تقف إسرائيل على منجز ابادتها للشعب الفلسطيني في غزة، ولا يتبين لها سوى العدم.. لا أفق، لا أمل.. عام كامل، كان الفلسطينيون يقاتلون من أجل إقامة دولة فلسطين، لكن أيضا من أجل إزالة دولة إسرائيل.. الموتى الفلسطينيون لا يعرفون الراحة في قبورهم.. أحياء يقاتلون.. وأموتا يقاتلون.. كانوا يموتون، لكي لا ترتاح إسرائيل لألف عام قادمة، ألم يقل جان جونيه، وهو من بين الشهود الذين وقفوا في صف الضحية الفلسطيني، في كُتيّبه "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" بعد زيارته لأطلال مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982، قال " الموتى الفلسطينيون بلا عد ولا حصر، لكن لا أمل للقتلة، ولينتظروا أحزان الحرب بعد مائة أو ألف عام..".. حتى أن التاريخ لا يحتفظ في أرض فلسلطين بمعنى الانتصار، فكل الأقوام التي مرت على درب الغزاة، "ما يتبقى لها" مجرد إحساس شاق بالهزيمة.. وكأن الروائي الفلسطيني غسان كنفاني ما زال يرفع يد انتيغون الفلسطيني، كما لو أنه يُعِد أمام الله الضحايا الفلسطينيين واحدا واحدا، كي يخبروا الله، بما ينتظر أحفادهم.. طوابير الضحايا طويلة، وهناك من يتوقع أنها لن تزول إلا مع الأزل.. كيف زوّرُوا النبي موسى الكيان الصهيوني يوهم نفسه، أنه لا يزول مع الأزل، خلافا لكل الأقوام التي مرت من فلسطين كما يقول الإرهابي نتنياهو، مع أن الرجل يحمل في ذاكرته الاجرامية جملة من مشاريع الكذب، لكنه ينسى أن الغزاة قتلوا وأسالوا دماء كثيرة، واستباحوا الارض والبشر والشجر، لكنهم لم ينتصروا، ولم يستمروا.. ساعة هارون الرشيد ما زالت معلقة في بلاط الامبراطور الروماني شارلمان أو شارل الأكبر، كأنها تغزل الزمن بتعاقب الأقوام والشعوب في الأرض الفلسطينية.. ثم لا ينسون كيف قدم هارون الرشيد هدية الساعة الشهيرة إلى الملك شارلمان، قال له باستغراب، "تأكد إنها لن تدلك على طريقة للغزو، ولا هي مصدر قوة للانتصار، فحيث توجد تكون بوادر القيامة.. لكنها آلة لا تصلح لما بعد الموت".. فكان رد شارلمان، " مهما انتصرنا عليهم، ومهما طال انتصارنا، فإن ساعة الهزيمة أمامهم لا ريب فيها.." لكن إسرائيل التي لم تكن تحلم في يوم الأيام بالبقاء في أي مكان.. كانت قد أعلنت الحرب على نفسها بين مملكة السامرا ومملكة يهودا.. فتقاتل يهود المملكتان زمنا طويلا، وتبخرا معا في سديم التاريخ.. فهاجرا معا، على طريق السَّبْيِ البابلي الأول والثاني والثالث.. وانشغلا عن كتابة كتابهم المقدس زمنا طويلا، إلى أن أملاه عليهم عزرا، وربما كتبة آخرين.. وفق أحزان هجراتهم، وسوء مصالحهم وضغينتهم للملوك الذين كانوا يتلهون زمنا طويلا بسبي اليهود … حتى أننا لا نعرف حقا، هل يكون موسى، وهو نبي الله، هو من كان يقول بالحرب الشعواء والهلاك لجميع الأعداء، وإن كان الأرجح أن اليهود برعوا تاريخيا في التزوير والكذب، فزوروا كتابهم المقدس، وأحالوه كما لو كان مجرد قرطاس من الأوامر والتوجيهات العسكرية، ضدا على سماحة النبي موسى، وكانوا من المعترضين، فخلقوا الأحزان وساروا وراءها يندبون.. الموتى يَرِثون آلام الأرض ألفوا الشتات والطرد والتهجير إلى أن أصبحوا ثقلا ومصيبة في كل مكان حلوا به.. فطردوا على