بإعلان وزير المالية و الخوصصة عن العناصر الكبرى لمشروع قانون المالية لسنة 2004 تجدد النقاش السياسي والاقتصادي عن السياسة الحكومية إزاء التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة، فضلا عن مسائلة حصيلة السنة المالية الجارية ومدى صدق التوقعات والتوجهات التي أعلن عنها في بدايتها، كما اعتبر المشروع كاشفا لمستوى قوة الائتلاف الحكومي وقدرته على رفعه التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أبانت عن حدتها تفجيرات 16ماي، وما تلاها من تطورات كشفت اختلالات الوضع الأمني والاجتماعي بالبلاد، بالإضافة إلى ازدياد درجة الاستحقاقات الاقتصادية الخارجية والمرتبطة أساسا بتبعات المفاوضات التي تهم اتفاقية التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية أو مع الاتحاد الأوروبي. وقد سجل على التصريح الذي اكتسى طابع تصريح حكومي إغراقه في الشعارات والوعود دون الارتباط بمعطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي. أي جديد في توجهات المشروع حملت سلسلة الوثائق المرتبطة بمشروع القانون المالي 2004 معالم السياسية الاقتصادية والاجتماعية للدولة في السنة المقبلة، وقد جرى تسويق المشروع بناءا على أن من مميزات السنة المالية لسنة 2003 إنجاز معدل نمو للناتج الداخلي الإجمالي ب 5ر5 في المائة بعد أن كانت افتراضات القانون المالي ل2003 قد حددت نسبة 4,5 في المائة، والتحكم في نسبة التضخم في حدود واحد في المائة، وتوسع حجم الموجدات الخارجية من العملة الصعبة إلى مستوى 122 مليار درهم بما يناهز 10 أشهر لتغطية الواردات، ونجاح عملية خوصصة شركة التبغ التي حققت ما يزيد عن 14مليار درهم، فضلا عن التمكن من اقتراض 400 مليون أورو من السوق المالية الدولية وهي مؤشرات حرص الفاعل الحكومي على تقديمها باعتبارها دليلا على الثقة في الاقتصاد المغربي، وضعف التأثر بالتداعيات الاقتصادية لحرب العراق وتفجيرات 16ماي، واستشراف سنة مالية واعدة. وهو ما ظهر جليا في الخطاب الحكومي المبشر بتوجهات مغرية من قبيل تعزيز مجهود الدولة في مجال الاستثمار من خلال الميزانية العامة للدولة والجماعات المحلية وصندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بالقيام بأشغال كبرى ومشاريع مهيكلة كمركب ميناء طنجة والمدار المتوسطي والطرق السيارة وتفعيل قيم التضامن واعتماد مقاربة القرب من خلال نهج سياسة اجتماعية ترمي إلى تقوية تماسك المجتمع المغربي عبر توسيع استفادة الفئات المعوزة من الخدمات والتجهيزات الأساسية وإعطاء الأولوية لقطاع السكن الاجتماعي وتكثيف الإصلاحات الهيكلية في عدد من القطاعات الحيوية والمهيكلة كالإدارة والصحة والتربية والعدل والماء، والتركيز على ثمانية قطاعات وإعطائها الأولوية في المجهود الاقتصادي والاستثماري للدولة ممثلة في الرفع من أداء ونجاعة نظام التربية والتكوين، وتعميق مسلسل إصلاح القضاء وإصلاح الإدارة وتحديث التدبير العمومي وتطوير الأداء العام للقطاع المالي والمصرفي وإصلاح قطاع النقل وتوسيع مجالات الانفتاح الاقتصادي ثم ختاما إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإصلاح تدبير الشأن الديني. توجهات في ظل سقف ماكرو اقتصادي مقيد الخلاصة الأولية عند دراسة معطيات المشروع الخاص بسنة 2004 ترتبط بالجانب الرقمي، حيث بقي مشروع القانون المالي مرتهنا للتوازنات الماكرو-اقتصادية ذات العلاقة بمعدلي العجز و التضخم، فضلا عن نسبة متوسطة لنمو الناتج الداخلي الخام، وهو ما جعل التوجهات والاختيارات السابقة اندرجت في إطار ماكرو اقتصادي مقيد بإكراهات معقدة واستحقاقات ضاغطة، حيث انبنى تحضير المشروع على أساس فرضيات كبرى تتمثل في معدل نمو للناتج الداخلي الخام لا يتجاوز 3 في المائة في السنة المقبلة، أي بتراجع عن معدل النمو الذي سجل في سنة 2003 والذي أعلن الوزير عن بلوغه نسبة 5,5 في المائة، والبقاء في نفس معدل عجز الخزينة بالنسبة للناتج الداخلي الخام والذي حدده الوزير في 3 في المائة، فضلا عن معدل التضخم والذي يعبر عنه بالرقم الاستدلالي لتكلفة المعيشة حيث حدد في 2 في المائة، وفي نفس الإطار تمت ملاحظة ثلاث مؤشرات تهم الميزانية العامة للدولة والتي تكتسي دلالة سياسية واقتصادية وازنة: فمن جهة أولى هناك استمرار نفس العبء الذي تمثله خدمة الدين العمومي على الميزانية العامة للدولة، حيث خصص المشروع ما قيمته 41,63 مليار درهم بتراجع جد كطفيفي عن السنة المالية 2003 والتي خصص فيها ما قيمته 41,759 مليار درهم، مما يعنى أن الجهد الذي بذل في تدبير المديونية العمومية الخارجية وأدى لتقليصها إلى حدود 12مليار دولار، كان على حساب ارتفاع المديونية الداخلية وذلك في ظل معدل مرتفع للمديونية المباشرة للخزينة والذي بلغ في سنة 2002 أزيد من 71 في المائة من الناتج الداخلي الخام، والمعطيات المعلنة من طرف المركز المغربي للظرفية والتي همت حصيلة السنة الاقتصادية ل2002 تكشف عن أن حجم المديونية العامة للدولة بلغ أزيد من 344 مليار درهم ضمنها 179,4 مليار درهم للدين الخارجي، و196,6 مليار درهم للدين الداخلي وذلك في سنة ,2002 وهذا الارتفاع في الدين الداخلي أخذ ينعكس على الميزانية العامة للدولة، حيث أن خدمة الدين الداخلي تستهلك حوالي ثلاثة أرباع من الميزانية المخصصة لخدمة الدين العمومي أي ما قيمته 30,18مليار درهم بزيادة نسبتها 16,78 في المائة بالمقارنة مع سنة ,2003 وهذا مؤشر دال على نتائج السياسة الاقتصادية التي عرفها المغرب في السنوات الماضية عبر تكثيف حركة الاستدانة من السوق الداخلية مما انعكس في حينه على وتيرة الاستثمار الداخلي ثم انعكس لاحقا على الميزانية العامة للدولة كما يتبين من معطيات مشروع القانون المالي لسنة ,2004 ونذكر في هذا الصدد أن المركز المغربي للظرفية سبق له أن طرح تساؤلات جوهرة تهم تدبير الدولة لملف المديونية ومنها أن جهود الاقتراض من السوق المالية الدولية توجه لتسديد تكاليف المديونية الخارجية عوض توجيهها نحو الاستثمار مما اعتبر من طرف المركز ترجيحا لمصالح الدائنين على مصالح واحتياجات السكان. - المؤشر المالي الثاني يرتبط بتراجع العائدات الجمركية حيث ستسجل السنة المالية المقبلة تراجعا في المداخيل بنسبة 14,45 في المائة لتكون الحصيلة 10,89 مليار درهم، ويرتبط ذلك ب الاستعدادات الخاصة بتطبيق استحقاقات مفاوضات اتفاقيات التجارة الحرة التي يباشرها المغرب سواء مع الولاياتالمتحدة أو مع الاتحاد الأوروبي هذا الأخير الذي ستكون سنة 2012 سنة التحرير الجمركي الكامل، مع الإشارة إلى توقيع الاتحاد الأوروبي والمغرب مؤخرا علي البروتوكول الزراعي والذي يقضي باستقبال الأسواق الأوروبية، تدريجيا الي غاية ,2007 ما يناهز 220 ألف طن من الطماطم المغربية، وفي المقابل يستقبل المغرب مليون وستين ألف طن من الحبوب