لقد أطلق الجنرال عزرا وايزمان، في حوار مع الصحيفة الإسرائيلية «يديعوت أحرنوت»، في هذا الصدد، كلمات غاية في الوجاهة، أتصور بفرح مشوب بمكر، الوقعَ الذي يمكن أن يكون لها على العالم الباريسي الصغير، الذي يستمد حججه من أسوإ التجاوزات الإسرائيلية، لأجل أن تركن إلى أصولية سياسية دينية متحالفة مع جهل عز له نظير. وأصل الآن، إلى ختام هذه الرسالة، التي شرعت أكتبها منذ فاتح دجنبر. نحن الآن في 15 دجنبر. وربما يكون قد آن الأوان لأعلِّق قلمي. لكن لا يفوتني أن أقول لك إنني أعدت قراءة فوتيمو لانغو، فسحرتني حيويته. فإنك واجد فيه أسلوب «ماركس الشاب». وهي الأمور التي لاشك أن مزدروك يؤاخذونك بها. إنك تمهد لطرح القضية اليهودية العربية على صعيد مثير أخاذ، كمثل ما هو الصعيد الذي ينظر إليها منه سليمان دوف غواتاين في مؤلفه الموسوم «يهود وعرب». هذا المؤلف الذي بات اليوم مفقوداً، فقد نفدَ ولم يعد طبعه. فهل كان بمحض الصدفة؟ ومع ذلك، فمن المؤكد إن إنشاء الدولة الفلسطينية العربية الموحدة اللائكية والديمقراطية، التي تتوق إليها، تبدو لي اليوم شيئاً طوباوياً من كل الوجوه. ثم إنني يبدو لي أن هذه الفكرة، التي لم يعترض عليها حاييم وايزمان (في سنوات العشرينيات)، ولا اعترض عليها مارتان بوبر، سيرجئها الفلسطينيون إلى أجل غير منظور. لكن يبقى النقد الذي توجهه إلى النزعات الصوفية المنتشرة في صفوف اليسار الأوروبي لسنوات الستينيات، هو بوقاحته المرحة، صائباً من كل الوجوه. لكن في الوقت الذي صارت فيه الأنتلجنسيا تتحول نحو الكنيسة (الكنائس، أو الخرافة الوثنية الجديدة)، بعد أن كانت، في الماضي، تتحمس لمنظمة القارات الثلاث، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن «العودة المشؤومة لله»، بتعبير لاكان، في سبيلها إلى التحقق، هل من الممكن أن تجد، أو نجد، من يستمع إلينا؟ هل يمكننا أن نتصور لداعي المصلحة العليا أن يقبل بإمكانية أن يقوم حوار غير متوقع لديه، ولربما يكون ممنوعاً كلياً، بين أفراد قد شاع عنهم أنهم أعداء؟ وهذه اللقاءات التي تعرضت للنقد العنيف من القبائل التي لا تعيش إلا على المانوية، وعلى روح الشوفينية، هل بمقدورها أن تلد لنا أملاً؟ لست أدري. بيد أني أظل على اقتناعي بأن المقاصفة التي كان يقوم بها أسلافنا، أمر ممكن، وأنه يمكن للبعض في أكثر من مكان من العالم، أن يتحادثوا، ويتكاتبوا، في منأى عن اللغة الخشبية، وعن الترديد الإديولوجي، وألا يحسوا أنفسهم في هوية متخيلة، أو ينساقوا إلى الثأر وإلى الضغائن. فهل يكون من التفاؤل الأبله أن نعرب عن هذه المنى؟ لكن ينبغي أن يستمر البعض في التشبث بهذا الأمل. واسمح لي أن أتوقف ههنا، لأختم بهذه اللفظة. جاك حسون باريس، 17 مارس 1985 إنك تعلم جيداً، أن في القرآن تعتبر مرحلة الجسد الإسلامي في المقام الأول رقماً، الرقم «خمسة»، الذي يمثل نموذجاً بنيوياً لأخرويته : ثمة أولاً الموت، ثم الحياة، ثم الموت من جديد، ثم البعث، ثم العودة إلى الله. فهي، إذا صح التعبير، عودة من غير عودة، لأن الغيب شيء مجهول، أو هو غير قابل للتمثيل إلا بواسطة النص. وليس من باب الصدفة أن كان الإسماعيليون، على سبيل التمثيل، قد يعتمدون هذا الرقمَ مرحلةً إمامية. فما بين الواحد ومرحلة «الخمسة» يتعرض الجسد لتحولات في عودته إلى الله. وعليه، فإن بالإمكان أن نقرأ القرآن على نحو مختلف عما تفعل القراءة اللاهوتية أو تفعل القراءة الروحانية. فالذي ينبغي أن يهتم له كل شكل من هذه الأشكال التوحيدية الثلاثة هو كيف تخاطبنا الرسالة المقدسة اليوم، سواء أكنا مؤمنين أو غير مؤمنين، بمعزل عن أي تعارض بين الإيمان والإلحاد. أقول هذا الكلام لأنني أعيش في مجتمع ديني، أبوي ولدُني. لقد اضطررتَ أنت إلى الرحيل عن بلدك الأم، إلى هذا البلد الذي منه أكتب إليك. وأما أنا، فلا أزال من الناحية التاريخية منكتباً في مجتمعي، وينبغي لي أن أفهم ما يجري فيه، فلا يمكن لأي كتابة (ما دمت أكتب) أن تبذُل متخيَّلها ما لم تأخذ على عاتقها عمقها الأسطوري. إن الكتابة تدعو إلى نفي داخلي، وإلى إنصات إلى ما هو غائر سحيق لا تعيه الذاكرة، ودعوة إلى تعلم الأساطير المؤسسة. لكن ينبغي أن نفعل لكي نترجمها إلى لغتنا الحالية. إن ما يشغل بالي تناسق الأشكال المتخيلة، لا الدين في حد ذاته. فما هذا البلد، فرنسا؟ وماذا يحدث؟ لاشك أنك لاحظت التحول الذي طال مفهوم «العنصرية». فالنزعة المعادية للسامية، التي صارت إلى خفوت، قد باتت تغطيها العملية المتوحشة أو المنافقة الموجهة ضد أولئك الذين يسمون «مهاجرين»، وتغطيها، كذلك، نزعة صراح في معاداة العالم الثالث، من اليمين أو من اليسار. إن هذا الخطاب هو خطاب قاتل وخطاب مميت للرغاب. فما أن يكون الأجنبي هدفاً للحقد، حتى يكون المجتمع الذي يلفظه مجتمعاً مريضاً بنفسه. فنكون بإزاء «غربوية داخلية» (بتعبير فاليري)، تفصل الكائن عن العنصري، ونكون بإزاء قطيعة عتيقة وبالية بين المرء وذاته، وبين الجسد وروحه، ترتد بالكلام إلى بدايته المتوحشة. إننا ههنا بإزاء بقايا صدمة. إن هذه العودة إلى قومية تتخبط في أزمة هوية ليست، بدون شك، بالأمر المستجد بأي حال. ولا ينبغي أن ننخرط في الشكاة. وإن فرنسا جامعة لمختلف الأجناس، وتعددية، وإنسانية، ومتسامحة، هي تمثيل من ضمن تمثيلات أخرى لما نقول. ولا أظنني أرفع هذه الفرنسا إلى مرتبة المثال أن أقول إنها قد آلت إلى انحطاط. لكن للانحطاط قواه المتجددة. نعم، يا عزيزي حسون، إننا بحاجة، حقاً، إلى الأمل، بمعزل عن أي حنين، وبمعزل عن أي أصول. وينبغي لأسرائيل، كذلك، أن تعترف بالفلسطينيين، وأن يكون هذا الاعتراف متبادلاً. وفي اعتقادي أن ما من البديهي أن هذا الاعتراف سيتحقق من خلال علاقة القوة، التي تسود المنطقة، [تغذيها] طرف القوى المتدخلة. لكني لا أترك لنفسي أن تنخدع بشأن سعار التجاهل، وسعار القتل وسعار الانتحار. وفيما أختم، أنا أيضاً، هذه السلسلة من الرسائل، شمس خجولة ترسل أشعتها من فوق أسطح باريس. شيء من الأمل، نعم، نعم. عبد الكبير الخطيبي انتهى