ثقافة المصالحة ثقافة متأصلة في ديننا وشريعتنا وحضارتنا، بدءا بالعلاقات بين الأفراد حيث اعتبر الإسلام إصلاح ذات البين من أعظم الأعمال التي يمكن أن يتقرب بها العبد إلى ربه، كما ورد في حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى: قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين< رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح. وفي المجال الأسري حث الاسلام على المصالحة بين الزوجين ودعا إلى إنشاء مؤسسة أهلية للقيام بهذا النوع من التحكيم فقال تعالى: (وإذا خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا). كما دعا إلى إنشاء مبادرات ومؤسسات للتحكيم في حالة وقوع الشقاق السياسي الذي قد يصل إلى حد النزاع المسلح أحيانا فقال تعالى: (وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين). والملاحظ من خلال هذه الآية أن ثقافة الصلح والمصالحة ثقافة شاملة لجميع مجالات حياة المجتمع الإسلامي، كما أنها لا تستثني حتى الفئة الباغية التي فاءت إلى الصواب ورجعت إلى الجماعة، والفئة الباغية في المصطلح الشرعي هي الفئة التي تخرج على نظام الجماعة وعلى الإجماع والإمامة الشرعية، ليس فقط بالموقف السياسي بل بالعنف والسيف أحيانا، لكن ذلك لا يمنع كما يبدو ذلك واضحا من خلال الآية القرآنية من أن تشملها محاولة الإصلاح والمصالحة التي ينبغي أن تقوم على أساس العدل والقسط ولقد ضرب سيدنا على بن أبي طالب مثلا رائعا في ذلك، إذ أنه على الرغم من خروج الخوارج على نظام الجماعة واستحلال دماء المسلمين ظل يسعى في محاورتهم وإقناعهم بالعدول عن الفهم الأعوج للدين، وباذلا كل الجهد من أجل ردهم لنظام الجماعة، وكان إذا سئل أكفارهم يقول: من الكفر هربوا، أمنافقون هم كان يقول: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا، فسأل السائل: فماذا تقول فيهم: قال إخوان لنا بغوا علينا. وإذا كان الإسلام يشمل الطائفة الباغية بثقافة الصلح ويتعامل معها من خلال ثقافة المصالحة، خاصة وأن الباغي هو في الغالب متأول وأن المشكلة عنده في الجوهر مسألة فهم وليست مسألة سوء نية أو خيانة مبيتة للدين أو الوطن، بل إنه يعتبر نفسه مصلحا مجاهدا ثائرا على المنكرات والمفاسد، فإن ماهو أعظم من ذلك أن الإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم أعظم نموذج للمصالحة التاريخية وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من موقع القدرة على أهل مكة الذين كانوا قد آذوه وأخرجوه وهموا بقتله، وكان قد أهدر دماء كثير منهم حقا وعدلا وليس اعتداء وظلما فلما أن قدر عليهم سألهم: ما تظنون إني فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء<. غير أن ثقافة المصالحة وجب أن تتأسس على الإنصاف، وحين نتكلم هنا عن الإنصاف فإننا لا نحصره في جبر الأضرار أو في التعويض أو الاعتراف بالمسؤولية المعنوية بالممارسات وانتهاكات تتعلق بحقوق الآخرين سواء تعلق الأمر بحقوق الجماعة أو حقوق الأفراد، فذلك ليس سوى التعبير المادي والعملي الذي قد تختار كل تجربة ما تراه مناسبا لواقعها من الإجراءات والتدابير، ولكننا نتكلم عن الانصاف كثقافة وردت الإشارة إليها في قوله تعالى: (يا أ يها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين). ولذلك فبقدر ما ينبغي التأكيد على أهمية جلسات الاستماع التي تعقدها هيئة الإنصاف والمصالحة هذه الأيام، من حيث إنها تعبير رمزي عن تقبل الدولة لتحمل المسؤولية المعنوية عن تجاوزات قام بها أشخاص تصرفوا من موقع المسؤولية فيها وباسمها، فينبغي التأكيد على أن الإنصاف كشرط للمصالحة لا ينبغي تناوله فقط من الزاوية الحقوقية فقط، بل من الزاوية الثقافية أيضا. فالإنصاف ليس حقا فقط بل هو واجب أيضا، وكم كان جميلا أن نجد تجليات لهذه الثقافة عند بعض الذين تحدثوا في جلسات الاستماع حيث أكدوا أنهم لا يبرئون أنفسهم وأنهم هم الآخرين لم يكونوا ديموقراطيين، وأنه كان بالامكان لو تسلطوا أن يكونوا في موقع الجلادين ويقوموا بنفس الدور. المصالحة ينبغي أن تتحول إلى ثقافة مبنية على الإنصاف، ووجب أن تكون شاملة، وأن تتهيأ الشروط الدائمة لاستمرار السلم المدني والقطع النهائي مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ومن هذه الشروط الإقلاع عن كل التجاوزات، ومنها أيضا إعادة المحاكمات التي ثبت أنه قد وقعت فيها تجاوزات ولم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة. ومن شروطها أيضا محاورة بعض أصحاب الأفكار والتوجهات الغالية، حوارا قائما على ثقافة الإنصاف والمصالحة، بحيث نعمل على تجفيف منابع الغلو والقضاء على أسبابه ودواعيه ونحرص على إرجاع أهله إلى الجماعة... (والصلح خير). محمد يتيم