قال الله عز وجل في سورة فصلت: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون). تبشر هذه الآية بالعواقب الباهرة، والنتائج الجميلة، والوعد العظيم لمن قال: آمنت بالله ثم استقام، وهل يوجد شيء في هذه الدنيا، من أقصاها إلى أقصاها، أروع من الاستقامة على دين الله؟ لا شيء أعذب وأحلى من أن يكون العبد سائرا على الصراط المستقيم والدرب القويم متبعا طرق الهدى، هدفه وشعاره في حياته الحق والتقى، وغايته الآخرة جنة المأوى. ربنا الله... ليست كلمة تقال يقول الشهيد سيد قطب: ربنا الله.. ليست كلمة تقال. بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير. إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه، وكل حركة وكل خالجة، ويقيم ميزاناً للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود. ويضيف: ربنا الله فله العبادة، وإليه الاتجاه. ومنه الخشية وعليه الاعتماد. ربنا الله فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه، ولا خوف ولا تطلع لمن عداه. ربنا الله فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه، منظور فيه إلى رضاه. ربنا الله.. منهج.. والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره. والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة. وهؤلاء فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. وفيم الخوف وفيم الحزن.. والمنهج واصل. والاستقامة عليه ضمان الوصول؟ التحدي بقول ربنا الله (إن الذين قالوا ربنا الله)، إنهم قالوا ذلك، والقول بذاته تحد، والتحدي بدوره دعوة. إنه دعوة بكسر حاجز الصمت والخوف، ومقاومة حالة اليأس والسلبية. وإن القصد في القول إلى الإيجابية، غاية الرسول صلى الله عليه وسلم في نصيحته لمن سأله: >يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه<. في ما أخرجه أحمد ومسلم والدارمي والبخاري في تاريخه والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان. (ثم استقاموا) ويبدو أن الله سبحانه يهدي العبد إلى معرفته، ويدله على ذاته بذاته، ثم يبتليه بألوان الفتن، تارة في ماله، وأخرى في جسده، وثالثة بتسليط الجبابرة عليه، وهكذا ليمتحن إيمانه، فإذا انهار وكله إلى نفسه، وأما إذا استقام نزل عليه ملائكته ليثبتوه. وهكذا تتركز صعوبات الاستقامة في أيامها الأولى، حيث لا تتنزل الملائكة، وحيث يتساوى الناس في درجة الضغط الذي يتعرضون له لامتحان قوة إيمانهم، أما في المرحلة التالية، فإن من استقام تهون عليه الضغوط لنزول الملائكة عليه بالسكينة والتأييد. (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) وهكذا يزيل الملائكة عن قلب المستقيم أثر أمضى سلاح تستخدمه قوى الشرك وهو سلاح الإرهاب. وحين نسير في الأرض نرى الخوف أعظم دعامة لحكم الطغاة والمستكبرين، فإذا تجاوز إنسان أو شعب حاجز الخوف استعاد حقوقه وحريته واستقلاله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال (أن لا تخافوا) مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة (ولا تحزنوا) على ما خلفتم من أمر دنياكم من ولد وأهل ودين مما استخلفكم في ذلك كله. فلا تدع الملائكة قلوب أولي الاستقامة عرضة لأمواج التشكيك التي تبثها الشياطين فيها. إن الملائكة يزيلون أثر الخوف والحزن من أفئدة المستقيمين بأن يبشروهم بالجنة ونعيمها. (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ولأن المؤمنين يتعرضون لضغوط مختلفة، فإن الملائكة لا تزال تتنزل عليهم (ولا تنزل مرة واحدة) فكلما تعرضوا لنوع من الضغط بشرهم الملائكة بما يقابله من النعمة عند الله، حتى يزول أثر الضغط. ومن عاش مع الملائكة الموكلين بشؤون الكائنات لا يبقى غريبا. إنه يمشي في الاتجاه الصحيح مع كل الخليقة، إنما أعداء الحق هم الغرباء، لأنهم يعيشون ضد سنن الله في خلقه، وفي الاتجاه المضاد لحركة الكائنات. (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) لقد عاش إبراهيم عليه السلام، وحده في ذروة التوحيد، فهل كان غريبا؟ وكيف يكون غريبا يتنزل عليه جبرائيل وميكائيل؟ وحين وضع في المنجنيق ليرمى به في النار، هرعت إليه سائر الملائكة الموكلين بشؤون الطبيعة، وعرضوا عليه دعمهم له، فلم يقبل، إنما سلم أمره إلى الله، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه. وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه (نحن أولياؤكم...) قال: رفقاؤكم في الدنيا لا نفارقكم حتى ندخل معكم الجنة، ولفظ عبد بن حميد قال: قرناؤهم الذين معهم في الدنيا. فإذا كان يوم القيامة قالوا: لن نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. (وفي الأخرة) عندما تبلغ النفس التراقي، وتهبط على ابن آدم كربة الموت، ويقف أحباؤه حياله عاجزين عن تقديم أي عون له، هنالك تهبط ملائكة السلام على من استقام من المؤمنين فيبشرونه بالجنة. الله أكبر، ما أحلاها من بشارة، وما أعظمها من نعمة. وعندما يوضع الإنسان في لحده، ويتفرق عنه أبناؤه وأحباؤه، وقد تركوه تحت التراب وحيدا غريبا، تهبط ملائكة الله بالبشرى على المؤمن، ويزيلون وحشته، ويرافقونه حتى النشور، وعندما يبعث الناس إلى ربهم في صحراء المحشر (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه)، (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)، (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)، هنالك يتقدم ملائكة الرحمة لمرافقة المؤمنين إلى ربهم. (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) لقد زهدوا في الدنيا وشهواتها، فعوضهم الله بنعيم الآخرة، وإذا كانت شهوات الدنيا مشوبة بالآلام، ومشحونة بالمصائب والنكبات، وهي سريعة الزوال، فإن نعيم الآخرة التي تشتهيها نفوسهم صافية لا زوال لها. بلى. إن الدنيا والآخرة ضرتان، فمن رغب في الآخرة زهد في الدنيا، ومن أقبل على هذه الحياة الزائلة ومفاتنها وملاهيها، فسوف لا يجد نعيما في تلك الحياة الأبدية. الدنيا دار السعي، والآخرة دار الجزاء، وفي الدنيا لا يمكن أن تتحقق كل أماني البشر، ولا يمكن أن يرضي أحد أحدا، لأن ادعاءات ابن آدم أكبر من حجم الدنيا نفسها، وتمنياته أوسع من حياته على الأرض، فكيف تتحقق جميعها؟ بينما الآخرة دار واسعة، أكبر من طموحات البشر وتطلعاته، وهكذا تتحقق أماني المؤمنين بلا جهد أو سعي. ففي الآيات السابقة من سورة (فصلت) يؤكد الله عز وجل على ضرورة توفر الاستقامة من أجل الوصول إلى مرضاته، وإقامة حكمه. والآيات الكريمة السابقة تقرر أن في طريقنا ومسيرتنا عراقيل وصعوبات لابد من أن نستعد لإزالتها، والتغلب عليها. وهذا المعنى يؤكدها الله عز وجل في سورة الأحقاف: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين )