سيرخيو ماثياس Sergio Macias ذلك الأديب الذي فرضت عليه الأقدار أن يكون جَوَّابَ آفاق، وأُرغِم على الترحال والتجوال بين القارات بحثا عن الحرية والإنسانية والتعايش، يحمل معه الكلمة المعبرة التي تمد الجسور وتحقق التواصل بين الشعوب والحضارات أينما حل وارتحل. ولد في دولة الشيلي سنة 1938م بمدينة «غوربيا Gorbia»، ترك بلاده عقب سقوط حكومة رئيس الشيلي الأسبق سلفادور الليندي سنة 1973م على يد العسكريين الفاشيين، وانتقل بعد ذلك للعيش في إسبانيا حيث يدير مركز سلفادور الليندي للدراسات والأبحاث، ثم مساعد ثقافي في السفارة الشيلية بمدريد. إقامته في إسبانيا مكنته من التعرف على الثقافة العربية خاصة الأندلسية منها، وأدرك منذ الوهلة الأولى أهميتها وتغلغلها في جذور الثقافة الإسبانية والأوربية عموما. من هذه الأرضية انطلق يبدع مازجا بين القديم والحديث، فأضفى على التراث الإبداعي العربي القديم مسحة حديثة ساهمت في إعادته إلى السطح، ومكنت غير الناطقين بالعربية من التواصل معه والانفتاح عليه والتعرف على مواطن القوة والإثارة فيه. ففي مجال الشعر، من دواوينه «مخطوطة الأحلام» 1994م، و»سحر ابن زيدون El Hechizo de Ibn Zaydun « 2001م، و»تطوان في أحلام أنديزي » Tetuan en lod Sueños de un Andino «« 1986م، و»يوميات أمريكي لاتيني حول بغداد وأمكنة أخرى ساحرة» 1988م. أما في جانب الدراسات والأبحاث فنجد له كتاب «الأدب المغربي باللغة الإسبانية» 1996م، وكتاب «المغرب في الأدب الأمريكي اللاتيني» 2000م، و «فلسطين في الشعر العربي المعاصر»، و «مساهمة في مد الجسور وتقريب المسافات بين الأدبين العربي والأمريكي اللاتيني»، بالإضافة إلى مقالات ودراسات حول عبد الوهاب البياتي وجبران خليل جبران والمعتمد ابن عباد والزجال الأندلسي ابن قزمان القرطبي. عطفا على ما سبق سنقف في هذه السطور عند حضور الثقافة الشرقية في ديوانه «مخطوطة الأحلام (سيرة المعتمد) El manuscrito de los sueños» حول الشاعر الأندلسي المعتمد بن عباد، الذي ترجمه الشاعر المغربي الكبير عبد السلام مصباح. سحر المعتمد عاش المعتمد ابن عباد تجربة عشق مثيرة ورائعة غدت على مر الزمان أشهر من نار على علم، فقد أحب حبا عارما أخلص له طول عمره إلى آخر رمق من حياته. وهكذا فقد استدعى الشاعر سيرخيو ماثياس في ديوانه «مخطوطة الأحلام» هذه التجربة النادرة في الحب والعشق، المتلألئة في سماء العاشقين، التي جمعت شاعرا ملكا وفارسا ينتمي إلى سلالة الحاكمين، وجارية مملوكةً؛ أمرُها في يد غيرها، في حاجة إلى ملكِ قلبها الذي ينقلها من الحضيض إلى القمة لتكون سيدة ملكه وقلبه في بقية حياته، وحسب محمد عبد الرضا شياع فقد :»أبدع ماثياس بتجسيده لهذه العلاقة بين المعتمد وجاريته الرميكية عبر الصور التي رصدها لحياتهما، والتي كانت تنم عن معرفة باطنية بما يدور بينهما. فمن يتأمل الصور التي بثها الشاعر الشيلي بين ثنايا ديوانه يدرك العلاقة بين العاشقين وكأن كلا منهما ينادي الآخر يا أنا»، يقول ماثياس في