يسر الله وحطّت الحافلة أرحالها وبيني وبين الموعد الذي سافرت لأجله خمس ساعات من الزمن، جلست هنيهة في مسجد المحطة بعد أن صليت فرضي أناقش نفسي وأحاورها فيما تريد، فتهافتت الخواطر وتباينت وقد كانت عادتي إذا حللت مدينة من المدن ووجدت فسحة من الوقت تراني أهرول أجر أتعاب سفري كما يجرني شوق عبير الكلمات المرابطة في ثغور العلم والإيمان إلى رفوف كل مكتبة فاحت رائحتها ولاحت أنوارها، أتقلّب بين حناياها تقلب الرضيع بين ثديي أمه متصفحا كتبها ومتفحصا أسرارها ومناضرا كتّابها، أفرح بجديدها فرح الثرى العطشان وهو يعانق غيث السماء وكأني دابج كلم سطورها وراعي حمى أفكارها. سرى حفيف هذه العادة الحبيبة خفيفا على قلبي هذه المرة، لا لأنه لم تكن عندي رغبة ذلك، بل كانت حاضرة وبقوة إلا أنه أمر آخر دافعها دفاعا قوي المراس فغلبها، أمر هو نفسه وليد كلِمٍ كنت تجولت بين معانيه على أرض الورق وقررت أن أجول مرتي هذه بين مبانيه على أرض الواقع. لقد زعموا في بعض ما قرأت أن هاتيك المدن الرائجة أخبارها المائجة أحولها تتوارى فيما وراء بناياتها الشامخة أنقاض حياة وحياة أنقاض يسمونها “دور القزدير”، وزعموا أنه إن كان يوم الأولى نهاران فيوم الثانية ليلان، وإن كانت فصول الأولى شتاء وربيع وخريف وصيف ففصول الثانية فناء وصقيع وتخويف وحيف، وزعموا أن الحياة تعطي لتأخذ وتأخذ لتعطي وليس علينا إلا الإيمان بالقضاء والرضا بالقدر، وأن نسلِّم أن خيرات هذه الحياة التي لا بد منها ما جعلت ليسعد بها من سعد إلا ليشقى بها من شقي منح ومحن كمثل قطرات المطر كما أنها على البعض رحمة وغيث فهي على هذه الساكنة مصائب وآلام ترسل دفاقا لتجرف مع أمالهم حوائجهم وأطفالهم، قمت لحينها أهرول قاصدا ما أردت، ولفَرط شساعة خزينة خيالي سبقتني روحي فكانت تجوب بِيَ الدروب والأزقّة قبل أن ألجها وتحاور بيََ فلانا وعلانا من الناس وأنا لا أعرفهما إلا في مُخيِّلتي، ويا ِلأتعابي تجذبني تريد إخماد تَسارُعي وأجذبها لأسب وإياها هذه المحفظة التي أبت أن تلازمني بأثقالها كما أبيت أن لا أتركها والراحة كلانا يريد الراحة وهي لا تريدنا، فما زلت أطوي الطريق ويطويني التعب ثارة أذكر الله وأخرى أذاكر العلم وثارة أسب محفظتي وأخرى تسبني حتى أبصرت الدور ... فما إن لاحت مقعرات الدور حتى أخذت أتريث من هرولتي وأتنفس الهواء وكأني أشربه من عطش مُتقوٍيا به على تعبي وغربتي حتى بلغت سورها المتهالك فسرحت فيها نظري فإذا أنا على فجوة منه بعيون ذابلة ترمُق حركاتي وسكناتي ... شيخ معمر نحيف متقبض طاوي البطن بارز الأضلاع مبعثر اللحية مُتفتر البدن سَحناة وجهه تبدي حيرة في نفسه وسنة في عينه وكأنه لِتوه من النوم قام ولا زال يتكلم من بقايا حلم كان يراه... بادرته بالسلام متبسما فردها عبوسة متشككة...فحملق وأجْحَض وقد تفرست فيه أنه حسبني من رجال السلطة يريده وجميع أهل الدور برسالة...عاودته السلام والسؤال عن الأهل وتداول الأيام فأجاب يحمد الله ويشكر اختياره أن جعله من المساكين الذين يحشرهم الله داخلين إلى الجنة بخمس مائة عام قبل الأغنياء...فعجبت لحال مستضعفينا كيف يجعلون لكل مآسيهم خبرا يُخَوِل لهم راحة جلوسهم دون نضالهم وينسون أخبارا وآثارا كخبر العابد الزاهد الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه الذي قال لإن لم أجد قوت يومي لخرجت شاهرا سيفي... فأقمت العذر وفهمت حال ضحايا سنوات من التجهيل والتدجين وجودة من الطراز العالي في تكريس الاستبداد وقابلية الاستبداد في النفوس... ومن نكد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يخلق بفضائله إلا ليعاقب على فضائله، فغلضة الناس عقاب لرأفته وغدرهم نكاية لوفائه وخذلانهم جزاء ثقته...فاستأذنته في ولوج دروب هذه الدور بعد ما بينت له هدفي الإعلامي في دعمهم بالقلم وهو من أضعف الإيمان... تنفست الصعداء وأنا ألج دورا أو قبورا للأحياء وكأنها متاهة جعلت لعبة للأشقياء لا يدخلها من يدخلها إلا ليعكر أجواء قلبه بدل تمليحها...فما زال الأسى يضني كبدي حتى ضاق صدري ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء...إن يوما من أيام هذه الدور لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربع وعشرين صبرا...فوقفت هنيهة أتدبر حال أطفال يلعبون ويتهوشون ويتعابثون ويتشاحنون وهم شتى أبيض وأسود وألوان أخرى لا عهد لي بها لَوَنَها التراب ورَسَمَها الفقر والحرمان..