عند الامتحان يعز المرء أو يهان، هذا ما تذكرته عندما انتشرنا قبالة باب القاعة ننتظر وصول الأستاذ الذي سيحرسنا اليوم في الاختبار. رحت أناقش مسألة مع زميل ثم ما لبث أن طلب مني إطرابه بشيء من الشعر، فقلت بيتين أو ثلاثا و في المقطع الأخير و صل الأستاذ. فتح القاعة و اتجه ناحية مقعده، تزاحم الطلبة و الكل يروم مكانا قصيا في الخلف يمكنه من التحرك، فهذا الأستاذ أسوأ الحراس و أدقهم ملاحظة لا يرحم من يقع في يده، ولا يكلف نفسه سوى طرد الطالب و كتابة تقرير. بدأت دقات القلوب تتسارع، الأستاذ يرقب الطلبة بوجهه الجامد و يحصي حركاتهم و سكناتهم، يحفظ أماكنهم بعينيه اللتين تخفيهما نظارة. وصلت أوراق الامتحان جاء بها أستاذ آخر، وزعاها على الطلبة و أخذا يذرعان القاعة جيئة و ذهابا يتمشيان بين صفوف الطاولات و أنا مشغول بقراءة الاختبار. يمران من أمامي و بجانبي و لا ألتفت، وكل لديه اليوم شأن يغنيه. مرت نصف ساعة ولم يفتح الله علي بجواب لسؤال و الزملاء من حولي يكتبون دون انقطاع، وكلما مر علي الأستاذ ينظر إلى ورقة على طاولتي بيضاء من غير سوء فيبتسم، ومن جانبي أنا أحتشم فأنقض على المسودة أكتب، لا علاقة لما أكتبه بالسؤال. أنظر من خلال النافذة، ضوء الشمس من زجاجها يسطع، وصوت نقيق ضفدع من جهتها يسمع، وفجأة خطرت لي فكرة: لم لا أستعمل عقلي بدلا من الوقوف موقف المشاهد؟ أتأمل وجه "فريد"، مسار نظرته لا يتغير، تابعته مرتين من قبل، ينظر جهة الأستاذ ثم السبورة، و حثيثا نحو أول الصف فتستقر على ساقي فتاة لا أعرفها لبضع ثوان وفي الأخير تنسحب نحو الورقة. يزأر الأستاذ بكلام ، فهمت من خلاله أن الوقت بدأ ينفذ وورقتي بيضاء من غير سوء، أعتصر مخي لعله يجود بشيء، و لكن هيهات ففاقد الشيء لايعطيه. أعدت كتابة الأسئلة و مررت جملتين أو ثلاثا بين سؤال و سؤال و التمعت في ذهني فكرة، ما لبثت أن كبرت و كبرت و كبرت ثم التهمت كل شيء.. انتهى الوقت يصيح الأستاذ، أكاد أشم رائحة الأدرينالين فائحة من فتاة على الطاولة بجانبي، بلغ توترها مداه تمسح عرقا وهميا فوق جبينها وتبلع الريق بصوت مسموع. ما تزال منكبة على رسم أخطوط لم أعرف هل درسناه من قبل أم دسته على سبيل الاختيار، والحق أني لمحته في كتاب ما.. نهضت وجمعت أقلامي، أخذت الورقة ووضعتها على مكتب الأستاذ ثم خرجت. بعد دقيقتين رجعت إليه معدوم الحيلة قائلا: -لقد نسيت كتابة اسمي. -أسرع بكتابته إذن. رحت أقلب الأوراق و كأنني أبحث عن ورقتي، لفتتني ورقة منظمة مذيلة باسم أنيق لفتاة، شطبت على الاسم و كتبت اسمي بأسرع ما أمكنني و عيني على الأستاذين. رددت الورقة بين الورقات وفي أثناء ذلك لفتتت انتباهي ورقة لم يمسها قلم، بيضاء من غير سوء.