تخلد المنظمات النقابية ومعها أغلب أعضائها وحتى غير المنضوين في إطارات نقابية ذكرى فاتح ماي، والذي يسمى عادة العيد العالمي للعمال، أو كما يترجم عندنا بعيد الشغل ولأهل الترجمة أن يبينوا مدى دقتها! غير أن الملاحظ أن هذا اليوم، والأيام الأخرى المشابهة له كلها بالتقويم الميلادي، وليس فيها يوم عالمي بالتقويم الهجري، وذلك أننا وجدنا القوم يحتفلون وتابعناهم في احتفالاتهم. لكننا لم نلزمهم بشيء مما عندنا ولا هم تابعونا! كما لم نتعامل مع هذه المناسبات بمنطق "لأصومن التاسع والعاشر" في صيام عاشوراء. وذلك بإعطائها ما يشعر المسلم بالتميز بل تابعنا القوم أحيانا في المضمون والشكل! الرسول عليه السلام محررالعمال الفقراء والملاحظ أن كل ما يصدر لنا منهم يصبغ بالصبغة العالمية ولا يروقنا ذلك، لكننا عمليا نكرسه في المفاهيم والمصطلحات وفي الأشكال والمناسبات، والذي أراه أن تخليد المسلمين لفاتح ماي لا يختلف كثيرا عن تخليد مسلمين آخرين لذكرى رأس السنة الميلادية، فهذا من أعيادهم. وإلا فكيف ننتقد تصورهم للمرأة ثم نخلد معهم ذكرى 8 مارس باعتباره اليوم العالمي للمرأة ؟! ولعل أقل الآثار المترتبة على ذلك هو ترسيخ مبدأ كون تحرير العمال إنما هو بالمعنى الذي يرمز له فاتح ماي بكل حمولته الثقافية. والقضية قابلة للأخذ والرد. ودفعا لكل التباس أذكر هنا قبسا من هدي الشريعة الإسلامية عسى الله أن ينفع به. فمن خصائص الشريعة الإسلامية الشمول، ويقصد به استيعاب جوانب الحياة كلها ومن ذلك العمل والسعي والشغل وما في معناه. ومما يذكر هنا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى الكسب والعمل، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" رواه البخاري. بل وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدرج مع أحد الفقراء بأن أخرجه من الفقر باليسير الذي كان معه دون حاجة إلى اقتراض أو مسألة، فقد أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: لك في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما. قال: فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: من يشتري هذين؟ فقال: رجل أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري. وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به. ففعل فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشد فيه عودا بيده، وقال:اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما. فجعل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم. فقال:اشتر ببعضها طعاما وببعضها ثوبا، ثم قال: هذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو دم موجع. الإسلام يمجد العمل وفي الوقت الذي ينظر الناس فيه بنوع من السخرية للحرف حتى صار الرجل يشتم بأن يقال له: يا أيها الراعي ( السارح )، نحب أن نذكر أنها حرفة الأنبياء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" رواه البخاري وغيره. وعنه رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده"، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان زكريا عليه السلام نجارا" رواه مسلم وغيره. وحين نتذكر سيرة الأنبياء لا نحتاج إلى ذكر سير غيرهم، وإلا فمن علمائنا من لا نعرفه إلا بحرفته التي اشتهر بها كالزجاج والنحاس والفراء والكسائي. ولعل مما يصلح الاستئناس به في هذا المقام الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"، وفيه حث على العمل والكد والاجتهاد إلى آخر رمق وآخر فرصة يمكن للإنسان أن يكسب فيها خبرا، وواضح في الحديث التمثيل بغرس الفسيلة في لحظة شبه ميؤوس من نموها فيها، فما بال من له الوقت الكافي ليغرس ويرعى إلى أن يقطف الثمار؟ ومن تشجيع الإسلام أتباعه على العدل والإنصاف الدعوة إلى إنصاف الأجير والتعجيل بإعطائه أجرته، ومن ذلك ما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، ولعل من هذا الحديث أخذ المغاربة قوله:" أكل عرقه"، إذ صار العرق رمزا لاستحقاق الأجر. وإن كان لا يشترط في كل الأعمال أو بالأحرى تتعدد صوره حسب المجهود المطلوب لكل عمل. علاقة الأجير بالمشغل في نظام الإسلام ومن أروع ما يذكر في طبيعة العلاقة بين المشغل والأجير كما يرشد ديننا الحنيف أتباعه إلى تمثلها ما جاء في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم؟ فقال الثالث: كما يروي ذلك عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله: لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون" متفق عليه. وفي الحديث درجة عالية من الإحسان إلى الأجير بتثمير ماله إلى أن بلغ درجة ظن معها أن مشغله يستهزئ به! وفيه حرص على دفع الأجور لأصحابها حضروا أو غابوا بحيث لا تسقط حقوقهم بالتقادم! وفي صيغة طلب الأجير لأجرته من الإيمان واليقين ما دل عليه قوله: يا عبد الله أد إلي أجري. وهي موعظة بليغة مركزة أتت أكلها. وفيه أكثر من ذلك أن الباعث على كل ذلك لم يكن تنفيذا لتوصية نقابية ولا لبند من مدونة الشغل وإنما ابتغاء وجه الله وهو أعظم باعث على العمل وعلى كل خير !وحري بكل منة له أجراء أن يتدبر هذه القصة جيدا! تحوفقه لمراتب الأعمال ولعل مما يلتبس على الناس قول كثير منهم:"العمل عبادة"، وذلك ليرد على من دعاه إلى الصلاة مثلا، وقد حضر وقتها فتكون الحجة التي لا ترد هي قولهم العمل عبادة، والعبارة أصيلة سليمة وهي مستمدة من قوله تعالى:"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، ونحتاج فعلا إلى الإقناع بأن العمل عبادة يجب أن يشترط فيه ما يشترط في كل عبادة من الإخلاص والسنة، بل نحتاج إلى إقناع الناس أن "الفن عبادة"، وأن أعمال العبد كلها بهذا المعنى ينبغي أن تكون بنية العبادة، مصداقا لقوله تعالى:"قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك لله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، ومع هذا يجب الانتباه إلى فقه مراتب الأعمال وفقه التزاحم، وفقه التنزيل، فنميز بين الواجب والنفل، وبين الواجب العيني والواجب الكفائي، وبين المضيق والموسع، والمعجل والمؤجل، ثم ننزل كل عبادة من هذه العبادات في مكانها بقدرها ضمن القاعدة التي نص عليها الحديث القدسي:"ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"، والقاعدة التي أرشد إليها سلمان الفارسي أبا الدرداء كما في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره، وفيه:" فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان". ولعل الآية في سورة الجمعة تبين ذلك في أوضح صورة فقد قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، وواضح في الآية الأمر بحضور صلاة الجمعة وترك البيع، ويلحق به كل ما يشغل عن الصلاة، ثم إذا قضيت الصلاة يرشد القرآن الكريم إلى الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. وهذا المعنى أيضا يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في بيان علة الغسل يوم الجمعة، قالت رضي الله عنها:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم، وكان يكون لهم أرواح ( بمعنى روائح)، فقيل لهم لو اغتسلتم"، والحديث رواه البخاري، وهو يدل على أن القوم كانوا في أعمالهم فإذا جاء وقت الصلاة تركوا العمل، ودخلوا المسجد، ومن آثار عملهم روائحهم، فكان الإرشاد إلى الإغتسال. وفيه الإرشاد إلى أن الصحابة جمعوا بين عملهم وصلاتهم دون أن يشغلهم هذا عن ذاك. ولعل مما يحتاج إلى توضيحه، إخوة الإسلام، أيضا قول بعضهم إن الصلاة في وقت العمل بغير إذن المشغل تعد خيانة له!، وهذا ونحوه من تلبيس إبليس، ومن زخرف القول الذي كرسه بشكل أو بآخر مفهوم العمل النقابي والمطالب النقابية التي قد لا يكون منها توقيت العمل بما لا يفوت على الناس وقت الصلاة، وخاصة صلاة الجمعة.فهل يكون هذا أحد المطالب النقابية ؟! الدكتور مولاي عمر بن حماد