دخل المغرب الأقصى في فتنة وهرج ومرج بعد ظهور ما سماه المؤرخ المغربي الناصري صاحب الاستقصا بدعة الخارجية ويقصد بذلك الخوارج الذين مزقوا المغرب إلى عدة ولايات متطاحنة. بل إن الفتنة بين البربر والعرب بسبب النزعة الخارجية انتقلت إلى الأندلس وأدخلت إليه فتنة لا تقل عن فتنة المغرب. ولم تنته الفتنة إلا في معركة حاسمة كبيرة انهزمت فيها الإمارة البورغواطية الخارجية وقتل فيها زعيم الخوارج وأخوه، ومات فيها خلق كثير. وعلى إثر ذلك استقر الحال نسبيا بالمغرب والأندلس. هو سيدنا ونحن العبيد بدخول المولى إدريس إلى أرض المغرب وباستقباله واستقراره ثم بيعته، سجل التاريخ المغربي منعطفا جديدا وولدت الدولة المغربية المستقلة عن المشرق الإسلامي استقلالا حقيقيا و أبدعت في السياسة والثقافة والحضارة والدعوة. من أجل تسجيل المنعطف اختار الذين راجعوا كتاب الاستقصا ورتبوا أبوابه التوقف مظهرا وجوهرا لإظهار التحول: ففي الجزء الثاني من الكتاب الكبير وعند مطلع القسم الأول اقتبس الأساتذة محمد حجي وإبراهيم بوطالب وأحمد التوفيق (وزير الأوقاف الحالي) مقطعا من الاستقصا وجعلوه مدخلا لأيام دولة الأدارسة، وهذا نصه: كان دخول إدريس بن عبد الله المغرب ونزوله على ابن عبد الحميد الأوربي بمدينة وليلي غرة ربيع الأول سنة اثنين وسبعين ومئة... فلما دخل شهر رمضان من السنة، جمع ابن عبد الحميد عشيرته من أوربة، وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرر لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه. فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا به وشرفنا بجواره، وهو سيدنا ونحن العبيد. فما تريد منا؟ قال: تبايعونه، قالوا: ما منا من يتوقف عن بيعته. فبايعوه بمدينة وليلي يوم الجمعة 4 رمضان المعظم سنة اثنين وسبعين ومئة. قال ابن أبي زرع: كانت مدة ملك الأدارسة بالمغرب من يوم بويع إدريس بن عبد الله إلى أن قتل الحسن بن كنون وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثمئة مئتي سنة وثلاث سنين تقريبا سوى شهرين تقريبا. وكان عملهم بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران، وقاعدة ملكهم فاس ثم البصرة (مدينة مغربية قديمة على الطريق إلى وزان من سوق الأربعاء). وكانوا يكابدون دولتين عظيمتين: دولة العبيديين بإفريقية ودولة بني أمية بالأندلس. وكانوا يزاحمون الخلفاء إلى ذروة الخلافة، ويقعد بهم عنها ضعف سلطانهم وقلة مالهم. فكان سلطانهم إذا امتد وقوي ينتهي إلى مدينة تلمسان. وإذا اضطرب الحال عليهم وضعفوا لا يجاوز سلطانهم البصرة وأصيلا وحجر النسر، إلى أن انقضت أيامهم وانقرضت مدتهم. والبقاء لله وحده. بيعة وخطاب وفتح أول قبيلة بايعت المولى إدريس كما سلف هي قبيلة أوربة. بايعوه على السمع والطاعة والقيام بأمره والاقتداء به في صلواتهم وغزواتهم وسائر أحكامهم. فهي إذن إمامة في الدين والدنيا، إمامة كبرى وصغرى معا. وما لبثت القبائل الأخرى أن أتت مبايعة بعد بيعة أكبر قبيلة في المغرب الأقصى وأكثرها عددا على ما يرويه صاحب الاستقصا. وتلت قبيلة أوربة قبيلتا مغيلة وصدينة. ثم جاءت قبلئل زناتة والبربر مثل زواغة وزواوة وسدراتة وغياثة ومكناسة وغمارة وكافة البربر بالمغرب الأقصى. وينقل الناصري من خطبة البيعة والإمارة قول المولى إدريس: أيها الناس، لا تمدن الأعناق إلى غيرنا. فإن الذي تجدونه من الحق عندنا لا تجدونه عند غيرنا. بإتمام البيعة العامة أصبح المولى إدريس بن عبد الله أميرا للمغرب، وكان أول شيء انطلق فيه هو لملمة أطراف المغرب الأقصى والأوسط والأدنى أو ما يسميه المؤرخون القدامى إفريقية. وبالفعل كون الأمير الجديد جيشا كبيرا من وجوه زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وغيرهم واندفع يفتح بلاد تامسنا وهي المنطقة المطلة على شاطئ المحيط الأطلسي من نهر أبي رقراق عند مصبه بمدينتي سلا والرباط إلى نهر أم الربيع عند مصب نهر أم الربيع، ثم فتح بلاد تادلا، وكانت تلك البلاد ما تزال على دين اليهودية والنصرانية. وبعد استراحة محارب جدد الفتح والتوسع في ما تبقى من بلاد الغرب الإسلامي ثم انتقل إلى بلاد تلمسان حيث بنى مسجدا وأتقنه وصنع منبرا للخطبة وكتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به الإمام إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنه. وذلك في شهر صفر سنة أربع وسبعين ومئة.(يونيو/ يوليوز 097). ولم يكن هذا الفتح بالأمر اليسير على موازين القوى في العالم الإسلامي في تلك الأيام، فإن توسع الدولة الناشئة الجامعة لأمر المغرب كان له دوي كبير بالمشرق العربي الذي كان تحت الخلافة العباسية. فالمعنى الوحيد لهذا هو أن الدولة المغربية أصبحت تنافس الدولة المشرقية في الإمامة الدينية والسياسية، وبالفعل كان ذلك هو التفسير الأصوب الذي أثبته الأيام والقرون والأحداث التالية. إعداد حسن صابر