(وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار. كلّما رُزقوا منها من ثمرة قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل وأتُوا به مُتشابها ولهم فيها أزواجٌ مُطَهَّرة وهم فيها خالدون). جاءت هذه الآيات تبشر المؤمنين العاملين للصالحات بدخولهم الجنة التي تجري من تحتها الأنهار وهم فيها خالدون. وذلك بعد أن نزلت الآيات قبلها تُنذر الكافرين بنار جهنم. وتبشر هذه الآيات المؤمنين أيضا بأنهم يُرزقون في هذه الجنة من الثمرات والنِّعم ما لم يعرفوا مثله في الدنيا. ثمرات متعددة متنوعة الطعم والمذاق. تشتهيها الأنفس وتلذها العيون وتسْتطيبها الأذواق. وكلّما رُزقوا من هذه الثمرات قالوا عنها إنهم رُزقوا بعضا منها في الحياة الدنيا. وهم فيما يقولونه مخطئون، لأن ثمرات الجنة غير ثمرات الدنيا. وأين ثمرات الجنة من ثمرات الدنيا؟ وقد أخطأوا لأن ثمار الجنة بدت لهم متشابهة مع ثمرات الدنيا مظهرا. أما مَخْبرا فثمرات الجنة أطيب وألذ. وجاء في الآية أيضا تبشير المؤمنين بأن لهم في الجنة أزواجا مُطهّرات لا تصح مقارنتهن أو تشبيههنّ بزوجات الدنيا اللواتي فيهن من لا جمال لهن، ومن يشوبهن العيب، ومن لا يحلو النظر إليهن. أما زوجات الجنة فهن مُطهّرات لا عيب فيهن ولا نقصان، كاملات خَلْقا وخُلُقا، ومظهرا ومخْبَرا. ***** {وبشِّرْ} هذا أمر موجه إلى الرسول المطلوب منه القيام بتبشير المؤمنين بما جاء في الآيات أعلاه. وبشِّرْ ومصدره التبشير يعنيان حمل بشارة الخير أي ما فيه الخير للمؤمنين. وفعل الأمر أبْشِرْ يعني افرحْ، ولا يُفرح إلا بالخير. وفي سورة فُصِّلت الآية 03 : {ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم تُوعدون}. ويشيع على ألسنة العرب الخليجيين استعمال أبْشِرْ للوعد بالخير، فإذا ما طلب أحدهم من غيره شيئا يكون الجواب أبْشر ما يقابل تعبير سيكون الخير إن شاء الله. وعكس التبشير هو الإنذار بالشر. كما أن الوعد عكس الوعيد. وجاء في القرآن أن رسالة النبي إلى الناس كافة هي رسالة تبشير وإنذار. وذلك مثلا في قوله تعالى : {وما أرسلناك إلا كافّة للناس بشيرا ونذيرا}. (سورة سبأ الآية 82) وهما وصفان يوصف بهما نبينا محمد البشير النذير السراج المنير. ***** {عملوا الصالحات} في الخطاب الإسلامي قرآنا وسنة يُقرن الإيمان بعمل الصالحات. فلا يكفي الإيمان وحده دون عمل الصالحات. ولا يكفي عمل الصالحات بدون الإيمان بالله وبما جاء عن الله. وهو ما يعني أن الإسلام الحق هو الإيمان والعمل الصالح معا. فالمسلم الحق هو من يؤمن بالله ويعمل عضوا نشيطا لنفع مجتمعه. والله في القرآن مجّد العمل الصالح وأشاد بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات أو الصالح من الأعمال دينا ودنيا. وما استخلف الله بني آدم فوق الأرض إلا ليُعمِّروها ويعملوا الصالحات من الأعمال لبقائها وإصلاحها. و{لقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذّكْر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}. (سورة الأنبياء الآية 501). وجاء في سورة النحل الآية 79 تقديم ذكر العمل الصالح على الإيمان بالله: {من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنُحْيينّه حياة طيبة}. وهذا الترتيب وإن كان ذِكْريا كما يقول النّحاة فإن القاعدة الأخرى تقول: إن التقريب الذكْري يراد منه إلفات النظر إلى أهمية ما قُدِّم ذكره. كما جاء الحث على العمل في القرآن والسنة باعتبار العمل الصالح وظيفة أناطها الله بعباده لينفعوا مجتمعهم بخدماتهم. وبذلك يكون المؤمن النافع المتحرك النشيط أفضل عند الله من المؤمن الكسول الخامل الذي لا ينفع إلا نفسه ولا ينفع الناس. والمطلوب من العامل والصانع والمعلم والموظف أن يعملوا على استفادة المجتمع من عملهم الصالح، وأن يخلصوا في العمل، فلا يُحبطون أجْره بالغش والسرقة والارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل، وأن لا يسهموا في الفساد الجماعي. ومما جاء في الحديث للحض على العمل الصالح : إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة نخل فلْيزرعْها. ومما رُوي عن عمر بن الخطاب أنه لاحظ أن جماعة تأتي إلى المسجد ولا تبرحه تقيم فيه الليل والنهار فسأل عنهم فقيل إنهم لا يعملون ويقولون عن أنفسهم إنهم متوكلون على الله: يُقدِّم لهم بعضُ المؤمنين الطعام، فأنكر عليهم عمر ذلك وقال عنهم إنهم المُتأكّلون وليسوا المتوكلين. ***** (أتُوا به متشابها} وجيء لهم بالثمرات تبدو شبيهة بما عرفوه في الدنيا وهي ليست كذلك. فكل