برسوم جمركية مخفضة الي 38%، أما بخصوص المفاوضات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية فقد انتهت الجولة الخامسة من المفاوضات مؤخرا ويجرى الاستعداد لمواصلتها في منتصف شهر نونبر وذلك على مستوى 12 لجنة قطاعية ابتداء من في إطار الجولة السادسة، وذلك في ظل عزم أمريكي على التوقيع على هذا الاتفاق في نهاية السنة الحالية. . - كما طرح المشروع الحالي أفق سياسة الخوصصة، ذلك أن المغرب أصبح مرتهنا بشكل متصاعد لمدخيل الخوصصة لضمان تغطية نفقات التسيير والتي بلغ العجز فيها أزيد من 17مليار درهم في السنة المالية الجارية، وأدت عملية بيع 80 في المئة من رأسمال شركة التبغ لمجموعة التاديس الفرنسية الاسبانية مقابل 14,1 مليار درهم من تغطية نسبة كبيرة من العجز خاصة وأن المداخيل المتوقعة من الخوصصة في القانون المالي لسنة 2003 تجاوزت مجموع عمليات الخوصخصة المبرمجة قي سنة 2003 والمقدرة بمبلغ 12 مليار درهم، إلا أن السنة المالية المقبلة ستعرف بدايات مواجهة العجز الحقيقي للميزانية بعد نفاذ موارد الخوصصة، فمشروع الميزانية يطرح تراجعا في موارد الخوصصة بنسبة 4 في المائة وذلك بافتراض تحصيل ما قيمته 12,01 مليار درهم، مع وجود مراهنة على خوصصة 16 في المائة من أسهم شركة اتصالات المغرب، وهي عملية كانت مطروحة منذ القانون المالي لسنة 2002 وتأجلت ل2003 ثم تتأجل حاليا ل.2004 إمكانات مالية محدودة فضلا عن المؤشرات السلبية الثلاث الآنفة، فإن الشعارات والطموحات الكبرى الواردة في القانون لا تتوازى مع الإمكانات المالية المرصودة، ولعل من أبرز النماذج على ذلك عدد مناصب الشغل المخصصة في مشروع القانون المالي 2004 والتي حددها في أقل من 7000 منصب أغلبها في قطاعات الأمن والتعليم، وهو ما لا يتجاوز حتى حجم المتقاعدين في الوظيفة العمومية، مما يجعل المجهود الحقيقي للدولة في هذا المجال يتقلص إلى الصفر، وهو نفس التوجه الذي حكم القانون المالي لسنة ,2003 حيث لم يتجاوز عدد المناصب المخصصة فيه 6955 منصب، في الوقت الذي بلغ فيه هذا العدد في سنة 2002 ما مجموعه 10845 منصب، في الوقت الذي بلغ فيه معدل البطالة في المجال الحضري ما نسبته 18,3 عموما ونسبة 25,6 في المائة بالنسبة لحاملي الشهادات في المدن، بل إن التقرير الاقتصادي والمالي المقدم ضمن وثائق مشروع القانون المالي سجل عددا من المؤشرات السلبية في الحصيلة الاقتصادية لسنة 2002 وأهمها وجود تباطؤ في نشاط القطاع الصناعي وشبه جمود لنشاط قطاع البناء والأشغال العمومية وأداء سيئ لمؤشرات البورصة، ومما يثار في هذا الجانب هو السياسة المتبعة في مجال التقاعد المبكر حيث أن الإجراءات التحفيزية لا تنسجم مع الشعارات المرفوعة، هذا بالرغم من أن الإجراءات الحالية حصل التأخير في اعتمادها. والحاصل أن عددا من المقتضيات المالية والضريبية كانت مستجيبة أكثر لحسابات رجال الأعمال، حيث ظهرت فيه نتائج الاجتماع الذي سبق وأن عقده الوزير الأول في نهاية شتنبر الماضي مع مكتب الاتحاد العام لمقاولات المغرب وممثلي الجمعيات المهنية، والذي خصص للتباحث والتشاور حول مشروع القانون المالي لسنة ,2004 والمثير أن الخطاب الذي ساد أثناء اللقاء لم يكن بنفس النفس التبشيري حيث طغى الحديث عن الإكراهات الاقتصادية والظرفية الدولية الصعبة، وما اقتضته السياسة المتبعة بعد تفجيرات 16ماي من أولوية لتدارك بعض النواقص الأمنية