إحدى هذه الصور التي أبدعها في حق هذين العاشقين: المعتمد والرميكية يتحابان بين مزارع عنب الكواكب. ينسكب النور فوق الأزهار وتبقى اللذة في ألحان الأيكة. وبخصوص المسار السياسي للمعتمد فقد تعاطف الشاعر الشيلي سيرخيو ماثياس معه أيما تعاطف، وتأسف على زوال ملكه وأفول مجده، وهذا التعاطف صادر من شاعر تجاه شاعر آخر، فالملاحظ في هذا الديوان التناص والتداخل بين الشاعرين إلى أبعد الحدود، هذا ما حدا بالأستاذة (ماريا خيسوس روبييرا مطا) أن تقول في مستهل تقديمها لهذا الديوان: «على هذه الصفحات نلقى شاعرا ينهل من شاعر آخر غير أن هذا لا يعتبر غريبا أبدا، ذلك أن الشعر يدين دائما إلى شاعر سابق بإبداعه، إلى أن يصل إلى تمتمات إنسان ما قبل التاريخ الذي أراد أن يغني الواقع بواسطة اللغة، إبداع الشعر لإيجاد شاعر بلا ماض شعري ربما، وحتى في هذه الحالة، إذ من الممكن أن يكون الإنسان قد سرق منه سر الشعر، كما سرق النار من الآلهة». ومن المعروف أن قضية المعتمد تنازعها الأدباء والسياسيون، فأصحاب الكلمة وعلى رأسهم ماثياس انتصروا له ولم يَرُقْ لهم ما آل إليه مصير المعتمد، لكن لرجال السياسة قول آخر في هذه القضية، إذ يرون أن ما آلت إليها أوضاع الأندلس في عهده وعهد أقرانه من ملوك الطوائف لا تسمح بأي مبرر لإدانة ما أقدم عليه يوسف بن تاشفين. وكيفما كانت الأحوال فالعظماء يستحقون العناية والاهتمام وِلما التعاطف كذلك، يقول ماثياس في آخر قصيدة من ديوانه وهو يعتصر ألما ومرارة على موت العاشقَيْن «المعتمد/ اعتماد»، وأفول شمسهما في أقاصي الجنوب المغربي: تحكي ذاكرة القرون عن موت العاشقين في «أغمات» حيث شاهدان يغمرهما القمر كُفَّا عن الاستماع إلى أغنيات الأندلس. ولم يفت الشاعر سيرخيو كذلك الوقوف مليا عند الصداقة التي جمعت المعتمد بابن عمار، هذا الذي تحول بقدرة قادر من صعلوك إلى وزير، وهو الشاهد على تجربة عشق المعتمد للرميكية، والمشرف والمدبر لقصة زواجهما، وهو الذي اختار للرميكية اسم اعتماد ليناسب اسم المعتمد، وقد صدر ذلك عن ذوق فني رفيع. إلا أن الأمور لن تستمر في السير على ما تشتهي السفن، فقد بدأ ابن عمار يتطلع إلى أكثر مما هو فيه من خير عميم، فالغيرة طارت بعقله، والأطماع استبدت بقلبه، ولم يكن يَدْرِ أن هذه التصرفات ستفقده كل شيء. جاء في ديوان مخطوطة الأحلام عن هذه اللحظات المأساوية في حياة الرجلين: يقرأ ابنُ عمار كتاب التنبؤات السرية. على صفحات كُتُب الملاحم حياتَهُ مكتوبة. يلتمس الرحمة للمعتمد باستكانة الضعيف. باستكانة من فقد الحُسْن. الريح تجتاز الكواكب حاملةً أنينَ العاشق الجريح. جاء الملك/الشاعر حاملا فأسا سُبِكَتْ من نجوم في معارك الأندلس. يدفنها في نافوراتٍ من دم. خلف «بوابة النخلة» استدعى الإصرارُ الموتَ، وحَمَله إلى بحرِ النسيانِ. سحر الرموز الشرقية على حد تعبير الشاعر (عبد السلام مصباح) فإن (سيرخيو ماثياس) قد مسه سحر الشرق برموزه الحضارية والثقافية، وبإشراقاته الصوفية منذ بداية الثمانينيات. فمنذ أن