قراءة في افتتاحيّة مجلّة عالم الفكر المجلّد السّادس عشر العدد الثّالث (أكتوبر ونوفمبر وديسّمبر 85) ضمن مقال عن الرّمز والأسطورة والبناء الاجتماعيّ للدّكتور أحمد أبو زيد تمهيد: لم تفلح الكثير من البحوث في مجال الأنتروبّولوجيا والدّراسات السّوسيولوجيّة في تعريف \"الرّمز\" و \"الرّمزيّة\"، فبالرّغم ممّا كتب حول الموضوع من الدّراسات التي تهتمّ بمختلف الأنماط الثّقافيّة فإنّ لفظ الرّمز ما زال يطلق على كلّ ما يتضمّن أو يوحي بمعنى آخر غير معناه الظّاهر والواضح، أو يستخدم بديلا عن بعض العلامات المتّفق عليها اجتماعيّا والتي تشير في العادة إلى شيء محدّد بوضوح، أو تستخدم للتّعبير بشكل عامّ لا يخلو من الغموض عن بعض الأمور التي يصعب الحديث عنها بصراحة كما هو الشّأن بالنّسبة للرّمزيّة في الشّعر والفنّ الرّمز والرّمزيّة: إنّ كثيرا من الأشياء تعتبر رموزا أو على الأصحّ عناصر رمزيّة إمّا لأنّها تعبّر عن صيغ ثابتة للأفكار والمعاني التي يتمّ تجريدها من التّجربة، أو لأنّها تجسّد بشكل ملموس المواقف والاتّجاهات والأحكام والرّغبات والمعتقدات، وفي هذا السّياق يشير كارل يونغ (Carle Jung) إلى أنّ الإنسان في تواصله مع غيره من أبناء المجتمع يستعمل اللّغة التي تعتبر نظاما لرموز قد تأتي مجرّد لفظ منطوق أو مكتوب كما قد تأتي اسما أو صورة أو شكلا مألوفا في الحياة الاعتياديّة ولكنّه يتضمّن معان ودلالات إضافيّة إلى جانب معناه الصّريح. فماهيّة الرّمز إذن تتلخّص في أنّ شيئا ما يقف بديلا عن شيء آخر أو يحلّ محلّه ليمثّله بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هي علاقة الملموس بالمجرّد وبالتّالي علاقة الخاصّ بالعامّ باعتبار أنّ الرّمز بوصفه شيئا مادّيّا له وجود حقيقيّ يحيل إلى فكرة أو معنى مجرّد(*)، ممّا يستدعي التّمييز بين الرّمز (Symbol) والعلامة (Signe)، فالرّمز يشير إلى مفاهيم وتصوّرات وأفكار مجرّدة بينما تشير العلامة إلى مواضيع وأشياء ملموسة أو على الأقلّ أدنى مستوى من التّجريد، لأنّ العلامة يمكن فهمها بجلاء إن هي أفلحت في في جعل المرء يتعرّف عن طريق الحواسّ الشّيء أو الموقف الذي تشير إليه بعكس الرّمز الذي يتمّ فهمه بإدراك العلاقة الدّلاليّة بين اللّفظ والفكرة التي يحيل إليها، وحسب علماء اللّغويّات من أتباع فرديناند دو سوسّير وأتباع المدرسة البنيويّة في الأنتروبّولوجيا والنّقد الأدبيّ فإنّ المدلول عليه بعلامة أبسط من المدلول عليه برمز، لأنّ الرّمز حسبما جاء في معجم مصطلحات الأدب هو: (كلّ ما يحلّ محلّ شيء آخر في الدّلالة عليه لا بطريق المطابقة التّامّة وإنّما بالإيحاء أو بوجود علاقة عرضيّة أو متعارف عليها، وعادة ما يكون بهذا المعنى شيئا ملموسا يحلّ محلّ المجرّد (...)، ويشمل الرّمز كلّ أنواع المجاز المرسل والتّشبيه والاستعارة بما فيها من علاقات دلاليّة معقّدة بين الأشياء بعضها ببعض). ومع ذلك يستمدّ الرّمز قيمته ومعناه من النّاس الذين يستخدمونه، فالمجتمع هو الذي يضفي على الرّموز معانيها، لذلك كانت محاولة فهمها وتفسيرها تتطلّب منوجهة النّظر الأنتربّولوجيّة دراسة وتحليل مقوّمات البناء الاجتماعيّ وعناصر الثّقافة وتفاعلها مع النّسق السّائد للرّموز، وبالتّالي فإنّ التّفسير المنهجيّ لنسق رمزيّ يتوقّف إلى حدّ كبير على البحوث الأمبّريقيّة وعلى مدى الإحاطة بمكوّنات الثّقافة، وهذا من شأنه أن يضع قيودا شديدة على الأحكام العامّة التي يميل البعض إلى إطلاقها على بعض الرّموز مثل دلالة الألوان ومعانيها دون الاستناد إلى معلومات إثنوغرافيّة كافية تأخذ في الاعتبار الفوارق الثّقافيّة بين مختلف المجتمعات، وانفراد الإنسان بالقدرة على إدراك الرّموز من ناحية وصياغتها واستخدامها من ناحية أخرى. (*) الميزان يرمز إلى العدالة، والحمامة إلى السّلام، والصّليب إلى الدّين المسيحيّ، والصّليب المعقوف إلى النّازيّة، والشّمعدان إلى اليهوديّة، والنّجمة السّداسيّة إلى دولة إسرائيل، ورفع اليدين إلى أعلى يرمز للاستسلام، ويرمز الزّعيمان الأفريقيّان جومو كينيانا وجوليوس نيريري إلى فكرة التّحرّر علاقة الرّموز بالثّقافة: لقد أولى علماء الأنتروبّولوجيا كثيرا من العناية والاهتمام بدراسة الرّموز في علاقتها الاجتماعيّة بالثّقافة وبالسّلوك الإنسانيّ من حيث هو سلوك رمزيّ، فالرّموز هي مجال الإنسانيّة (Universe Of Humanity) كما يصف ليزي وايت، ذلك أنّه على الرّغم من أنّ جانبا مهمّا من السّلوك الإنسانيّ يبقى بعيدا عن الرّمزيّة (Non Symbolic) حسب الاصطلاح الشّائع مثل السّعال والصّراخ من الألم والتّراجع والانكماش عند الإحساس بالخطر وغيرها من الحركات الطّبيعيّة المشتركة بين كلّ الكائنات الحيوانيّة إلاّ أنّ الإنسان يظلّ الكائن الوحيد الذي ينفرد بالسّلوك الرّمزيّ لتميّزه بالقدرة على استعمال الرّموز والتّعامل عن طريقها، فهو الذي يتواصل مع بني جنسه عن طريق اللّغة والكلام المفصّل، وهو الذي يستعمل الأحجية والتّعاويذ والطّلاسم، ويعترف بالخطايا والذّنوب، ويصوغ القوانين ويراعي قواعد السّلوك وأصول اللَّيَاقَة، ويفسّر الأحلام، ويصنّف القرابة في فئات محدودة، ويراعي شعائر وطقوسا معيّنة في حالات الزّواج والولادة والطّلاق والوفاة، وهي الشّعائر المعروفة في الكتابات الأنتروبّلوجيّة باسم \"شعائر المرور\" (Rites De Passage)، يقول ليزي وايت: (إنّ السّلوك غير الرّمزيّ عند الإنسان العاقل (Homo Sapiens) هو سلوك المرء من حيث هو حيوان، أمّا السّلوك الرّمزيّ فهو سلوك الشّخص نفسه لكن من حيث هو إنسان، فالتّعامل بالرّموز هو الذي يحوّل الإنسان من مجرّد حيوان إلى آدميّ) إنّ الطّفل لا يصبح إنسانا بالمعنى الاجتماعيّ إلاّ حين يبدأ في استخدام الرّموز أي حين يبدأ في الكلام والتّواصل عن طريق اللّغة واستعمال اللّسان لأنّه بغير ذلك لا يكون ثمّة فارق بينه وبين صغار القردة العليا فالرّموز من هذه النّاحية هي محكّ رئيس للتّمييز بين ما هو إنسانيّ وما هو غير إنسانيّ، وعامل أساس من عوامل نشأة الحضارة وتطوّرها، وقيام الثّقافة وتقدّمها باعتبارها نسقا معقّدا من الرّموز المختلفة وأساس موضوعيّ لقيام التّنظيمات الاجتماعيّة والتّشكيلات القرابيّة والمؤسّسات السّياسيّة والاقتصاديّة والدّينيّة وغيرها، لقد أدرك الأنتروبّولوجيّون هذه الحقيقة كما أدركها المفكّرون والفلاسفة والأدباء الفنّانون وعبّروا عنها كلاّ بطريقته الخاصّة التي تتفاوت من حيث التّلقائيّة والعمق، فإيمرسون (Emerson) مثلا يشير في مقال له عن الشّاعر \"The Poet\" إلى عموميّة اللّغة الرّمزيّة