ما ذكره الله في القرآن من أحوال الآخرة ينبغي للإنسان أن يحتاط في فهمه، ويفوض علمه إلى الله. وعلى المؤمن أن يؤمن به كما جاء عليه دون أن يشخصه في أشكال أوضاع الدنيا وأحوالها: فعالم الآخرة عالم الخلود، قد يتشابه مع عالم الدنيا لكنه مغاير لما في الدنيا. وما جاء عنه في القرآن من تشخيص مادي إنما هو تقريب للفهم يساعد الإنسان في الدنيا على فهم بعضه لكنه ليس الحقيقة. فالله وحده هو الذي يعلم كيف ستكون أحوال عالِم الغيب، لأنه وحده {عالم الغيب والشهادة}. وهو العليم الذي لا يحيط {عباده بشيء من علمه إلا بما شاء). (إن الله لا يستحيي أن يضرب مَثَلا ما بعوضة فما فوقها. فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم. وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مَثلا. يُضِلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا. وما يُضِلّ به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل ويُفسِدون في الأرض أولئك هم الخاسرون). هذه الآيات نزلت بعد أن أطلق الكافرون والمنافقون ألسنتهم بحملة انتقاد واستهزاء بأسلوب بعض آيات القرآن وقالوا إن الله يضرب فيها المثل بصغائر الحشرات كالذباب، والبعوض، وبالعنكبوت. وقالوا ذلك ليضللوا البسطاء بأن القرآن ليس في مستوى كتاب نازل من السماء، فرد الله عليهم بأنه سبحانه لا يخجل ولا يستحيي من أن يضرب للناس المثل من الصغائر إذا كانت العبرة المُسْتَخْلَصة من ضرب المثل عظيمة ومفيدة، وأن الله غير مقيد في ضرب الأمثال بل يختار من بينها ما يشاء. والذين آمنوا يعلمون وجه التشبيه وغرضه والله يضرب أنواع الأمثال ويختارها لإضلال الذين ينكرون الحق ويجْحدونه وهم الفاسقون الخاسرون، وليهدي بها الذين يتّبعون الحق ولا يكابرون فيه فيزدادون إيمانا. ***** (لا يستحيي) نفى الله عن نفسه الاستحياء كيفما كان السبب والزمان والمكان. لكنه استعمل بطريقة المشاكلة هذا التعبير الذي يستعمل في حق البشر لينفي عن نفسه كل أنواع الاستحياء البشري. ***** (الفاسقين) الفسق هو الخروج عن الجادَّة، فكل ما ليس صوابا ومنْهِيٌّ عن ارتكابه فهو فسق وفسوق. وأصل كلمة الفسق بالمعنى المادي هو خروج الثمرة من قشرتها، فتخرج ردئية فيها عيب ويحسن أن لا تؤكل. والفسق مراتب ودرجات أعلاها الكفر. والبعض يفرق بين الكفر والفسق (أو الفسوق)، ويقول الفاسق هو المؤمن العاصي والكافر هو من يجْحد وجود الله ولا يؤمن برسالة المرسلين. ويضيف أن المعاصي ولو كثُرت لا تُذهب الإيمان أو تبطله. فالمؤمن قد يكون مطيعا وقد يكون عاصيا إذا كان لا يكفر بالله، وما جاء عن الله. وأتْبع اللهُ نعتَ الفاسقين بذكر أوصافهم، فهم الذين ينقضون عهد الله وما التزموا به لله. وهم الذين يُفسدون في الأرض ولا يعملون الصالحات، وهم بذلك هم الخاسرون مع الله، المحرومون من ثوابه، الخاسرون دينا ودنيا بما أفسدوا في الأرض وبما لم ينفعوا الناس. (كيف تكْفُرون بالله وكنتم أمْواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجَعون. هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثُمّ استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم). يتوجه الله إلى الكافرين سائلا إياهم كيف تكفرون بي دون أن تكون لكم شبهة تُبرّر كفركم؟ في حين أني أنعمت عليكم بالحياة وكنتم أمواتا. وأنا الذي أعيدكم أمواتا بعد الحياة، ثم أبعثكم أحياء يوم القيامة وأعطيكم النعيم المقيم وأمتعكم في الدار الآخرة بالخلود إذا استقامت أحوالكم وصلحت أعمالكم. وكيف يكفر هؤلاء الكافرون والله هو الذي سخر للموجودين فوق الأرض ما في الأرض جميعا؟ وكيف يكفرون بالله وهو الذي سوّى بقدرته سبع سماوات؟ وهو العالم بكل شيء، الخالق المدبر لكل شيء. ***** (استوى إلى السماء) الاستواء لا يفيد الجلوس أو الصعود أو أية حركة من حركات البشر. فالله ليس مادة أو جسما ولا مركبا من أجزاء. والمراد باستوى هو قَصَد بعزم وسرعة وحسب نظام مضبوط، أو علا على العوالم مهيمنا عليها. والسماوات من العالم العُلْوي الذي يعلو الأرض. ***** (سبع سماوات) يقول المفسرون عن السبع سموات الله أعلم بها وبالمراد منها، لكن يقول عنها علماء الفلك والهيأة إنها الأجرام والكواكب العُلْوية المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي. وذكر هؤلاء العلماء أسماءها. وقد أخذ العلم الحديث يكتشف بعضها. ومع ذلك لا يعلم عنها إلا القليل بالنسبة لما يعلمه خالقها وبارئها ورافع سَمْكها ومسوّيها ومُمسكها أن تقع على الأرض. {ويمسك السماوات والأرض أن تزولا).