انتقل إلى العيش والاستقرار بإسبانيا بدأ يميل إلى الثقافة الشرقية ويحاول الغوص فيها والتعرف على جوانب الجاذبية فيها. ولعل دراساته وأبحاثه حول رموز الثقافة العربية، واحتكاكه بالمثقفين العرب ودخوله معهم في مشاريع ثقافية مشتركة ككتاب «انطولوجية الأدب المغربي المكتوب باللغة الاسبانية» الذي كتبه باشتراك مع الكاتب المغربي محمد شقور والذي صدر سنة 1995 عن مطبعة ماغاليا بمدريد. كل ذلك يبين مدى التحول الجذري في اهتماماته الثقافية والأدبية وميله الشديد إلى الضفة الجنوبية. فالديوان من أوله إلى آخره يطفح بالرموز الشرقية، والمتصفح له يجد نفسه كأنه أمام شاعر عربي يستدعي مرحلة مهمة من مراحل الأمجاد العربية التي تداخلت فيها السياسة والأدب، التاريخ والكلمة الشاعرة المعبرة. فالسحر هنا ينطلق من كل ما هو شرقي كآدم وحواء، وتجارة الحرير والجلابيب الثمينة القادمة من الشرق، والغزال واليمامة، والعصيدة والتمور، ومراقصة الأفاعي، والعود والموسيقي والأربسكات arabescos..وغير ذلك من الأبعاد والدلالات والإحالات التي تحيل على الشرق الذي يرمز لكل ما هو أصيل وقديم، ويعمد إلى ذلك كأنه ينتقي التحف واللآلئ النادرة، ويرصع بها الترسانة الجمالية والمعرفية للديوان. أما المعتمد الذي وسمه بأسَد الشرق فقد استعار عدة أبيات من أشعاره وطَعَّمَ بها قصائده محافظا على صياغتها، كما هو الحال في هذه النماذج: جاء في الصفحة (84) من الديوان: Se quitaba la túnica Del tierno talle, Y era como un capullo Que de enciende en flor وهو قول المعتمد: نَضَّتْ بُرْدَها عن غُصْنِ بَانٍ مُنَعَّمِ نَضِير كما انْشَقَّ الْكَمامُ عن الزَّهْرِ وفي الصفحة (68): Breve es el placer de esta vida وهو مقطع الشعر الذي يقول فيه المعتمد: «كَذا الدنيا قليلٌ متاعُها». والنموذج الثالث نأخذه من قصيدة «الحزن يجتاز الأفق»: Asegúrame que el juramento que nos une No se romperá con la lejanía Dentro de los pliegues de este poema Escondí tu dulce nombre Itimad ويقابله قول الشاعر المعتمد: أقِيمِي عَلَى العَهْدِ مَا بَيْنَنَا ولا تَسْتَحِيلِي لِطُولِ البِعَادِ دسَسْتُ اسْمَكِ الحُلْوِ فِي طَيِّ شِعْرِي وَألَّفْتُ فِيه حُرُوفَ اعْتِمَادِ. سحر المعجم العربي بعودة الشاعر الشيلي سيرخيو ماثياس Sergio Macias إلى الفترة الأندلسية، واختياره الشاعر المعتمد بن عباد موضوعا لديوانه «مخطوطة الأحلام El manuscrito de los sueños»، فإنه لم يستطع مفارقة المعجم العربي حتى وإن كان هذا الديوان مكتوبا باللغة الإسبانية، ويبدو أنه يريد أن يضفي نبرة عالية من الحوار الثقافي واللغوي على ديوانه، لذلك تعمد اختيار الألفاظ العربية وتطعيم متنه بها، تقول الأستاذة الإسبانية الباحثة في التراث العربي (ماريا خيسوس روبيبرا ماطا Maria Jesus Rubiera Mata) في مقدمتها لهذا الديوان عن رغبته الجامحة في الاستعانة باللغة العربية: »غير أننا في ديوان «مخطوطة الأحلام» نجد الكلمات الحلي، الأحجار