بقوله: (يمكن استخدام كلّ الأشياء كرموز لأنّ الطّبيعة ذاتها تعبّر عن رمز) ثمّ يقول: (إنّنا نحن أنفسنا رموز تسكن رموزا)، بينما وصف الشّاعر الفرنسيّ شارل بودلير (Charles Baudlaire) العالم بأنّه غابة من الرّموز \"Foret de Symboles\"، ويعتبر بودلير رائد الرّمزيّة (Symbolism) في الشّعر خلال القرن التّاسع عشر بفرنسا حيث كانت الرّمزيّة إحدى الاتّجاهات الهامّة في الأدب والفنّ التي تأثّرت بها العديد من الكتابات الفلسفيّة واللّغويّة كما تأثّرت بها مدرسة في الشّعر ساهم في ازدهارها تلاميذ وأتباع الشّاعرين الفرنسيين ستيفان مالارميه \"Stephane Mallarme\" وبول فيرلين \"Paul Verlaine\" اللّذين خرجا عن نمط كان سائدا وقتها عرف بالمدرسة البّارناسيّة (parnassiens) في الشّعر (*)، وعلى المسرح الواقعيّ والرّواية الطّبيعيّة وحاولوا أن يعبّروا عبر الرّمزيّة عن سرّ الوجود وقد كان من بين هؤلاء البلجيكيّ موريس مترلينك (Maurice Maeterlink) واليونانيّ جان مورياس (Jean Moreas)، والأمريكيين المعروفين وهما: ستيورات ميريل (Sturat Merrill)، وفرانسيس فيليه (Francis Viele-Griffin)، ففي الوقت الذي أكّد فيه الشّعراء البّرناسيّون برئاسة الشّاعر لوكونت دو ليل (Leconte De Lisle) على أهمّيّة الموضوعيّة والإجادة والإتقان الفنّيين والوصف الدّقيق والتّحفّظ الشّديد من التّعبيرات الشّخصيّة دعا الرّمزيّون بخلاف ذلك إلى شعر يعكس حياة الشّاعر الدّاخليّة ويجعل ممّا يراه في العالم رمزا للحياة النّفسيّة (*) Le Parnasse est représenté principalement par quatre poètes: Alberto de Oliveira (1857-1937), Raimundo Correia (1859-1911) Vicente de Carvalho (1866-1924) Olavo Bilac (1865-1918), ces poètes s'adaptaient au goût moyen qui était une manière de devenir classique. نشر مورياس (Moreas) ما يعرف بالبيان الرّمزيّ في جريدة (Le Figaro) يوم 18/09/1886 كما تأثّر أصحابه بأشعار آلان إدغار بّو (Allan Edgar Poe) ونظرة فاغنر (Vagner) ورأي شوبنهاور (Schopenhaer) عن العالم، ونظريّة إدوارد فون هارتمان (Eduard Von Hartman) عن اللاّشعور ومع أنّ رواد المدرسة الرّمزيّة احتفظوا بفكرة الشّعراء البّارناسيّين عن الفنّ للفنّ فإنّهم رفضوا الاهتمام بالصّور الوصفيّة الخياليّة، واهتمّوا بدلا عنها بالتّعبير عن أسرار الكون وما وراء الطّبيعة وعالم الأفكار وسحر الجمال والأحاسيس الغامضة والشّعور الدّاخليّ، واعتبروا أنّ العنصر الموسيقيّ في الشّعر مسألة جوهريّة، واعترفوا بالقوّة الكامنة في اللغة كما ركّزوا بخلاف أصحاب المدرسة الطّبيعيّة على الحقيقة بدل الظّاهر خاتمة: يحرص علماء الأنتروبّولوجيّا على التّعرّف على الكتابات الفلسفيّة والأدبيّة التي تأثّرت بالمدرسة الرّمزيّة خاصّة وأنّ هذه الأعمال تعنى بتعريف الرّمز وعلاقته بالأفكار الأخرى، ومع ذلك فإنّ المشكلة التي تسترعي انتباه هؤلاء العلماء ليست هي البحث عن ماهية الرّمز أو معناه وإنّما هي البحث عن محدّداته والعوامل التي يجب أخذها بالاعتبار عند التّمييز بين مختلف عمليّات التّفكير الإنسانيّ من ناحية وتصنيف الرّموز من ناحية أخرى والله المستعان وهو الهادي إلبى سواء السّبيل محمّد بن محمّد بن عليّ بن الحسن ّالمحبّ