إيمان الإنسان بربه وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وما أخبر به عباده من غيبه، سبيل الهداية، ومزيد العناية. فالله تعالى يجازي عبده على استجابته القلبية الإيمانية بمزيد الهداية، شريطة أن يكون الإيمان صحيحا، والمعتقد سليما جازما، مقرونا بالعمل الصالح ابتغاء مرضاة الله. هذا بعض جزاء العبد المؤمن في الدنيا، وأما في الآخرة فجنات النعيم، وفي تلك الجنات السامقة المونعة الوضاءة يكون دعاء العباد المؤمن تسبيحا دائما متواصلا، لا جهد فيه ولا تعب، وإنما هو كالنفس يجري عذبا زلالا، سهلا لذيذا. وتحيتهم في تلك الجنان السلام، لأنهم عاشوا في الدنيا في سلام مع أنفسهم ومع الآخرين، وأما آخر دعائهم فهو الحمد لله رب العالمين، الذي أغدق عليهم نعمه، وكلأهم بعنايته، وحفظهم وأيدهم وغفر لهم، ورضي عنهم، وأسكنهم فسيح جناته. فتنطلق ألسنتهم بالحمد، الذي لا يستحقه إلا الله، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والذي جعل الجنة دار أحبابه، ورزقهم فيها من كل ما تلذ الأعين، وتهوى الأنفس، وأتم عليهم النعمة بأن رزقهم التنعم برؤية وجهه الكريم. هؤلاء الفائزون هم الذين وصفت حالهم هذه الآيات من سورة يونس: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. دعواهم فيها سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (سورة يونس: الآية 10). فقدم الخطاب القرآني بيان دعائهم ربهم، وهو التسبيح أي تنزيهه عن كل مالا يليق بجلاله وجماله وكماله؛ وهنا يكون الدعاء ثناء، ويصبح كالنفس لاينقطع، فلا يجد الداعي جهدا في دعائه، بل يلهم الدعاء كما يلهم النفس في الدنيا. ثم عقب الخطاب القرآني ببيان حال علاقة المؤمنين فيما بينهم في الجنة، وهي علاقة الأخوة والمحبة والسلام المتبادل. وهو، قبل ذلك، سلام من رب رحيم وفي الختام، يكون آخر دعائهم حمدا لله رب العالمين. تسبيحٌ وسلامٌ وحمد. كذلك كانوا في الدّنيا، وكذلك يكون حالهم بفضل الله تعالى في الآخرة. (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبه الدار) [سورة الرعد: الآية 24]. وحول هذه المعاني وما يرتبط بها كان حديث المفسّر المرحوم الشيخ متولّي الشعراوي عندما قال: «هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل، وهم الذين آمنوا، ويعلّمنا سبحانه: (يهديهم ربّهم بإيمانهم). والهداية كما قلنا من قبل معناها الدلالة على الخير، بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا، وبه بيّن الحقّ السّبل أمام المؤمن والكافر، أما الذي يقبل على الله بإيمان فيعطيه الحق سبحانه وتعالى هداية أخرى؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه، ويزيده سبحانه هدى بالمعروف؛ لذلك قال سبحانه: (واستعينوا بالصّبر والصلاة وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين) [البقرة: 45]. وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحب؛ فيهوّنها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه الطاعة؛ لتهون عليه مشقتها، ويمده سبحانه أيضاً بالمعونة. يقول الحق سبحانه: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربُّهم بإيمانهم). وماداموا قد آمنوا، فسبحانه ينزل لهم الأحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخر، أو أن الهداية لا تكون في الدنيا بل في الآخرة، فما داموا قد آمنوا، فهم قد أخذوا المنهج من الله سبحانه وتعالى وعملوا الأعمال الصالحة، يهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة (....) والآية تحتمل الهداية في الدنيا، وتحتمل الهداية في الآخرة. ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الآخرة فيقول (تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النّعيم) [سورة يونس: الآية 9] وقلنا: إن الجنة على حوافّ الأنهار؛ لأنّ الخضرة أصلها من الماء. وكلما رأيت مجرى للماء لابد أن تجد خضرة، والجنات ليست هي البيوت، بدليل قول الحق سبحانه: (ومساكن طيّبة في جنات عدن..) [سورة التوبة: الآية 72]. ونجد الحق سبحانه يقول مرة: [تجري تحتها الأنهار..] (سورة التوبة الآية: 100). ويقول سبحانه في مواضع أخرى: (تجري من تحتها الأنهار...) (سورة البقرة: الآية 25). والحق سبحانه يعطينا صوراً متعددة عن الماء الذي لا ينقطع، فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة لا تنقطع أبدا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). دعواهم: أي دعاؤهم. وهل الآخرة دار تكليف؛ حتى يواصلوا عبادة الله؟ لا، ولكنها عبادة الالتذاذ، وهم كلما رأوا شيئا يقولون: لقد أكلنا ذلك من قبل، ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أنّ ما في الأرض كان يشبه تلك الثمار، لكنه ليس مثلها. (قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل وأُتُوا به متشابها...) (سورة البقرة: الآية 25). أو يقولون: (سبحانك اللهم) اعترافاً بالنعمة، وأنت حين ترى شيئا يعجبك تقول: سبحانك يارب. وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول: سبحان الله، وتفاجأ بأشياء لم تكن في الحسبان من فرط جمالها؛ فتقول: الحمد لله. إذن: فأنت تستقبل النعمة «سبحان الله»، وتنتهي من النعمة «بالحمد لله». ولذلك يقول الحق سبحانه: (وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين).....» (تفسير الشعراوي، ص 5756). جعلنا الله منهم. آمين.