ورأيت كيف أنهم كأبناء البيت الواحد إذ أنهم لا ينتسبون في اللهو إلا إلى الطفولة وحدها هي عزاءهم الذي يواسيهم وينسيهم هموم الحياة التي تنتظرهم...وتمعنت فيهم فكأني بخليطهم الملتبس واجتماعهم المتكدس كالصيد في شبكة الأغنياء يقتاتون على حساب فقرهم...ويشعرك منظرهم البائس أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء ولكنهم كانوا وساوس آباء وأمهات...فعجبت للعبهم وصراخهم وهم يضجون كأنما اتسعت لهم الحياة والدنيا فانقلبت عندهم الدور الصغيرة قصورا وملاعبهم الضيقة مروجا لأنها في سعة النفس لا في مساحتها، بيد أني جعلت أتلقف مطارح نظرهم بين الفينة والأخرى إلى نوافذ العمارات المطلة عليهم وأطفالها المسجونين ورائها...فكأني بأحدهم يخاطب خلانه يقول أنظروا هاتيك النوافذ المطلة من العمارات..أولائك الأطفال سكانها..يرى عليهم أثر الغنى، وتعرف فيهم روح النعمة، وقد شبعو...إنهم يلبسون لحما على عظامهم أما نحن فنلبس جلدا كجلد الحداء..هم أطفال ونحن حطب إنساني يابس..يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت إلى أن نموت، لهم عيش وموت ولنا الموت متكررا. ورأيت عند جانب أحد البيوت المتهتكة طفلين صغيرين يتصدع القلب من حال ثيابهم ووجوههم البريئة وهم نائمين على فرش ممزعة وتغطيهم خرقة مرقعة ويد أكبرهم آخذة برأس الصغير وكأنه يريد ملأ فراغ أبويه مسكننا روع أخيه ومطمئنا قلبه، وقفت أتدبر حال الطفلين وأنا مستيقن أن حولهما ملائكة تصعد وملائكة تنزل وقلت هذا موضع من مواضع الرحمة، فإن الله مع المنكسرة قلوبهم ولعلي أن أتعرض لنفحة من نفحاتها ولعل ملكا كريما يقول: وهذا بائس آخر...فما زلت أتدبر حال الطفلين حتى جاء من يتفقد حالهما في غريبة من غرائب الزمان... لا أعرف من تكون!!! أمهما أو ربما أختهما لكنها على كل حال متفقدتهما... أخرجتني من عالم ملائكي إلى آخر لا أعرف كيف أسميه...امرأة في تبرج وتهتك، يعبث بها العبث نفسه، وقد تحققت بفنون هذا التأنث الأوربي القائم على فلسفة الغريزة وما يسمونه الأدب المكشوف كما يصوره الكتاب الذين نقلوا إلى الإنسانية فلسفة الشهوات الحرة عن البهائم الحرة...فتعجبت مرتين الأولى عن التناقض العجيب بين حالها وصورتها وحال وصورة من تتفقد، والثاني في نوع تفقدها.. لعمري فكأني بقلبها يعتصر ألما وعينيها تسيل عاطفة عاجزة... فتوالت علي الهواجس في الأمر الذي جعلها تزهى بثيابها وصنعة جمالها هاربة من فضائلها لتصير حمقاء طياشة متساقطة ذات ريبة...فما زلت على هذه الحال حتى رأيتها مسحت وجه أحدهم وقبلت خد الآخر... فأَخَذَتْ كلما ابْتَعَدَتْ عنهم قليلا عادت إليهم ورمتهم بنظرات لا أشك أنها نظرات أم مكلومة، فرمقتني وأنا أتتبع شأنها فأطرقت حياءا وتركتهم وأحد الشباب يتشوف إليها بلهف عند رأس الدور خلته في البداية فتاة مترجلة واكتشفت أنه رجل متبنت حتى أنه في شكله وأناقته بحيث لم يبق إلا أن تلحقه تاء التأنيث...فعجبت لغرائب هذا الزمان وفتنه المظلمة...وتعجبت أكثر لحال نساء يبرزن حين يخرجن من بيوتهن لا إلى الطريق ولكن إلى نظرات الرجال وأهوائهم...فلمت نفسي على سوء ظني ولومي للضحية دون جلادها...ضحية كهذه المرأة التي سلبت حقها في العيش الكريم وخرجت خادعة نفسها وقد خدعها المجتمع لما سُلِب كرامته واختارا أن يكون دَيُوثِيا يقبل أن تغذي نسائه أبناءهن بمردودات لحومهن ... فما زلت أتفقد الحال وأتكلم مع أحد الفتيان وقد بادرني السؤال عن مطلوبي في حصنهم المتفاني حتى نادت إحدى الأمهات أطفالها إلى وجبة الشاي فرأيت كيف ذهبوا مسرعين إلى ضغضغة بطون ضامرة وكلهم سعادة وفرح بوجبة قد تكون وحيدة يومهم...فتدبرت الأمر وخلصت إلى الفرق بينهم وآبائهم وبين الأغنياء وأبنائهم..أغلب الأغنياء المترفين يجدون مرغوبات الحياة ولا ينعمون بطعم روحها، وهؤلاء البؤساء تضع لهم لهفة الحرمان لذة الكسب في الكسب الحلال، وسعار الجوع هو الذي يجعل لهم في الطعام من المادة طعاما آخرا من الروح...وامصيبتاه على أم في الأمهات لم تجد سبيلا إلى إطعام أبنائها إلى من عمل بخس بثمن بخس في عصر قسمة ثرواته ضيزى وكرامة مجتمعه في غفلة عن كرامة وشرف نسائه... وأنتم أيها الفقراء، حسبكم البطولة، فليس غنى بطل الحرب في المال والنعيم، ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه...