المغرب الإسلامي عبر التاريخ الولاة بالمغرب في هذه الحلقة نورد ما كتبه الناصري في الاستقصا لتاريخ المغرب الأقصى عن الولاة الذين حكموا المغرب إبان العهد الأموي، وما صاحبها من أحداث، التي تتلخص في ولاية زهير بن قيس ومقتل كسيلة، وولاية حسان بن النعمان على المغرب، وبنهاية الكاهنة داهيا بجبل أوراس واستتباب الأمر في المغرب. هل فتح المغرب تم صلحا أم بالقوة؟ قال السيخ أبو الحسن القابسي(1) رحمه الله، في شرح الموطأ، في كتاب الجهاد منه: اختلف الناس في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا أو مختلطة؟ أي البعض عنوة والبعض صلحا. على ثلاثة أقوال: الأول: وهو الذي يظهر من رواية ابن القاسم عن مالك أنها فتحت بالسيف عنوة، لأنه جعل النظر في معادنها للإمام، ولو صح ذلك لم يجز لأحد بيع شيء منها كأرض مصر لأنها فتحت بالسيف. الثاني: أنها فتحت صلحا الثالث أنها مختلطة، هرب بعضهم من بعض وتركوها فمن بقي بيده شيء كان له، وهو الصحيح. ويحكى أن أحد عمال المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس حين تغلب على أرض فاس قال لهم: أخبروني عن أرضكم أصلح لي أم عنوة فقالوا له: لا جواب لنا حتى يأتي الفقيه يعنون الشيخ أبا جيدة، فجاء الشيخ المذكور فسأله العامل فقال: ليست بصلح ولا عنوة. إنما أسلم أهلها عليها، فقال: خلصكم الرجل. وأبو جيدة هذا هو دفين باب بني مسافر، أحد أبواب فاس المحروسة، رحمه الله. ولاية زهير بن قيس ومقتل كسيلة لما استقل عبد الملك بن مروان بالخلافة، كان زهير مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة بن نافع. فبعث إليه عبد الملك بالمدد، وولاه حرب البربر وأمره باستنقاذ القيروان ومن بها من المسلمين من يد كسيلة المتغلب عليها، وحضه على الطلب بدم عقبة، فراجعه زهير يعلمه بكثرة الفرنج والبربر فأمده بالمال ووجوه العرب وفرسانها. فزحف زهير إلى المغرب سنة تسع وستين ه في آلاف من المقاتلة وجمع له كسيلة البرانس وسائر البربر ولقيه ببمس من نواحي القيروان. واشتد القتال بين الفريقين ثم انهزمت البربر بعد حروب صعبة، وقتل كسيلة ووجوه من معه من البربر، ومن لا يحصى من شامتهم، وتبعهم العرب إلى مرماجنة، ثم إلى وادي ملوية. وفي هذه البقعة ذل البربر، وفنيت فرسانهم ورجالهم وكسرت شوكتهم، واضمحل أمر الفرنجة.. وخاف البربر من زهير والعرب خوفا شديدا فلجؤوا إلى القلاع والحصون وكسرت شوكة أوربة من بينهم، واستقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى وملكوا مدينة وليلي وكان بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون. ولم يكن بعد هذه الوقعة ذكر إلى أن قدم عليهم إدريس بن عبد الله رضي الله عنه فقاموا بدعوته على ما نذكره إن شاء الله. استشهاد زهير بن قيس وأما زهير فإنه لما رأى ما منحه الله من الظفر والنصر وساق إليه من العز والملك خشي على نفسه الفتنة وكان من العباد المخبتين فترك القيروان آمن ما كانت، وارتحل إلى المشرق وقال: إنما جئت للجهاد في سبيل الله وأخاف على نفسي أن تميل إلى الدنيا، فلماوصل على برقة وجد أسطول الروم على قتالها في جموع عظيمة من قبل قيصر وبأيديهم أسرى من المسلمين فاستغاثوا به وهو في جمع من أصحابه، فعمد إليهم فيمن معه وقاتل الروم حتى قتلوا، وقتل معه جماعة من أشراف أصحابه ونجا الباقون إلى دمشق، فأخبروا الخليفة عبد الملك بما وقع فآسفه ذلك. ولاية حسان بن النعمان على المغرب لما رحل زهير بن قيس إلى المغرب واستشهد ببرقة كما قدمنا اضطربت بلاد المغرب بعده واضطرمت فيها نار الفتن، وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم، وكان من أعظمهم شوكة يومئذ الكاهنة داهيا الزناتية صاحبة جبل أوراس وكبيرة قومها جراوةن فبعث عبد الملك بن مروان إلى عامله على مصر حسان بن النعمان الغساني وكان يقال له الشيخ الأمين يأمره أن يخرج إلى جهاد البربر وبعث إليه بالمدد فزحف إليهم سنة تسع وستين في أربعين ألف مقاتل. ولما دخل قيروان سأل ألافارقة عن أعظم ملوكهم فقالوا: صاحب قرطاجنة، وهي المدينة العظمى قرينة روما وضرتها، وإحدى عجائب الدنيا، وكان بها يومئذ من جموع الفرنج أمما تحصى فعمد إليها حسان وافتتحهاوقتل أكثر من بها ونجا جلهم في المراكب إلى صقيلية والأندلس. ولما انصرف حسان عنها دخلها أقوام من أهل الضواحي والبادية وتحصنوا بها، فرجع إليهم وقاتلهم أشد قتال وافتتحها عنوة وأمر بتخريبها وإعفاء رسمها وكسر قنواتها فذهبت كأمس الدابر ولم يبق بها الآن إلا آثار خفية تدل على ما كان بها