الكريمة، استحضارية، إنها كلمات وضعها ماثياس بالعربية، كلمات جمعها خلال رحلته الطويلة إلى البلدان العربية، كلمات (بونة، أبو قلمون، كتب الملاحم) لكونها تشكل في اللغة العربية طرفا في استحضار الجن والعفاريت، لذا لا ينبغي تفسيرها، لأن إبهامها يضفي على القصيدة جمال الأحجار السوداء، جمال خرز الكهرمان الأسود«. بعض هذه المفردات التي اعتمدها الشاعر دخلت الإسبانية منذ قرون من الزمن نتيجة للتأثير الذي مارسته اللغة العربية عليها، لكنه أدخلها في الديوان عمدا متجاوزا بها المفردات الإسبانية المتاحة لديه بسهولة، متوخيا من ذلك إيثار المفردة العربية على المفردة الإسبانية المتداولة، من قبيل ذلك: laúd: ويقصد بها العود باللغة العربية، لكنه يبدو أنه آثرها على كلمة guitarra أي القيثارة وهي الأكثر تداولا في اللغة الإسبانية وهي نفسها من أصل عربي. cálamo: أي القلم، ووردت في صورة فنية جميلة يقول فيها: Con el cálamo del sol escribe poemas En las alas de las flores أي: بقلمِ الشمسِ يكتبُ قصائدَ على أجنحةِ الأزهارِ rebab: الرباب. gacela: أي الغزال، وترمز للجمال والرشاقة في المشي في الذاكرة العربية (كعب الغزال). azahares: الأزهار وهي كذلك من الكلمات العربية التي دخلت اللغة الإسبانية، وبالرغم من أن كلمة flores هي الأكثر استعمالا لكن الشاعر تخلى عنها ليفسح المجال للكلمة التي تحمل في طياتها معاني وأبعادا عربية. cítara: القيثارة، وهي نفسها guitarra وبالرغم من وجود كلتي المفردتين في الإسبانية فإنه فضل الاعتماد على الأولى لأنها الأقرب من الناحية المورفولوجية من اللفظ العربي قيثارة. al-Mubarak: المبارك. minarate: المنارة أو المئذنة. el mizmar: المزمار، ودلالتها العربية أقوى في الديوان من كلمة flauta الإسبانية. el almuédano: المؤذن، وتدل هذه الكلمة على الثقافة الإسلامية التي طبعت الأندلس لعقود من الزمن. Kutub al-malahim: أي كتب الملاحم التي يسطر فيها أمجاد الأبطال، وقد عبر عن هذه الملحمة التاريخية للمعتمد بقوله: Ibn?Ammar lee el misterioso Libro de las predicciones En las hojas de Kutub al-malahim Está escrita su vida المعنى: يقرأ ابن عمار كتاب التنبؤات السرية. على صفحات كتب الملاحم حياتُهُ مكتوبةٌ. narcisos: النرجس. jasmines: الياسمين. ?asida: العصيدة. أما النوع الآخر من هذه المفردات العربية فيمكن عَدُّهُ من الدخيل، وأغلبه من أسماء الأعلام التي دخلت الإسبانية لكن دون وجود مقابل لها في هذه اللغة، مثل: * Guadalquivir : وهو نهر يخترق إشبيلية مدينة المعتمد بن عباد. * Al-andalus: بلاد الأندلس. * Al-Mu?tamid: المقصود به المعتمد ابن عباد. * Ibn Zaydun: ابن زيدون. * Rumaykiyya: الرميكية وهي زوج المعتمد وأم أولاده. * Agmat: أغمات، وتوجد بالقرب من مدينة مراكش وهو المكان الذي نفاه إليه يوسف بن تاشفين وفيه دفن المعتمد وزوجه وابنه، وهو مكان يتميز بسحر الطبيعة يشبه إلى حد كبير في جماله مدينة إشبيلية عاصمة المعتمد.