وتخصيص إمكانيات هامة لتطوير التجهيزات وتحسين وضع العاملين بهذا القطاع إضافة إلى برنامج لاسترداد المساجد حيث تؤدى أجور أزيد من 120 ألف إمام من طرف المواطنين. كما تطرق للالتزامات المترتبة عن الحوار الاجتماعي كذلك ليخلص إلى أن هامش المناورة يظل ضيقا جدا، وكان من اقتراحات حسن الشامي رئيس الاتحاد العام للمقاولات المغرب رفع الأجر الذي تطبق عليه أعلى نسبة من الضريبة العامة على الدخل من 6000 درهم إلى 10 آلاف درهم لدعم القدرة الشرائية، وإلى جانب فإن المعطيات التي تهم وضعية العجز التجاري الاجمالي للبلاد تكشف عن تفاقمه بنسبة 19,1 في المئة خلال النصف الاول من السنة الجارية بعدما كان قد تقلص بنسبة 15,3 في المئة خلال نفس الفترة من السنة الماضية. 16 ماي والقانون المالي حرص الخطاب الحكومي على الربط بين إجراءات القانون المالي ومواجهة تداعيات 16ماين وهو ما برز أثناء عرضه لعدد من المقتضيات التي تهم قطاعات التعليم والسكن والأوقاف والشؤون الإسلامية، مبشرا بارتفاع في النفقات المخصصة وبوضوح في الأولويات المطروحة، إلا أن هذا الارتفاع لم يرق إلى المستويات المطلوبة فمثلا بقيت النفقات الخاصة بالموظفين في قطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية في نفس المستوى تقريبا( انتقلت من 38,287 مليون درهم في سنة 2003 إلى 38,536 مليون درهم في سنة ,2004 وكذلك نفقات الاستثمار التي بيت في نفس المستوى أي 6,032 مليون درهم) أما الارتفاع الذي سجل فارتبط بالنفقات الخاصة بالمعدات والنفقات المختلفة التي انتقلت من 85,614 مليون درهم إلى 235,831 مليون درهم في 2004 مع الإشارة إلى أن السنة المالية 2003 عرفت ميزانية خاصة بالأوقاف ضمت ما قيمته 312,281 مليون درهم في ميزانية التسيير الخاصة، و125,260مليون درهم في ميزانية الاستثمار الخاصة). أما فيما يخص قطاع السكن الاجتماعي فإن المقاربة المقدمة من طرف الوزير لا تستجيب للحاجيات المطروحة، بفعل إصرارها على فرض الطريقة الربوية القائمة على الاقتراض البنكي بالفائدة، مما يحول دون تمكن شرائح واسعة من الاستفادة من برامج السكن الاجتماعين وهو ما يفرض اعتماد مقاربة جديدة تشجع عموم المغاربة وترتكز على جعل مساهمة الدولة تغطى الفوائد وترفع الحرج الشرعي، ونفس الملاحظة تطرحا مسألة التوسع في اعتماد رأسمال المخاطرة حيث أن هذا المنطق يفرض اتخاذ قرار شجاع في النظام البنكي يتيح إدراج التمويلات غير الربوية ومعالجة هذا التصادم الحاد بين النظام البنكي والهوية الإسلامية للدولة. ويرتبط بذلك الجهد الاستثماري المباشر للدولة والذي سجل هو الآخر تراجعا بنسبة 1,80 في المائة، حيث أن ما خصص للاستثمار في الميزانية العامة للدولة لم يتجاوز 19,2 مليار درهم، مع التذكير بأن الصندوق الخاص بتأهيل المقاولة كان قد برمج في إطار القانون المالي لسنة 2003 بغلاف مالي قدره 400 مليون درهم ولم ينجز وتم تحويله إلى سنة 2004 مع العم بأنه مشروع مشترك مع الاتحاد الأوروبي على مستوى التمويل الخاص به. خلاصة برغم الخطاب الدعائي والتبشيري الذي واكب عرض مشروع القانون المالي فإن الخلاصة المسجلة هي المفارقة القائمة بين الشعارات المرفوعة والإمكانات المالية المرصودة، هذا دون إثارة التساؤل حول صدقية الأرقام المقدمة من طرف الجهات المختصة عن الوضعية الاقتصادية الراهنة، والتي تتصاعد فيها مؤشرات التوتر الاقتصادي. مصطفى الخلفي