تتراقص في ذهني مواضيع متعددة, ولا استطيع كتابتها جملة واحدة, فلا اريد ان ينفر القارئ الكريم من خواطري, لذلك فكرت ان اتحفكم كل مرة بهاجس من هواجسي وانشغالاتي التي لا اجد مع من اتقاسمها او اناقشها, الا ذلك الصديق الفلسطيني الوحيد بسام الذي ما ان اوشك ان ينهي موضوعا الا وفتح علي بابا جديدا وتساؤلات جديدة تنضاف الى ملفي باحثا لها عن حل. الا انني في الحقيقة لم اجد لها لحد الساعة حلا . هذه المرة سوف نتحدث عن عقلية الدجاج..... نعم اصبحنا كالدجاج دون ان ندري. في زمن الفضائيات والانترنت والافلام التي حملتها العولمة الينا في تيارها الجارف. كل هذا جعل منا افرادا لا تقرأ واذا قرأت لا تفهم. كيف حدث هذا؟ ولماذا تراجعت نسبة القراءة؟ لماذا مات زمن الكتاب الذي كان يرافقنا, وحل محله التلفون الجوال؟ احس بحزن شديد والم دفين وانا اشاهد ما الت اليه الاوضاع والحالة الثقافية وواقع المؤسسة التربوية ببلادنا. حينما تعود بي الذكريات الى عهد المرحلة الاعدادية واتذكر كيف كنا نتسابق الى قول الشعر وتاليفه, والى كتابة القصة القصيرة.....لا زلت اتذكر ذلك اليوم, حينما ذهبت انا واصدقائي الى مدير المؤسسة وطالبناه بانشاء ما يشبه الراديو. وبالفعل لبى لنا طلبنا واستطعنا ان نتقاسم الادوار, كل مرة كان يتولى واحد منا الاشراف على البرامج, والتي كانت في معظمها عبارة عن حكم او اقوال او التعريف بمشاهير المفكرين.... وكنا نبثها في وقت الاستراحة. فكان التلميذ يجلس في الساحة وفي نفس الوقت يستمع لما نبثه عبر البوق. وما ان مرت اسابيع على هذا الانجاز حتى انضم الينا اساتذة المؤسسة ليشاركوننا في تقديم مواضيعهم. في التسعينات كنا دائما نرى في المقاهي والشوارع جماعات من التلاميذ يحلون واجباتهم في زمن لم تكن فيه لا مكتبات عمومية, ولا دور للثقافة ولا انترنت....فكان علينا ان نعتمد على ما تزخر به ذاكرتنا. لم يكن هناك حل اخر. فالمنطقة لم تكن مهمشة فقط اقتصاديا, بل بالدرجة الاولى ثقافيا, حتى يعم الجهل المركب او كما قال محمد اركون نقلا عن مفكر فرنسي ,,الجهل المقدس,,. الا ان هذا الواقع المر لم يمنعنا من المثابرة والاجتهاد, وكم كان التنافس شديدا بيننا ونحن نسال بعضنا البعض عن العلامات التي حصلنا عليها, ومن حصل على اكبر معدل في حينا.... قبل بضعة سنوات زرت المغرب, وكنت اعتقد ان اصدقائي سوف يسالونني عن موضوع الاطروحة التي احضرها, واذا باحدهم يفاجئني باول سؤال قائلا ما نوع السيارة التي اتيت بها؟ صمت قليلا, لان وقع سؤاله كان علي شديدا, واجبته: انني جئت على متن الدابة. كنت اعتقد ان الواقع عندنا في بلادنا قد تغير ايجابا,فالانترنت مليئة بالصحف العلمية التابعة للجامعات والمؤسسات, ناهيك عن البرامج الثقافية. كما اصبح في مقدور الشخص ان يقرا الجرائد في المقاهي, كما شاهدت, بالمجان. كل هذا لم اعايشه في زمني.... وبقي ألم سؤال الصديق في قلبي, لينضاف اليه وجع جديد. وانا جالس في مقهى انترنت احد اصدقائي, بادرني تلميذ يدرس في الاعدادية بسؤال قائلا: هل تستطيع اخي ان تساعدني في كتابة موضوع انشائي؟ احسست بالفرح والغبطة يغمران قلبي, واعتقدت ان الدنيا لا تزال بخير. فقلت له بكل تاكيد. الا ان هذا السرور لم يدم طويلا, حين شرح لي انه ينتظر مني ان اطبع له البحث من غوغل google. بدات ابحث في المدينة عن الذين درسوا معنا, فلم اجد الا واحدا بالصدفة, حين دخلت الى دكانه لاشتري بعض الاغراض. فعلمت منه انه صار ابا, وانهى دراسته الجامعية في الشريعة. فخرجت من دكانه احمل هما جديدا وجرحا انضاف الى جراحي السابقة, لما اسفر عنه النقاش, ويا ليتني لم اناقشه. وانا في الطريق الى البيت بدات اتسائل واتسائل عن هذا الواقع الجديد الغريب علي وكانني لم اكبر في هذه القرية؟ لماذا لم نعد نقرا؟ لماذا جعلنا من الانترنت مشروعا تجاريا عوض ان يكون ثقافيا؟ لماذا نبحث عما هو جاهز دون ان نكلف انفسنا ادنى مجهود؟ هل هذا هو الواقع الذي تحدث عنه توفيق الحكيم في خمسينيات القرن الماضي؟ لماذا اصبحنا كالدجاج لا يفكر الا في الحب الموجود بين رجليه ولا ينظر الى الامام لعله يوجد حب اكثر؟ لماذا لم يدرس اولئك الذين اتيحت لهم الفرصة في الذهاب الى اوربا؟ بل الاغرب من هذا كله ان اصدقائي كانوا كل مرة يفاجئونني بان صديقا لنا سافر الى المغرب بسيارة مرسيدس, فقط بعد سنة من اقامته في اوربا. وكانهم كانوا يريدون ان يقولوا لي بطريقة غير مباشرة اليس من العيب والعار عليك انك لم تشتر سيارة لحد الساعة, وانت مقيم في اوربا لمدة تنيف عن عشر سنوات؟ اهكذا اصبحت عقلية الانسان تشبه عقلية الدجاج لا يفكر الا فيما يوجد بين رجليه. نعم كثيرون يعتقدون ان السيارة رمز الغنى والثراء, وبالسيارة يستطيع الانسان ان يلبي طلبات"البتاع". نعم هذا اللي جابو البتاع, جاب الخراب.... كما سماه احمد فؤاد نجم . انه تفكير محصور, ساذج, انهزامي....تفكير سطحي لا ينظر الا الى الشكل. وكم من مالك للدنيا وما فيها, تركها دون ان يذكره التاريخ يوما, ولكن كم من واحد منا يعرف قصة ذلك الشخص الذي كان يبيع السمك ليشتري كتابا, وكان له شرف الوفاة ان وقعت مكتبته عليه. فمات تحت كتبه. رحم الله الجاحظ. احس بالإرهاق والألم, وانا اتذكر ما حدث وكل ما اتمناه هو ان تعود ثقافة الكتاب, وان نحسن التعامل مع الانترنت ...لا اقوى على الاستمرار الان , انه الليل المتأخر الذي ارخى سدوله, فتعالت الاناشيد من افواه جميع المغرمين, وما روحي الا نشيد من هذه الاناشيد. ان في داخلي قرة ثائرة تريد اطلاق صوتها, وهي شوق الى الحب بيانه بين المغرمين. انا نور ليتني كنت ظلاما, وما قضي علي بالعزلة والانفراد, الا لانني تلفعت بالانوار. ولو انني كنت ظلاما لكان لي ان ارسل بركتي اليك ايتها النجوم المتالقة كصغيرات الحباحب في السماء فاتمتع بما تذرين علي من شعاع. غير انني احيا بانواري فاتشرب اللهب المندلع من ذاتي..... هكذا تكلم زرادشت...وهكذا تكلمت اليكم. وتصبحون على الف خير ....