نصيب وافر في اسمه، لربما اندثر هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن. فهو يحرسه منذ نصف قرن مثل جندي منسي سلاحه الوحيد إيمان غامض بأنه يؤدي مهمة مقدسة. اليد السمراء المعروقة عرقا تحرك «تنشاشت» (النشاشة المصنوعة من سعف النخيل) بإيقاع مضبوط.. تشت.. تشت.. وبلامبالاة تدل على أنها قامت بهذه الحركة ملايين المرات ولعشرات السنين.. تشت.. تشت.. خاصة في الصيف لإبعاد الذباب العنيد.. تشت.. تشت.. ومقاومة ملل الأيام.. تشت.. تشت.. ومرارتها.. والإهمال.. تشت.. تشت.. ونكران الجميل.. وصوت رشيد، بلكنته الأمازيغية الدافئة، ينساب في إيقاع خاص لا تشوش عليه النشاشة وهو يقرأ «شي بركة» من «طلعة المشتري في النسب الجعفري» لصاحبه أحمد بن خالد الناصري، هذا الكتاب الذي يسرد مناقب محمد بن ناصر الذي سميت الزاوية الناصرية باسمه في القرن السابع عشر الميلادي، ببلدة «تمكروت» المستلقية بكسل على جانب وادي درعة في هذه المنطقة التي تبعد عن زاكورة جنوبا بحوالي 20 كلم. وخليفة بن الحسن، صاحب اليد المعروقة والنشاشة، ينصت محركا رأسه حركات خفيفة دليلا على تركيزه وإمعانه في كل ما يصله وهو جالس في هذا الركن على كرسيه المتواضع عند باب الخزانة الناصرية التي أقامها محمد بن ناصر في الزاوية ووقفها على العلم والعلماء ما قام الزمان.. تلك الخزانة الشهيرة في تاريخ المغرب والتي يشرف عليها هذا الشيخ الذي تجاوز عتبة الثمانين سنة، ويحرسها ويتولاها بالعناية منذ أزيد من خمسة عقود، كما يحرس جندي منسي كنزا في الصحراء. وبين الفقرة والأخرى.. وبين حركة النشاشة وأخرى تنساب ذكرى أو تطفو إلى سطح الذاكرة واقعة من الوقائع الكثيرة التي حدثت طيلة نصف قرن من الوقوف على باب هذه الخزانة، حارسا يقظا وأمينا على ما تحتويه من كنوز لا تقدر بثمن.. تلك السنين الطويلة الشاقة التي نسج خلالها خيوط علاقة خاصة مع كل مخطوط من مخطوطات الخزانة الفريدة ال4000.. علاقة يختلط فيها حب المكان بالإدمان عليه.. ويمتزج فيها أداء الواجب الإداري بتنفيذ مهمة مقدسة كتبها قدر غامض عليه منذ أزيد من أربعة قرون، لما جاء محمد بن ناصر بأسلاف خليفة من فاس إلى تمكروت لإعانته في تدبير تجارته. فأصل هذا الرجل فاسي وإن كانت ملامحه التي لفحتها شمس الجنوب ولكنته الأمازيغية توحيان بغير ذلك. وتواصل النشاشة حركاتها اللامبالية ويواصل رشيد (27 سنة)، هذا الشاب المنحدر من تنجداد والذي يساعد خليفة منذ بضع سنوات فقط، تلاوة «شي بركة» من «طلعة المشتري»، الذي يسرد سيرة الزاوية الناصرية وخزانتها. فالاثنان مرتبطان ارتباطا حميميا كما ترتبط هذه النخلات الصبورة، التي تحف «تمكروت»، بهذا الوادي الذي لا يستقر على حال، فهو سخي مرة وشحيح مرات. بل إن مؤسسها الفعلي محمد بن ناصر اعتبر في فترة من فترات تاريخ المغرب المتقلب أحد أسباب استمرار العلم في هذه البلاد. وتقول مقولة تاريخية شهيرة: «لولا ثلاثة لانقطع العلم بالمغرب لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم سيدي محمد بن ناصر في درعة وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في دلاء، وسيدي عبد القادر الفاسي». بناية متواضعة وكنز لا يقدر بثمن في سنة 1983، وبعد أن تنقلت عدة مرات وخرجت من حرم الزاوية القريبة، استقر المقام بهذه الخزانة، التي حولت في زمن مضى تمكروت إلى عاصمة للعلم يؤمها الناس من كل فج عميق، في هذا البناء البسيط الذي ينقسم إلى قسمين غير متساويين. أما القسم الأول، وهو أصغر بكثير من الثاني، فيضم نحو 400 مؤلف مطبوعة في المطبعة الحجرية بفاس في القرن ال19 واستقدمت من خزانة مدرسة ابن يوسف بمراكش عند افتتاح هذه البناية. كما يوجد بهذا القسم عدد مهم من المراجع المطبوعة حديثا، جزء منها تبرع به الملك الراحل الحسن الثاني. ويحتوي القسم الثاني، وهو عبارة عن قاعة واسعة مستطيلة الشكل، على المخطوطات التي بقيت من الخزانة الناصرية التاريخية وعددها يقدر حاليا ب4000 (تم نقل 2500 مخطوط آخر إلى المكتبة الوطنية)، موضوعة في رفوف خشبية كئيبة بنية اللون ولا تتوفر فيها الشروط المواتية لحماية هذه المخطوطات /الكائنات الهشة التي يؤثر فيها كل شيء. وتتوسطها طاولة خشبية بسيطة متقشفة وكراس معدودة خشنة وغير مريحة. ويوجد بين القسمين ما يشبه الممر، يضم مكتبا لرشيد وحاسوبا بسيطا يستغله هذا الشاب للإجراءات الإدارية، من قبيل رقن طلبات الزيارة ورخص الاطلاع على محتويات المكتبة التي ترد عليه من طرف الباحثين بالخصوص. ويقول رشيد، المتخرج من كلية الحقوق بمكناس، إن هذا المبنى كان إلى سنوات قريبة جدا محاطا بحديقة جميلة، وكانت طلائعها تبدو للزائر من بعيد. أما الآن فهي محاطة ببنايات بعضها لم يكتمل بعد احتجابها عن الناظرين. فبالإضافة إلى البناية المتواضعة لمدرسة التعليم العتيق، هناك بناية تضم داخلية تؤوي تلامذة هذه المؤسسة التي يشدد خليفة بن الحسن، بصوته المثقل بالسنين، على أنها ل»التعليم العتيق ماشي التعليم الأصيل»، كما كان في العهود السابقة. فقد كانت مدرسة «تمكروت» من أشهر مؤسسات التعليم الأصيل وكان يصل عدد طلابها في عهدها الذهبي إلى 1400 طالب يتلقون التكوين في مختلف العلوم الأصيلة من قرآن وحديث ونحو وفقه وغيرها. أما الآن فهي مجرد مدرسة عتيقة يتابع فيها نحو 20 تلميذا، فاتهم ركب المدرسة، تعليمهم لمدة سنة واحدة يحصلون في نهايتها على ما يعادل الشهادة الابتدائية، حتى يتسنى لهم الالتحاق بالتعليم الإعدادي النظامي. ثم هناك بنايات أخرى تدخل كلها في إطار إعادة هيكلة المنطقة المحيطة بالزاوية الناصرية ومسجدها الشهير، الذي سماه محمد بن ناصر «مسجد الخلوة» لأنه كان يختلي فيه للتأمل وتلاوة أوراده. لم يتبق من كل تلك «الجردة» الواسعة سوى زيتونة خجولة ولكن صامدة أمام الباب كأنها تساعد خليفة ورشيد في حراسة المكان المليء بالذخائر التي كان يعود محمد بن ناصر مثقلا بها من رحلاته إلى مصر والشرق عموما، وكان يبذل في سبيلها الغالي والنفيس. وكذلك