مر تاريخ الديانة اليهودية، من انجلترا عام 1290 وسارت على نحوها دول أخرى فطردتهم المجر عام 1349 وفرنسا 1394 والنمسا 1421 ونابولي وميلانو 1597 وإسبانيا 1492 والبرتغال 1497 وروسيا 1890 وغيرها، ومنعتهم أمريكا من الوصول إليها في عهد الرئيس واشنطن، وتكرر تهجير اليهود من هذه البلدان مرات عديدة.. لكن إسرائيل تتعامل مع التاريخ، كما لو كان قطعة من الأيس كريم.. تستلذ جاذبية مذاقه، وتستميلها دهشة انتشاءه، فيغدو مداقه الحلو ماء ولعابا، وهبابا وفراغا.. وحين تعبوا من إبادة الشعب الفلسطيني في غزة.. وهي ليست الإبادة الأخيرة.. تأكدوا أن الموت في ذلك المكان لا يعني نهاية وفناء البشر، بل إن الموتى يضيقون ذرعا بقبورهم، إنهم مبعث قلق للكيان الصهيوني، كافكا تحدث عن الموتى الذين يَرِثون آلام الموت.. تحديدا آلام التشبث بالأرض.. منذ1948 رموا الشعب الفلسطيني في المنافي، بعد أن انتزعوه قسرا من أرضه، فسارت به المنافي في كل جهات الارض، فقبل مكرها أن يبقى لاجئا في انتظار عودته إلى وطنه.. حتى أن الرئيس الأمريكي ترامب الذي يعتبر نفسه نتاجا لعبقرية الكاوبوي، اهتدى إلى حل تهجير الفلسطينيين من غزة، كأي تلميذ بليد يعاني من جهل كبير بتاريخ فلسطين، ويتعلم عن مضض أبجديات الاستعباد.. ولم يكن يفعل أكثر من استعادة نبوءات قادة الكيان الاسرائيلي، الذين ظلوا يطالبون بتهجير الشعب الفلسطيني، كأنهم يستعيدون ذكرى أحزان هجراتهم المكرورة من أورشليم إلى بابل ، مرورا بطردهم وشتاتهم الأخير من أوروبا إلى فلسطين المحتلة.. ترامب يعتبر، وعلى عادة أمريكا في أخلاء الأراضي الأمريكية من الهنود الحمر، وهم ساكنتها الأصليون، أن أيسر الحلول تبدأ بالتهجير وإخلاء الأراضي من ساكنتها.. فعندما وصل المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا أطلقوا على سكانها الأصليون اسم الهنود الحمر، وكان عددهم يزيد عن 130 مليون نسمة، وانطلق المهاجرون الأوروبيين تدشين الإخلاء الجماعي من أراضيهم، وفي كل مرة يطلبون منهم الانتقال من مكان إلى آخر، فقتلوا منهم نحو 100 مليون نسمة خلال 14 عامًا فقط، وخلال الفترة ما بين 1662 و1676 تم الاجهاز على ما تبقى منهم، إضافة إلى محاصرتهم بالأوبئة والأمراض، وإغراقهم بالكحول.. إلى أن نجح الأوروبيون في حيازة كل أراضيهم، وإبادتهم على نحو يكاد يكون نهائيا.. وهي نفس الاحلام التي راودت ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين وإخلاء غزة من ساكنتها، والنتيجة لابد أن تكون متشابهة. أرض الديانات ومثوى للأنبياء ترامب، يرى أن ما نجحت فيه أمريكا لا يمكن أن تخفق فيه إسرائيل، فالغزو الأمريكي بدأ بتحييد أصحاب الأرض من الهنود الحمر.. ولابد أن تكون جريمة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين على مقاس جريمة أمريكا مع سكانها الاصليين.. فقد استولت على الارض الفلسطينية في بداية القرن الماضي، خمس عصابات يهودية وهي: هاغاناه، ارغون، بيتار، شتيرن، بلماخ، كل واحدة تحمل في عنقها أكثر من مجزرة ضد الفلسطينيين.. وبعد أسبوعين من الإعلان المريب على قيام دولة إسرائيل عام 1948، اتحدت هذه العصابات، وشكلت الجيش الإسرائيلي الذي واصل عمليات الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين دون توقف على امتداد أكثر من سبعين عاما.. وما زالت عمليات التقتيل وإبادة الشعب الفلسطيني سارية ومتواصلة.. وخلال أزيد من سبعين عاما من الاحتلال، لم يتعب الفلسطينيون من الموت، وبينهم في الوقت الحالي من يخاتل الموت بالانتقال من مكان إلى آخر في غزة، صعودا من الجنوب إلى الشمال، أو انتقالا بين الأمكنة نفسها.. لكن مع ذلك إنهم يبنون مشهداً مغايراً، هم العائدون إلى حطامهم، العائدون إلى الدمار والخراب، لكنهم ينصبون خيام البقاء والبناء والصبر.. حتى أنه لو كان سالفادور دالي بيننا لقال أن للسوريالية أيضا جانب يمكن تحويله إلى قدر من الحياة وشيئا من هلامية متاع المقاومة والبقاء.. وكان جان جونيه قبله، سأل السؤال نفسه… لكن كيف لم يفلحوا من اقتلاعهم والرمي بهم بعيدا.. بل من مكن إسرائيل من الأراضي الفلسطينية كي تحولها إلى أريكة يرفس فيها الحاخامات بأقدامهم، مع أنها كانت على مر التاريخ أريكة لكل الديانات ومثوى للأنبياء.. كيسنجر، عراب الديبلوماسية الأمريكية.. كتب كتابا فريدا عن الديبلوماسية، وهو الرجل الوحيد في تاريخ الولايات المتحدةالامريكية، الذي جمع بين يديه وزارة الخارجية، مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي، وضع العديد من مفردات الديبلوماسية الحديثة، وأغربها "الصبر الديبلوماسي".. كان بارعا في استعماله خلال مفاوضاته مع الصين، وعمل به في اخراج بلاده من حرب الفيتنام، ونقل الصراع بين بلاده والاتحاد السوفياتي من مستوى الحرب الباردة، إلى مستوى أقل قليلا من الحرب الجامدة.. قال في نهاية كتابه، "من غير المؤكد، أن يتعايش المستحيلان على تلك الأرض.. أن ينسى الشعب الفلسطيني أنه محتل، وأن تنسى إسرائيل أنه يمكن لها أن تتعايش مع الشعب الفلسطيني.. ديبلوماسية البطة العرجاء ورغم أن كيسنجر ترك منصبه في أواسط السبعينات من القرن الماضي، إلا أن تأثيره في السياسة الخارجية الأمريكية، تواصل في أوروبا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى مواقفه بشأن عدة أحداث في الشرق الأوسط، في حرب أكتوبر والسلام في الشرق الأوسط إلى حرب العراق والربيع العربي وحرب الروسية الأوكرانية ووصولا إلى كل الحروب التي قام بها الكيان الصهيوني في غزة، وفي باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.. وربما يكون كيسنجر هو الوحيد من وزراء خارجية أمريكا، الذي يعتبر أن ديبلوماسية الصبر، أعطت نتائجها في العديد من بؤر الصراع الأمريكية في العالم، لكن في فلسطين المحتلة، كانت أشبه بالبطة العرجاء، بالرغم من أنه تمكن من وقف الحرب بين العرب وإسرائيل في أكتوبر عام 1973 وتوقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.. كان كيسنجر من أشد المنتقدين للسياسة الخارجية لبعض الرؤساء الأميركيين، وقال إنهم يسعون لتحقيق قفزة سريعة للغاية نحو السلام في الشرق الأوسط، دون اتباع سياسة خطوة خطوة، لأنه لا يمكن الخروج بأي نتيجة، فالصراع في تلك المنطقة التي تتزاحم فيها الديانات، ومن الصعب إقناع نبي من الأنبياء أنه جانب الصواب"، وفي مقال له، تحدث بأن الصراع قديم، لأنه صراع ديانات.." والحال أن كيسنجر بذلك، واعتبارا لخلفيته اليهودية، تحدث عن الصراع باعتباره غيابا للحل، وأنه مشكلة فلسطينية وليست إسرائيلية.. وحين أجاب عن سبب تمكنه من وقف حرب أكتوبر 1973، قال "لأننا كنا نخاف أكثر على إسرائيل".. وماذا تفعلون للشعب الفلسطيني؟ ".. "نفضل أن يبتعدوا عن إسرائيل".. كان هذا الكلام في نهاية ولاية كسنجر كوزير لخارجية بلاده، لكن إسرائيل وعلى لسان الكثير من قادتها وأحزابها سواء اليمينة أو اليسارية، ذهبوا بكلامه إلى مقصد واحد، وهو أن ابعاد الشعب الفلسطيني من أرضه، هو الحل الوحيد لمشكلة الشرق الأوسط، لكن العديد من الرؤساء الأمريكيين، يفاوضون القادة العرب.. (هذا إذا كان هناك بينهم من يقبل الكلام عن الشعب الفلسطيني)، يعتبرون أن إسرائيل هي أرض الميعاد، وأن الشعب الفلسطيني، شعب هلامي بلا أرض، ويمكن أن يبتعد عن إسرائيل إلى الاردن او سيناء المصرية، أو إلى سوريا، أو لبنان على الرغم من أنه يعاني من فائض في صراع طوائفه.. وهذا الكلام هو الذي علق عليه الراحل ياسر عرفات.. "تعتبرون حلول السلام مستحيلة.. وتعتبرون أن القضية الفلسطينية شائكة ومستحيلة، وبقاء الاحتلال الإسرائيلي غير مستحيل، وبذلك فإنكم تؤكدون الابقاء على الاحتلال الاسرائيلي.. والرهان على حرب المائة عام القادمة..". ولعل هذه الحرب ما زالت قائمة ومستمرة.. وأن الولايات المتحدة ما زالت تدفع بالحلول المستحيلة، وأيضا صيانة ودوام بقاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، في انتظار الهزيمة الفلسطينية أو التهجير أو الشتات القسري، وهذا ما عبر عنه كيسنجر.. "ستكون أطول حرب في التاريخ المعاصر، التي أتمنى أن تنتصر فيها إسرائيل".. وحين هاجم الفلسطينيون اسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، فيما يسمي بطوفان الأقصى، قال كيسنجر لصحيفة وول ستريت جورنال، "… كأنني بت لا أعرف المنطقة. من المستحيل أن تجمع مستحيلان على أرض واحدة. وتبين لي أن الإرهاب الفلسطيني سبب الحرب في المنطقة، وأن العداء الفلسطيني يجب مواجهته بعقوبة إسرائيلية كبيرة..". حتى أنت يا دانتي.. رحل كيسنجر عام 2023، وما زال الكيان الصهيوني يعاقب الشعب الفلسطيني، بدعم ودفع من امريكا والدول الغربية.. وفي الوقت الذي انطلقت فيه عمليات إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، وكان قبل ذلك قد أجرت معه مجلة واشنطن بوست حوارا، عن الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، فقال.. " عشت شطرا من هذا الصراع، وهو قليل قياسا لتاريخ الصراع الطويل، وأعرف الآن، أن الحرب ستكون طويلة بينهما.. وربما لن يهزم الشعب الفلسطيني، لكن أيضا لن تنتصر إسرائيل..". هذا حين نكون أمام فجوة تاريخية كبيرة، قال عنها المؤرخ الأمريكي ألفريد ثاير ماهان (1840 -1914)، صاحب كتاب "تأثير القوّة البحريّة على التاريخ"، وهو "أهمّ مفكّر ومؤرخ أميركي في القرن التّاسع عشر"؛ وصاحب اسم "االشرق الأوسط"، الذي أطلقه على المنطقة، قال، "إنها أرض تتزاحم فيها الديانات والهويات، والحروب المقدسة والأزمات.. وكانت على مر التاريخ، على هذا النحو، وليس هناك ما سيغير حالها الآن.. ولا أن يظهر من يستقوي فيها على بقية الشعوب الأخرى، أو يراهن بأن تكون