من عجيب الصنعة وإحكام العم. وبأنقاضها عمرت مدينة تونس كما في القاموس. ثم بلغ حسان أن البربر قد عسكروا في جموع عظيمة من بلاد سطفورة وبنزرت فعمد إليهم وهزمهم، وشرد بهم من خلفهم، ورجع حسان إلى القيروان فأراح بها اياما فدلوه على الكاهنة داهيا وقومها جراوة وهم ولد اجراو بن الديديت، بن زانا، وزانا هو أبو زناتة، وكان لهذه الكاهنة بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم، وربوا في حجرها، فاستبدت عليهم واعتزت على قومها بهم وبما كان من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فاتت إليها رياستهم ووقفوا عند إشارتها. انهزام حسان بن النعمان قال هانئ بن مصدورالضريسي ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة. وعاشت مائة وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع وأصحابه في البسيط قبلة جبل أوراس باغرائها برابرة الزاب عليه وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما قتل كسيلة وانفضت جموع البربر، رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس. وقد انضم إليها بنو يفرن ومن كان بافريقية من قبائل زناتة وسائر البتر. فسار إليها حسان حتى نزل وادي مليانة، وزحفت هي إليه فاقتتلوا بالبسيط أمام جبلها قتالا شديدا، ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير، وأسر خالد بن يزيد القيسي في ثمانين رجلا من وجوه العرب. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حسان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس. ولحق حسان بعمل طرابلس فلقيه هناك كتاب عبد الملك بأمره بالمقام حيث يصله كتابه، فأقام ببرقة، وبنى قصوره المعروفة لهذا العهد بقصور حسان. نهاية الكاهنة بجبل أوراس ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها من الجبل، وأطلقت أسرى المسلمين، سوى خالد فانها اتخذت عنده عهدا بإرضاعه مع ولديها وصيرته أخا لهما. وأقامت في سلطان افريقية والبربر خمس سنين بعد هزيمة حسان، ونفت العرب عن بلاد المغرب، وقالت لقومها: إنما تطلب العرب من المغرب مدنه وما فيها من الذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعي، فالرأي أن نخرب هذه المدن والحصون، ونقطع أطماع العرب عنها. قال ابن خلدون: وكانت المدن والضياع من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة، فخربت الكاهنة ديار المغرب، وعضدت أشجاره، ومحت جماله، وجاست بالفساد خلاله، فشق ذلك على البربر، واستأمنوا إلى حسان، وكان عبد الملك قد بعث إليه بالمدد، فأمنهم وجدد السبيل إلى تفريق أمرها، ثم دس إلى خالد بن يزيد يستعمله أمرها، فاطلعه على كنه خبرها واستحثه، فزحف إلى المغرب سنة أربع وسبعين (74/693)، وبرزت إليه فأوقع بها وبجموعها، وقتلها واحتز رأسها. ثم اقتحم الجبل عنوة، واستلحم فيه زهاء مائة ألف من البربر، واستأمن إليه باقيهم على الإسلام والطاعة، وشرط عليهم حسان أن يكون معه منهم اثنا عشر ألفا لا يفارقونه في مواطن جهاده. فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم وعقد للأكبر من ولدي الكاهنة من قومه من براوة لي جبل أوراس، فقالوا قد لزمتنا الطاعة له وسبقنا إليها وبايعناه عليها. وكان ذلك بإشارة من الكاهنة لأثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها، وانصرف حسان إلى القيروان مؤيدا منصورا. وثبت ملكه، واستقام أمره فدون الدواوين، وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر. إنشاء مصنع الآلات البحرية بتونس ثم أوعز إليه الخليفة عبد الملك باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد، ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول من بني الأغلب على يد أسد ابن الفرات شيخ الفتيا وصاحب الإمام ابن القاسم بعد أن كان معاوية بن خديج أغزى صقلية أيام ولايته على المغرب فلم يفتح الله عليه، وفتحت على يد ابن الأطلب وقائده ابن الفرات كما قلنا. واستمر حسان واليا على المغرب إلى أن عزله عبد العزيز بن مروان صاحب مصر، وكان أمر المغرب إذ ذاك إليه. فاستخلف حسان على المغرب رجلا من جنده اسمه صالح، وارتحل إلى المشرق بما معه من ذريع المال، ورائع السبي، ونفيس الذخيرة. وذكر البكري أن حسان بن النعمان هذا هو فاتح تونس، وقال غيره بل فاتحها زهير بن قيس البلوي، ولم تتوفر الدواعي على تحقيق ذلك لأنها لم تكن يومئذ قاعدة ملك وإنما عظم أمرها في دولة الحفصيين فمن بعدهم، والله تعالى أعلم. (1) من علماء وحفاظ المالكية بإفريقية (324 403 ه).