قال الله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تومن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا. واعلم أن الله عزيز حكيم) [سورة البقرة الآية 259]. نحن الآن بين يدي نوع آخر من الدعاء الصالح: دعاء الموقنين الذين يريدون زيادة في العلم والمعرفة واليقين: (وقل رب زدني علما) [سورة طه الآية 111]. إنه دعاء سيدنا إبراهيم الخليل الذي آمن إيمانا يقينيا، وصدق تصديقا مطلقا بوحدانية الله، وعظيم قدرته، وكمال رحمته وباقي صفاته الحسنى. إنه يسأل الله في هذه الآية أن يريه بالمشاهدة والرؤية الحسية كيف يحيي الموتى. فهو موقن بأن الله قادر على ذلك، لكن شعوره بالحاجة الى مزيد من العلم والمعرفة واليقين جلعه يسأل خالقه أن يريه كيفية إحيائه للموتى، ليطمئن قلبه، ويرتوي عطشه المعرفي، فينتقل من علم اليقين الى عين اليقين، وحق اليقين، ويزداد إيمانا وتسليما، وتعظيما لخالقه. وكان الحوار بين الله ورسوله إبراهيم عليه السلام: «أولم تومن؟». «قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي». أي أن هذا الدعاء ليس صادرا عن عدم إيمان أو عن ضعفه، بل هو بقصد اطمئنان القلب من ناحية زيادة اليقين، ومشاهدة قدرة الله الباهرة. واستجاب الله لعبده ورسوله إبراهيم الخليل فأكرمه بهذه المشاهدة: (قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا. ثم ادعهن ياتينك سعيا. واعلم أن الله عزيز حكيم) [سورة البقرة الآية 259]. وفعلا طبق سيدنا إبراهيم التعاليم الإلهية، فإذا به يرى بعينيه كيف يحيي الله الموتى، وكيف يجعل سبحانه الحياة تدب في الموات بقدرته بحيث جمع أعضاء هذه الطير، ونفخ فيها الحياة من جديد، فعادت سيرتها الأولى تطير، وأتت إبراهيم سعيا. والدرس هنا أن يعلم الإنسان من خلال ما علم الله نبيه إبراهيم أن الله عز وجل هو القادر الذي لايعجزه شيء وهو الحكيم الذي قامت الأشياء بحكمته، فكانت في منتهى الإحكام، وغاية الإتقان. قال فؤاد بن محمود بن محمد سندي: «أحبتي... سيدنا إبراهيم عليه السلام كما علمتم قد آتاه الله رشده صغيرا، ووهبه قلبا سليما، وجعله صديقا نبيا، فكان حنيفا مسلما مؤمنا محسنا، حليما أوها منيبا، وكان أمة قانتا لله تعالى... وكان عليه السلام عالما أن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يحي ويميت، وقد أعلن عليه السلام ذلك صراحة في وجه الملك النمروذ الذي حاجه في ربه. فكان إبراهيم عليه السلام مصدقا بأن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحيي الموتى بعد فناء أجسادهم، وأن يبعث الناس يوم القيامة بعد موتهم ليحاسبهم على أعمالهم. ولكن إبراهيم الخليل عليه السلام الى جانب هذا الإيمان القوي كان حريصا على أن يجمع بين الإيمان بالغيب، ومعاينة الدليل الملموس، عن طريق المشاهدة وذلك ليزداد بصيرة وإيمانا، وثقة واطمئنانا.. فيصبح يقينه في أعلى مراتبه ويمسي إيمانه في أرسخ دعائمه.. من أجل هذا طلب إبراهيم عليه السلام من ربه الكريم الحكيم أن يريه كيف يحيي الموتى؟ وكيف يبعثهم بعد فناء أجسامهم.. وذلك ليطمئن قلبه فأجاب الله تعالى طلب خليله، وأراه قدرته» [من لطائف التعبير القرآني ص 174]. وأشار د. سندي الى أن سؤال إبراهيم هذه الآية ليس فيه مايدل على الشك أو الارتياب في إحياء الله الموتى، وفي قدرته على البعث والنشور. وذلك لأنّ إبراهيم لم يقل في سؤاله (هل تحيي؟) بل قال: (كيف تحيي؟). إذا فالسؤال ليس عن قدرة الإحياء بل عن كيفية الإحياء. وإذا كان السؤال عن الكيفية فهو يقتضي تيقن ماسأل عنه، وهو الإحياء والإيمان به.. كما ذكر ذلك أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (2/297)» (نفس المرجع ص 175) وقال عز من قائل: [آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لانفرق بين أحد من رسله. وقالوا: سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا وإليك المصير. لايكلف الله نفسا إلا وسعها. لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولاتحملنا مالا طاقة لنابه. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا. أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [سورة البقرة الآيتان 284 285]. في الحديث الشريف أنّ من قرأ خواتيم البقرة (أي هاتين الآيتين) في ليلة كفتاه. قال بعض السلف: أي كانت قراءته لهما بمثابة قيامه الليل كله. وهذا من فضلهما. وقد تضمنتا حقائق إيمانية جليلة، تصف الحال الباطني الصادق للمؤمنين وعقيدتهم الصحيحة. ثم يفسح القرآن الكريم لهؤلاء المؤمنين المجال ليعبروا عن صدق إيمانهم وتعلقهم بربهم ورجائهم له، بأسلوب رقيق، وشعور فياض عذب، ولسان طاهر خاشع ذاكر، وقلوب ذليلة لله، موقنة بالاستجابة، مؤمنة بالرحمة الإلهية، وبسعة العفو الرباني. لقد بينت الآية الأولى من خواتيم البقرة التي نبه نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم على فضلها إيمان الرسول والمؤمنين بما أنزل الله من كتاب سواء الكتب السابقة أو القرآن الكريم: المعجزة الخالدة ثم فصلت الإيمان الإجمالي وأوضحت أنه إيمان بالله أي بوحدانيته وصفاته العليا وأسمائه الحسنى، وبأنه خالق هذه الأكوان ومدبرها، وخالق الإنسان وهاديه ورازقه، وأنه يستحق وحده العبودية منه ومن كل مخلوق. وكذلك الإيمان بملائكته الذين منهم أمين الوحي، سيدنا جبريل عليه السلام، السفير بين الله ورسله يبلغهم وحيه. كما أن منهم الموكلين، بأمور معاش المخلوقات. ومنهم المقربون، وحملة العرش وغيرهم. وهم مخلوقات نورانية لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. و كذلك الإيمان بالكتب الإلهية، وأعظمها القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام. وأنها كلام الله. وقد حفظ منها بنفسه القرآن الكريم. قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [سورة الحجر الآية 9]. بينما أوكل حفظ الكتب الأخرى للأمم التي أنزلت لهدايتها حيث قال سبحانه: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عيه شهداء) [سورة المائدة، الآية 46]. وأن هذه الكتب اشتملت على الهدايات الربانية للإنسان، ولاسيما الكتاب الخاتم القرآن الكريم المعجز بلفظه ومعناه، ببلاغته وعلومه. وقد دلت البحوث العلمية الدقيقة المعاصرة على إعجازه العلمي، وكانت سببا لإيمان كثير من العلماء به في الشرق والغرب. فهو رسالة الله الى خلقه، الضامنة لصلاحهم وهنائهم في الدنيا، وسعادتهم وفوزهم في الآخرة. ثم التفت الأسلوب القرآني من الغيبة الى الخطاب ليفسح كما قلنا المجال مرة أخرى لهؤلاء المؤمنين ليعبروا عن إيمانهم ورجائهم: [لانفرق بين أحد من رسله. وقالوا سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا وإليك المصير]. فهم يؤمنون بجميع الرسل بدون استثناء ولاتفريق، لاكما يفعل اليهود والنصارى إذ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولايؤمنون بخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فالإيمان بجميع الرسل هو خاصية خص الله بها المسلمين دون سواهم، لامتثالهم الأوامر الإلهية مثل قوله تعالى: [قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [سورة البقرة الآية 135]. ولذلك جاء هذا المعنى (الامتثال) واضحا في قولهم تعقيبا وعطفا على كلامهم السابق: (وقالوا سمعنا وأطعنا). ثم سألوا الله المغفرة. وصيغة هذا الدعاء تشف عن شدة اضطرارهم الى مولاهم، وحاجتهم الى مغفرته، ولذلك قالوا: [غفرانك ربنا] إيمانا منهم بأن الله تعالى هو الذي يغفر الذنوب جميعا. وإليه المصير.