فعل الذين خلفوه على رأس الزاوية الناصرية من ذريته منذ القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي). وإذا كانت هذه الخزانة قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالزواية الناصرية ومصيرها منذ تأسيسها لقرون، فقد ارتبطت منذ منتصف القرن الماضي بخليفة بلحسن، هذا الشيخ الذي يبلغ من العمر حاليا 83 سنة والذي وقف أكثر من نصف سنين حياته للإشراف عليها. منذ 50 سنة وهو يحرسها ويعتني بكتبها كما يعتني الأب بأبنائه ويستطلع أحوال كل مخطوط من مخطوطاتها. فهو يعرفها واحدا واحدا.. ويعرف مكان كل واحد منها معرفة الأم لمرقد كل واحد من أبنائها مهما كثروا. ولم يكن يتردد في المخاطرة بحياته للتصدي لعدوها الأول، الأرضة، تلك الحشرة التي تحول هذه النفائس التي لا تقدر بثمن إلى مجرد غبار لا قيمة له. ويحكي كيف أنه في الستينيات كان يرش رفوف الخزانة بمادة ال«دي دي تي» السامة والخطيرة دون أي وقاية، وكادت تتسبب له في أضرار بليغة في يديه وصدره. قبل أن يهتدي إلى استعمال سلاح البسطاء الفعال ضد «الغمولية» وضد الأرضة: الكافور ورائحته النفاذة التي تحولت إلى ذلك الدرع الخفي الذي يصد الحشرة العنيدة والفتاكة. وغالبا ما يشتريه من ماله الخاص ويضع منه حبات معدودات في ركن غير مرئي من كل رف من الرفوف. ورغم فعاليته يبقى هذا السلاح أو «الرصاص الأبيض» حلا ترقيعيا لا غير، حسب رشيد. والحل الأمثل في نظره هو تصوير الذخائر التي ترقد في رفوف الخزانة على الأقل للاحتفاظ بشكلها ومحتواها، لأن المخطوطات مهما طال أمدها ليست أزلية. ولكن إلى حد الآن «ماكاين والو» يرد خليفة بنبرة اليائس ملوحا بنشاشته، ليظل الشيخ والشاب الجنديين الوحيدين المدافعين عن هشاشة هذا الكنز ضد شراسة جيوش الأرضة وأيادي الزمن الخفية، سلاحهما بعض الكافور وكثير من الإصرار والإيمان بقداسة المهمة. عندما عهد إليه في نهاية الخمسينيات بمهمة الإشراف على هذه الذخائر، وكانت آنذاك في مكان آخر من الزاوية الناصرية، لم يكن خليفة، الذي كان يبلغ من العمر 32 سنة فقط، يعرف أيا من هذه المخطوطات، ومع مرور الأيام حفظ أسماءها كلها ومصدرها وعمرها، بل وأسماء مؤلفيها وجنسياتهم، وحتى الخط الذي كتبت به: «هذا مكتوب بالخط المغربي شفتي».. «وهذا مكتوب بالخط العثماني.. شوف مزيان، شفتي الفرق». القرآن و«الموطأ» على رق الغزال ويستعيد الشيخ خليفة حماسته عند الحديث عن مخطوطاته ويسترجع رشاقة تبدو غريبة في سنه هو الذي تجاوز الثمانين، عندما يتحرك بين مخطوط وآخر ويشير بيده المعروقة المرتعشة إلى هذا المخطوط الموجود في هذا الرف العلوي، ويقول باعتزاز من يملك تحفة فريدة لا مثيل لها: «هاذي نسخة من القرآن مخطوطة على رق (جلد) الغزال»، مضيفا: «عندها كثر من ألف سنة وهي من الأندلس ولكن محمد بناصر شراها من الشرق»، ثم توقف قليلا قبل أن يعلن: «هاذي أقدم مخطوطة هنا في الخزانة». بجوار هذه التحفة، تحفة فريدة أخرى. «هذا المخطوط حتى هو من أقدم ما عندنا وعلى رق الغزال أيضا»، ثم أشار إلى «الموطأ» للإمام مالك، الكتاب المركزي في المذهب المالكي. وأوضح خليفة مستعرضا بفخر معرفته التاريخية: «هذا المخطوط كتب في قرطبة بالأندلس في عام 483 هجرية.. 