استعيذ ذكريات الماضي البعيد والقريب فلا تتراءى أمامي إلا أشباح الغربة بعذاباتها ومتاعبها ... أجول بخاطري فيما مضى وفيما يأتي في مقبل الأيام وأنا يتقاذفني اليأس والأمل ثارة والشدة والرخاء ثارة أخرى .. لكن معاني الإيجاب، معاني الأمل لغد أفضل مشرق تعلو على كل هذا وذاك... نعم كنت أحب الغربة والوحدة لأعيش فيها لحظات خيال سابحة أغوص من خلالها في دواخلي واتامل في كينونتي وجوهري . اتامل في الحياة والكون ، لكن عندما عايشتها عرفت أن حبها شيء وان التعايش مع هذا الحب شيء آخر مغاير .. قد يفهم البعض أن الغربة ترك الأهل والوطن والسفر بعيدا من اجل تحصيل علم أو تحصيل لقمة عيش.. وهو فهم صادق لكنه قاصر .. فحقيقة الغربة هي التي يعيشها المسلم في زمن الظلام والجاهلية العمياء ، زمن اللائكية واللائكيين والشعبويين والاقصائيين.. الذين ما فتئوا يستثمرون كل طاقاتهم من اجل بناء مجتمع فيه من صفات الانحلال والظلامية والسفور ما يجعل مشاعر وأحاسيس الفرد تشمئز و تتقزز من بلادتها فكرا ومرجعا ومنهجا في الحياة، ناهيك عن القصور وضيق أفق الرؤية في التحليل والفهم الواضح الجلي جلاء الشمس في الظهيرة في التعامل مع عقيدة التوحيد. غربة هي في فكره ووجدانه وعقيدته، تلك هي الغربة المريرة التي يعيشها ويشعرها العبد المسافر في الدنيا إلى الآخرة شعاره فيها نصيحة سيد الورى وشفيع المخلوقات عليه الصلاة والسلام \" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل\" ، فتهون عليه كل المصائب .. وتضعف أمامه جل المتاعب.. غرباء وارتضيناه شعار حياه ********** غرباء ولغير الله لا نحني الجباه لماذا اكتب ؟ انه سؤال- رغم أن السؤال اكبر مني- يطاردني كلما كتبت أو هممت بالكتابة.. ومع ذلك لا بد من طرحه والوقوف عنده وإخضاعه للجهاز الكاشف عن مدى صدقه أو كذبه.. ولابد من الإجابة عنه حتى تكون الكتابة هادفة وخالصة ، وحتى يكون لها تأثير في الأنا الآخر رغبة في سبر أغواره والتربع على عرش فؤاده وفكره قصد ممارسة فعل التغيير عليه دون الركون الدائم إلى الانعزالية والدروشة.. إن الكتابة للكتابة هي هواية وحرفة وملكة لا تعطى لكل فرد في هذه الحياة الآيلة إلى الزوال لا محالة .. ولا تؤدي دورها ومفعولها الاحينما تكون الفكرة ممزوجة ومرصعة بذهب الصراحة والوجدان ، ومسيجة بملامسة الواقع كيفما كانت طبيعته.. وان تخاطب العقول والألباب والضمائر التي تحمل هم هذه الأمة.. إن أمانة القلم تفرض علي هذا السؤال العلم: لماذا اكتب ؟ وما المغزى من الكتابة ؟ ربما حفاظا على حرية الكلمة ورصانة العبارة وقوة الفكر والهدف السامي لدي .. أو قد تكون لأمر آخر لم أتوصل إليه بعد.. ولكن حتى السكوت عنه يعتبر إجابة شافية كافية لي . اكتب بالقلم الذي قال عنه الشاعر الثوري الغاضب احمد مطر: جسَّ الطبيبُ خافقي وقالَ لي : هلْ ها هُنا الألَمْ ؟ قُلتُ له: نعَمْ فَشقَّ بالمِشرَطِ جيبَ معطَفي وأخرَجَ القَلَمْ! ** هَزَّ الطّبيبُ رأسَهُ .. ومالَ وابتَسمْ وَقالَ لي : ليسَ سوى قَلَمْ فقُلتُ : لا يا سَيّدي هذه يَدٌ .. وَفَمْ رَصاصةٌ .. وَدَمْ وَتُهمةٌ سافِرةٌ .. تَمشي بِلا قَدَمْ ! نورالدين حنين/المراسل