الأرض له وحده.. ألفريد ماهان، هو من قال أيضا، اسألوا دانتي أليغييري، الذي كتب "الكوميديا الالهية" عن تلك المنطقة، فهي من كان يعتبرها جهنم.. فقد أمضى واحد وعشرون عاما في منفاه، وربما كتب ثلاثيته السماوية وهو يتصور موقعها في تلك المنطقة.. والحق أنه كان يقصد بكلامه عبارة مترجمة من اللغة الايطالية المحلية التي كتب بها دانتي ثلاثيته السماوية. فعلى بوابة الجحيم تقول العبارة " أيها الداخلون اخلعوا ثيابكم، لا أمل ".. ولكن يبدو أن الصهاينة الآتون من مختلف الهويات التي لا يستطيع جمعها في هوية واحدة، لم يفقهوا هذه العبارة، وهم يتدفقون على الساحل الفلسطيني على مدى قرن من الزمان، مثل أسراب الذباب.. كانت العبارة بالعربية الفصحى، وليس باللهجة الايطالية المحكية، ولا باليديش، ولا بأي لغة من لغات أوروبا الشرقية.. وقبل غزو اليهود لفلسطين، أخطأت جموع الصليبيين في قراءة العبارة، وهم يتدفقون بفرسانهم وصلبانهم وقادتهم وملوكهم وينشرون سفنهم في شواطئ شرق البحر المتوسط.. ثم أخطأوا معتقدين أنهم سيهدمون المنطقة على شعوبها، لكنهم هزموا، وما زالوا يعاودون كَرات الهدم حتى الآن.. ولم ينته الهدم.. أخطأوا لأن الجحيم هو ما ينتظر الغزاة دائما، حتى ولو تمكنوا أو ظنوا أنهم تمكنوا من الأرض، ورقاب الناس وتمكنوا بكامل أسلحتهم وقلاعهم من شواطئ فلسطين.. ما يحدث الآن لهؤلاء الغزاة، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الإسرائيليين، وحماتهم الغربيين، هو أنهم لا يسألون السؤال البديهي البسيط، ما الذي جاء بهم إلى هذه الأرض الغريبة، وما الذي يفعلون بشعبها الفلسطيني، ولأي أمد سيبقون محتلين وقتلة.. بل يكتفون بطرح السؤال الخطأ، لماذا لا يستسلم الفلسطينيون والعرب.. الهزيمة في خيال الغزاة والراجح أن طرح السؤال الصحيح نصف الصواب.. ولكن في المقابل فإن طرح السؤال الخطأ لا جواب عليه سوى نيران الجحيم.. الفلسطينيون والعرب لا يستسلمون بسهولة.. لا ينسون كيف هزموا وقتلوا وأبيدوا.. وهذه سجيتهم وعادتهم على مر العصور.. وحتى الآن، لا توجد الهزيمة إلا في خيال الغزاة وأوهامهم.. فقبلهم أبيدت شعوب كثيرة على هذه الارض، لكن حفدتهم ما زالوا على خطوط العودة وعدم الاستسلام.. فلا يعرف هؤلاء أنه بعد مسح قرطاجنة من الخريطة، عاد أحفادهم، ومسحوا الرومان من أرضهم.. وخاب حلم البريطانيون بالبقاء كثر في أرض فلسطين، بعد اغتيال عز الدين القسام عام 1935 ، وأن أحفاده قد عادوا بعد نصف قرن ليواصلوا السير على درب المقاومة التي خطها الشهيد القسام.. وما زال الاسرائيليون يضرمون محارق موت أبرياء الشعب الفلسطيني، في أكثر من قرية فلسطينية، وقد يأتي اليوم الذي سيحرق الاسرائيليون ببقايا وشظايا النار التي أحرقوا بها الشعب الفلسطيني.. لن ندع الأنبياء يستريحون على تلك الأرض.. هكذا يقول الصهاينة في حربهم ضد الشعب الفلسطيني.. وقد يكتبون بالدم الفلسطيني نفسه شيئا من إوديسا الجحيم التي تحدت عنها دانتي في ثلاثيته السماوية.. والحال أن جميع الانبياء مروا من الأرض الفلسطينية، أعلنوا منها عن بدء الحياة وسلام الانسان، لا أن يصنعوا قيامة الانسان.. لكن ما تقوم يه إسرائيل في فلسطين قيامة مؤجلة.. ألهذه الدرجة بات الوجود الإسرائيلي مؤرقا ومكلفا في التعاطي بهمجية وسوء فهم للتاريخ.. حتى أنهم أغرقوا المنطقة بغابة الأساطير الكاذبة والمنتحلة.. وأحالوا الأنبياء إلى بضاعة سخية. روجيه غارودي، الآتي من خريف الماركسية، يتساءل بغضب، لم كل هذا الخوف على نهاية إسرائيل.. وما إذا كانت نهاية إسرائيل تَعني نهاية الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ليَستدرِكَ قائلاً: "… الخوف كله من عودة يهود إسرائيل إلى الشتات في الدول الأوروبية وأمريكا.. "، "وزير الخارجية بلينكن في حكومة الرئيس بايدن، قال في أولى زياراته الداعمة لإسرائيل في حرب إبادتها لغزة.." سقوط إسرائيل هو سقوط العالم".. لكن بلينكن، الذي قال إنه جاء من أجل روح جده الذي قتل في أوشفيتز نسي أن تراب المنطقة معجون بدماء الشعب الفلسطيني منذ الأزل، ولا يوجد هناك من دم يهودي مسفوح في أرض فلسطين، لكنه يوجد في شتات الكيبوتزات اليهودية في كل دول الغرب.. في إسرائيل، لا يتم الرجوع إلى دروس التاريخ.. أو التذكر أنهم يخلطون التاريخ الكاذب بسوريالية عفنة، ومزيج من البكاء والعواء.. يبيدون الشعب الفلسطيني، ويستقوون بأمريكا وباقي الدول الغربية، مع العلم أن الاستقواء بالآخر، في مواجهات ظالمة وغير عادلة، تؤدي بالضرورة إلى السقوط التراجيدي القاتل.. المؤرخ الأمريكي بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط الامبراطوريات"، يصل إلى حتمية سقوط القوة العمياء.. لكن في السابع من أكتوبر، وهو يوم هجوم الأقصى، فإن إسرائيل لم تعد هي إسرائيل.. فقد أظهرت إسرائيل منذ الأسبوع الأول للحرب عن خصاص كبير في السلاح، وأظهر الاسرائيليون على خصاص كبير في الانتماء والتشبت بالأرض.. فيما المقاومة الفلسطينية واصلت الحرب لأزيد من عام، وكأنها تحارب من قبور أجدادها، من دون الحاجة إلى إمداداتٍ السلاح.. ولولا مدد السلاح الأمريكي والأوروبي.. لتحولت إسرائيل إلى حائط مبكى.. صحيفة إسرائيلية كتبت.. "ألا يمكن أن يكون ما يحدث بداية الطريق إلى النهاية". بعض الدول والكيانات كان عمرها أكثر من عمر الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرحلوا واختفوا وانتهوا، في تلك الأرض، بدءا من الرومان والمغول والفرس والعثمانيين، والانجليز والفرنسيين.. وصولا في الوقت الحالي إلى الكاوبوي الأمريكي.. حتى لو قال الحاخام كاهانا المتطرف، " حيث يعاد بناء الهيكل تكون إسرائيل".. لكن مع الأسف لا أحد يعرف من يجر الآخر إلى المنطقة، إسرائيل أم أمريكا..؟.. المؤرخ أرنولد توينبي، يقول "إنها أرض تعاني من فائض الديانات"، والحال أن لا مكان هناك لفائض الفاشيست والصهاينة، وأن إسرائيل مجرد كولاج مؤقت تم إلصاقه قسرا بالأرض، قد يتم ترميم ودعم بقاءه طويلا، لكن قدر الكولاج إلى زوال.. كيف؟ لأن المنطقة، أرض اهتزاز المستحيلات.. تقول إسرائيل، لنا الأرض بمفردنا، الباقي إلى البحر.. مناحيم بيغن يقول، إذا استطعتم أن تقنعوا يشوع بن نون، بلا جدوى الدم.. قد نخلي هذه الأرض إلى مكان آخر.. وهذا أيضا ضرب من المستحيل، فقد جعلوا يشوع بن نون يرد في سِفره لبني إسرائيل نقلاً عن يهوه "لن تتركوا أحدا فيها، احرقوا المدينة بمَن فيها".. * إعلامي وكاتب