هل من حق الجهالة الأميين، والفقراء المتسولين..التعاطف معهم والوقوف إلى جانبهم، ومساندهم في محنة الحياة؟ وأستحضر ها هنا جاري الذي يسكن داخل كومة أحجار محاط بصفائح القصدير والأشواك ليمنع القطط والكلاب من دخول جحره، ولكنه حتما لن يمنع الفئران والجرذان والزواحف من مقاسمته غرفته الوحيدة مع زوجته الحامل وأبنائه الستة. كان جاري لا يفك الحرف، ولا يتجاوز العشر في العدّ مستعينا بالأصابع، ولا يعرف الأيام والأشهر، يعيش خارج الزمن. ولم يمنح أبناءه فرصة تعلم القراءة أو حرفة نظرا لضيق ذات اليد فعاشوا مشردين، الزوجة تشتغل في كل شيء، وفي لاشيء، أما الزوج فيقضي سحابة يومه حاملا مزادته متنقلا بين المنازل ليعود مساء ويفرغها وسط الحوش فيتسارع الأطفال ليلتقطوا ما فاضت به من طعام لعلهم يشبعون جوعهم. والغريب في جاري هذا أني لم أره يوما يشتكي أو يتألم، إنه يتمتع بلياقة عالية تؤهله أن يكسب قوته وقوت أبنائه بعرق جبينه، لكنه اعتاد حياة الكسل والخمول والتواكل، يكثر من الشكوى والتباكي، وينسب ما تعيشه الأسرة من معاناة إلى قضاء الله وقدره، وأن المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين. جاري هذا ليس الوحيد الذي يعيش بهذا الأسلوب، فملايين الأسر في العالم تعاني ظروفا مشابهة في القسوة، فوسائل الإعلام تمطرنا بصور مؤلمة، فالفقر والجهل والمرض..هو الخبز اليومي لهذه الأسر، وأعود لألقي السؤال من جديد: هل من حقهم علينا أن نتعاطف معهم؟ لا شك أن الإجابة ب \"لا\" ستستفز الأخلاقيين الذين يؤمنون بالقيم والمثل، والإنسانيين الذين يرون أن ما يميز البشر عن الحيوان هو إنسانية الإنسان، وبالتالي فإذا كنا نسعى إلى الارتقاء فما علينا إلا أن نتكافل ونتعاضد وأن لا نتوانى في مساندة البؤساء ليتغلبوا على بؤسهم، أو في أقل تقدير أن نخفف عنهم، ولم لا أن أن نقرب إليهم كل ما يحتاجون إليه، وإيصاله إلى معدتهم ولا بأس إن هضمناه قبل أن نضعه في أفواههم.. ترى هل سلوك الأخلاقيين يزيد من فساد العالم وقذارته؟ هل سلوك الأخلاقي هذا هو تعبير لا شعوري عن حاجته هو نفسه إلى من يعطف عليه؟ ووجد ضالته في هذه الفئة الاجتماعية التي لا تفعل أي شيء لمساعدة نفسها، بل تسعى لابتزاز عاطفة الناس من خلال القيام بأفعال تزيد من بؤس العالم وقذارته مدعية أنها لا يمكنها التنبؤ بنتائجها، فهي لا تبدل مثلا جهدا في التعلم وتحصيل المعرفة رغم أن مراكز محو الأمية مفتوحة ..وهم كذلك لا يفلحون إلا في الإنجاب، وكأن الذكر والأنثى كالضفادع يقضون جل أوقاتهم ملتصقين بعضهم ببعض، إن لديهم الوقت الكافي للتناسل وليس لديه الوقت للتعلم والتخطيط لحياتهم، وعندما تسأل رب الأسرة عن تماديه في الإنجاب رغم عجزه عن توفير حياة كريمة للأسرة فهو يقدم لك مبررات يعجز العقل السليم على فهمها. إن تجمعات هذه الفئات الاجتماعية تصبح أوكارا للفساد والجريمة والعهارة والأمراض..يلوثون البيئة ويلوثون أنفسهم وتتناقل أجيالهم هذه الآفات ويتحول العالم إلى قذارة تحتاج الطبيعة لتنظيفه إلى آلاف السنين خصوصا في مجتمع أصبح الجميع فيه أنانيا لا يفكر إلا في مصلحته الخاصة.. وعندما أقارن بين عالم هؤلاء البشر هناك، وعالم الكائنات ها هنا أندهش وأتعجب. ففي هذا الفضاء الطبيعي المذهل حقا لم ألحظ منذ إقامتي بين أحضانه أي كائن مريض، أو خامل أو مسترخ ينتظر أن يُؤتى له من قبل الآخرين بطعامه إلا في حالة واحدة هو فترة احتضان الذكر أو الأنثى لبيضها أو صغارها، ولم أر أي منها يمشي بالعكاكيز، أو كراسي متحركة، أو يتناول دواء، أو يتسول الآخرين فصحته في ما يتناوله من طعام، ووجوده في قوته وقدرته، وكأن شعارهم الخالد هو: \"إما أن نكون أو لا نكون\". وما أحوج المجتمع الإنساني إلى الإقتداء بهذه الحكمة. قال أحدهم ذات ثورة: \"عجبت لمن لا يجد قوتا في بيته أن لا يخرج إلى الناس شاهرا سيفه ذ