1063 ميلادية». وقد تعرض المخطوطان النفيسان قبل سنوات لمحاولة سرقة، وكاد اللصوص يفوزون بغنيمتهم لكن عناية غامضة أرادت أن يعودا إلى مكانهما في الخزانة حيث قضيا قرونا عديدة. وتتوالى التحف: «تفسير القرآن» للسيوطي..»صحيح» الإمام البخاري..»الشفا» للقاضي عياض..»أساس البلاغة» للزمخشري.. «العقد الفريد» لابن عبد ربه.. فضلا «ألفية» ابن مالك.. وغيرها كثير، بل إن الخزانة كانت تضم مخطوطات لابن سينا وابن رشد قيل إنها نقلت إلى المكتبة الوطنية بالرباط التي كانت تمسى في الماضي الخزانة العامة. بعض هذه التحف مكتوب بالخط المغربي وأخرى بالشرقي وكثير منها مطرز بالذهب. «الخزانة تضم المخطوطات في كل العلوم» يقول رشيد، ثم يشرع في تعدادها: «الفقه.. التفسير.. الرياضيات.. الفلك.. الطب والأعشاب وزيد وزيد.. بل فيها حتى مخطوطات الدمياطي»، ثم يستدرك: «ولكن هاذ شي في ما يرضي الله»، حتى يتفادى أي تأويل آخر لوجود «الدمياطي» المخيف والمليء بالغموض على رفوف الخزانة الناصرية. تهميش كل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن يشرف عليه خليفة ورشيد مقابل راتب يبعث على الخجل. فرغم انتسابهما إلى وزارة الأوقاف، التي تشرف على الخزانة لأنها وقف، لا يعتبران موظفين يتقاضيان أجرتهما من الميزانية العامة ولهما امتيازات الوظيفة العمومية، بل هما مجرد قيمين يأخذان راتبا من الميزانية الخاصة للوزارة ولا تتجاوز أجرتاهما حوالي 1500 درهم في الشهر. ومع ذلك لا يتمنى خليفة، الذي يحمل نصيبا وافرا من اسمه لأنه خليفة محمد بن ناصر وذريته على أهم إرث خلفوه لهذه الأمة وللإنسانية جمعاء، أن يغير موقعه ومفارقة كل هذه المخطوطات التي أحبها حد الإدمان. فقد أصبح بدوره «مخطوطا من مخطوطات الخزانة» يقول رشيد ضاحكا. ويكفيه أنه خلال حراسته لهذه القلعة العلمية تمكن من تعلم خمس لغات على الأقل (الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية والإسبانية) من خلال تعامله الطويل مع السياح، وتزوج خمس مرات ورزق بتسعة أبناء مات منهم أربعة وبقيت له خمس بنات. بل إنه تمكن، ويقولها بفخر، من شراء «موتور» و»عندو شفور للي سوق به» يقول رشيد ضاحكا، لأن سنين الرجل الثمانين لا تخول له استعمال هذه الدراجة النارية في الطرق الوعرة لتمكروت. أما رشيد، فهو في طور تسلم المهمة «المقدسة» من هذا الجندي المنسي الذي بلغ من الكبر عتيا وينصت إليه بإمعان، وهو يتلو عليه قصة حياة محمد بن ناصر وقصة حياة هذه الخزانة التي صار جزء منها. فيما نشاشته تحاول إبعاد الذباب .. تشت تشت.. والنسيان.. تشت تشت...وتحاول تبديد اليأس.. تشت .. تشت..وتحريك نسمة الأمل في أن يأتي يوم يحظى فيه هذا الكنز المنسي في الصحراء بما يستحق من تقدير...